الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بـهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.
لا يزال الحديث موصولًا عن أحكام ومسائل الحج.
وسأخصص الحديث هنا عن حديثٍ عظيم هو من أعظم الأحاديث في باب الحج: وهو حديث جابر بن عبدالله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما، وهذا الحديث حديثٌ عظيمٌ، عُنِـيَ فيه جابر بضبط حجة النبي عنايةً كبيرة.
ولهذا: فإن كثيرًا من المـحققين من أهل العلم عندما يقع الخلاف بين العلماء في مسائل الحج، يُرجِّحون الحكم الذي يدل له حديث جابر؛ لأن جابر عني بضبط حجة النبي عنايةً كبيرة.
صفة حجة النبي كما في حديث جابر
وقد اشتمل حديثه هذا على فوائد عظيمة؛ قال النووي رحمه الله: “حديث جابر حديثٌ عظيمٌ، مشتملٌ على جُـمَل من الفوائد، ونفائس من مهمات القواعد”.
وقد ساق الإمام مسلمٌ في صحيحه هذا الحديث بطوله: عن جابر قال: “إن رسول الله مكث تسع سنين لَـم يحج، ثم أذَّن في الناس في العاشرة: أن رسول الله حآجُّ، فقدم المدينة بشرٌ كثيرٌ، كلهم يلتمس أن يأتـمَّ برسول الله ، ويعمل مثل عمله، فخرجنا معه”؛ وقد قُدِّر عددهم قرابة مائة ألف.
قال جابر: “حتى أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عُمَيس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله : كيف أصنع؟ قال: اغتسلي واستثفِري بثوبٍ وأحرمي، فصلى رسول الله في المسجد، ثم ركب القصوى، حتى إذا استوت به ناقته على البيداء، نظرت إلى مدَّ بصري بين يديه من راكبٍ وماشٍ، وعن يـمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شيءٍ عملنا به.
فأهلَّ بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، وأهلَّ الناس بـهذا الذي يُهلُّون به، فلم يرد رسول عليهم شيئًا منه، ولزم رسول الله تلبيته”.
قال جابر : “لسنا ننوي إلا الحج، لسنا نعرف العمرة”؛ وذلك لأن الناس كانوا في الجاهلية يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور.
قال جابرٌ : “حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن، فرَمَلَ ثلاثًا، ومشى أربعًا، ثم نَفَذَ إلى مقام إبراهيم ، فقرأ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]، فجعل المقام بينه وبين البيت، فصلى النبي ركعتين، قرأ فيهما: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ و قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ثم رجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلـمَّا دنا من الصفا، قرأ: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158] أبدأ بـما بدأ الله به فبدأ بالصفا، فرقى عليه حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة، فوحَّد الله وكبَّـره، وقال: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده ثم دعا بين ذلك، قال مثل هذا ثلاث مرات.
ثم نزل إلى المروة، حتى إذا انصبَّت قدمَاه في بطن الوادي سعى، حتى إذا صعدتا مشى، حتى أتى المروة، ففعل على المروة كما فعل على الصفا، حتى إذا كان آخر طوافه على المروة قال: لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت، لَـم أسق الهدي، وجعلتها عُمْرة، فمن كان منكم ليس معه هديٌ فليُحِلَّ؛ وليجعلها عمرة.
فقام سُرَاقة بن مالك بن جُعْشُم، فقال: يا رسول الله، ألعامنا هذا أم لأبد؟ فشبَّك رسول الله أصابعه واحدةً في الأخرى، وقال: دخلت العمرة في الحج، دخلت العمرة في الحج، لا، بل لأبد الأبد.
وقَدِم عليٌّ من اليمن بِبُدْنٍ النبي ، فوجد فاطمة رضي الله عنها مـمن حلَّ، ولبست ثيابًا صبيغًا واكتحلت، فأنكر عليُّ ذلك عليها، فقالت: إن أبي أمرني بـهذا.
قال: فكان عليٌّ يقول بالعِرَاق: فذهبت إلى رسول الله مُـحرِّشًا على فاطمة للذي صنعت، مستفتيًا رسول الله فيما ذكَرَت عنه، فأخبرته أني أنكرْتُ ذلك عليها، فقال: صدقت، صدقت، ماذا قلت حين فرضت الحج؟ قال: قلت: اللهم إني أُهلُّ بـما أهلَّ به رسولك، قال: إن معي الهدي فلا تـحل.
