عناصر المادة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
معنى صلاة التطوع
وهي الصلاة التي تكون غير واجبة.
والتطوُّع بـمعناه العام: يطلق على فعل الطاعة مطلقًا، فيشمل حتى الواجب، قال الله تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158]، مع أن الطواف بـهما ركنٌ من أركان الحج والعمرة.
والتطوع بـمعناه الخاص في اصطلاح الفقهاء: كل طاعةٍ ليست بواجبة.
أفضل ما يتطوع به
قد اختلف العلماء في أفضل ما يُتطوَّع به:
- فذهب أبو حنيفة ومالكٌ إلى أنه طلب العلم الشرعي، وقد روي ذلك عن الإمام أحمد رحمهم الله تعالى جميعًا، وقد روي عنه أنه قال: “طلب العلم أفضل الأعمال لمن صحَّت نيَّته”.
- وذهب الشافعي إلى أن أفضل ما يُتطوَّع به الصلاة.
- والمشهور من مذهب الحنابلة أن أفضل ما يُتطوَّع به الجهاد في سبيل الله.
قال ابن القيم رحمه الله: “إن أفضل العبادة: العمل على مرضاة الربِّ في كل وقتٍ بـما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته، فأفضل العبادات في وقت الجهاد الجهاد، وإن آل ذلك إلى ترك الأوراد من صلاة الليل وصيام النهار، بل ومن ترك إتـمام صلاة الفرض كما في حالة الأمن، والأفضل في حضور الضيف مثلًا القيام بحقِّه، والاشتغال به عن الوِرْد المستحب، وكذلك في أداء حقِّ الزوجة والأهل، والأفضل في أوقات السحر؛ الاشتغال بالصلاة والقرآن، والدعاء، والذكر، والاستغفار، والأفضل في وقت استرشاد الطالب وتعليم الجاهل؛ الإقبال على تعليمه والاشتغال به، والأفضل في أوقات الأذان ترك ما هو فيه وِرْدِه، والاشتغال بإجابة المؤذِّن.
والأفضل في أوقات الصلوات الخمس؛ الجد والنصح في إيقاعها على أكمل الوجوه، والمبادرة إليها في أول الوقت، والخروج إلى المسجد، والأفضل في أوقات ضرورة المـحتاج إلى المساعدة بالجاه أو بالبدن أو المال، الاشتغال بـمساعدته، وإغاثة لهفته، وإيثار ذلك على أورادك وخلوتك، والأفضل في وقت قراءة القرآن؛ جمعيَّة القلب، والهمَّة على تدبُّره وتفهُّمه، حتى كأن الله تعالى يخاطبك به، فتُجْمِع قلبك على فهمه وتدبُّره، والعزم على تنفيذ أوامره، أعظم من جمعيَّة قلب من جاءه كتابٌ من السلطان على ذلك.
والأفضل في وقت الوقوف بعرفة؛ الاجتهاد في التضرُّع، والدعاء، والذكر، دون الصوم المضعف عن ذلك، والأفضل في أيام عشر ذي الحجة؛ الإكثار من التعبُّد، لا سيما التكبير والتحميد والتهليل، فهو أفضل من الجهاد غير المتعيِّـن.
والأفضل في العشر الأخير من رمضان؛ لزوم المسجد فيه، والخلوة، والاعتكاف، دون التصدي لمخالطة الناس والاشتغال بـهم، حتى إنه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلم، وإقرائهم القرآن عند كثيرٍ من العلماء.
والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته؛ عيادته وحضور جنازته وتشييعه، وتقديم ذلك على خلوتك وجمعيَّتك، والأفضل في وقت نزول النوازل، وأذاة الناس لك، أداء واجب الصبر مع خلطتك بـهم، دون الهرب منهم، فإن المؤمن الذي يخالط الناس ليصبر على أذاهم، أفضل من الذي لا يخالطهم ولا يؤذونه، والأفضل خلطتهم في الخير، فهي خيرٌ من اعتزالهم فيه، واعتزالهم في الشرِّ فهو أفضل من خلطتهم فيه، فإذا علم أنه إن خالطَهم، أزاله أو قلَّله، فحينئذٍ خلطتهم أفضل من اعتزالهم.
قال رحمه الله: فالأفضل في كل وقتٍ وحال، إيثار مرضاة الله تعالى في ذلك الوقت والحال، والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه”.
الحكمة من تشريع التطوع
وإن من حكمة الله ورحمته بعباده: أن شرع لكل فرضٍ تطوُّعًا من جنسه؛ ليزداد المؤمن إيـمانًا بفعل هذا التطوُّع؛ ولتكمل