قال: فكانت جماعة الهدي الذي قَدِم به عليٌّ من اليمن، والذي أتى به النبي مائة.
قال: فحلَّ الناس كلهم، وقصروا إلا النبي ومن كان معه هدي.
فلـمَّا كان يوم التروية توجَّهوا إلى مِنَـى، فأهلُّوا بالحج، وركب رسول الله فصلى بـها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلًا حتى طلعت الشمس، وأمرت بقبَّةٍ من شَعْرٍ تُضرَب له بـنَمِرَة، فسار رسول الله ، ولا تشك قريشٌ أنه واقفٌ عند المشعر الحرام -أي: مزدلفة- كما كانت قريشٌ تصنع في الجاهلية.
فأجاز رسول الله حتى أتى عَرَفَة، فوجد القُبَّة قد ضُرِبت له بنمرة، فنزل بـها، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصوى، فرُحِلَت له، فأتى بطن الوادي، فخطب الناس، وقال: إن دماءكم وأموالكم حرامٌ عليكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيءٍ من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوعٌ، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دمٍ أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مُستَرضَعًا في بني سعد، فقتلته هُذَيل، وربا الجاهلية موضوعٌ، وأول ربًا أضع ربانا، ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوعٌ كله، فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتـمُوهنَّ بأمان الله، واستحللتم فروجهنَّ بكلمة الله، ولكم عليهنَّ ألا يُوطِئنَ فُرشَكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربُوهنَّ ضربًا غير مُبرِّح، ولهنَّ عليكم رزقُهنَّ وكسوتُـهنَّ بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لَـم تضلوا بعده إن اعتصمتم به، كتاب الله، وأنتم تسألون عنِّـي، فما أنتم قائلون؟.
قالوا: نشهد أنك بلَّغت، وأديت ونصحت، قال بأصبعه السبَّابَة يرفعها إلى السماء، وينكتها إلى الناس: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد، ثلاث مرات.
ثم أذَّن ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولـم يصل بينهما شيئًا، ثم ركب رسول الله حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصَّخَرَات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة، فلم يزل واقفًا حتى غربت الشمس، وذهبت الصُّفْرَة قليلًا حتى غاب القرص.
وأردف أسامة خلفه، ودفع رسول الله وقد شنق للقصواء الزمام، حتى إن رأسها ليصيب مَوْرِك رَحْلِه، ويقول بيده اليمنى: أيها الناس، السكينة السكينة كلما أتى حبلًا من الحبال أرخى لها قليلًا حتى تصعد.
حتى أتى المزدلفة، فصلى بـها المغرب والعشاء بأذانٍ واحدٍ، وإقامتين، ولـم يُسبِّح بينهما شيئًا، ثم اضطجع رسول الله حتى طلع الفجر، وصلى الفجر حين تبيَّـن له الصبح بأذانٍ وإقامة، ثم ركب القصواء، حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعاه وكبَّـره وهلَّله ووحَّده، فلم يزل واقفًا حتى أسفر جدًا، فدفع قبل أن تطلع الشمس.
وأردف الفضل بن العباس، وكان رجلًا حسن الشعر أبيض وسيمًا، فلـمَّا دفع رسول الله مرت به ضُعْنٌ يَـجرِينَ فطَفِق الفضل ينظر إليهنَّ، فوضع رسول الله يده على وجه الفضل، فحوَّل الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر، فحَوَّل رسول الله يده من الشق الآخر على وجه الفضل، يصرف وجهه من الشق الآخر ينظر.
حتى أتى بطن مُـحسِّر، فحرَّك قليلًا، ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة، فرماها بسبع حصياتٍ يُكبِّـر مع كل حصاة -حصى الخذف- رمى من بطن الوادي.
ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثًا وستين بيده، ثم أعطى عليًّا فنحر ما غَبَر، وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بَدَنَةٍ ببَضْعَةٍ، فجُعِلت في قِدْرٍ -أي: أمر من كل بدنةٍ بقطعة منها- فجعلت في قدر فطبخت، فأكل من لحمها، وشرب من مرقها.
ثم ركب رسول الله ، فأفاض إلى البيت، فصلى بـمكة الظهر، فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم، فقال: انزعوا بني عبد المطلب، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم فناولوه دلوًا فشرب منه” [1].
أيها الإخوة، هذا هو حديث جابر في صفة حجة النبي .
وهذا هو ما اتسع له وقت هذه الحلقة، ونلتقي بكم على خيرٍ في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | رواه مسلم: 1218. |
---|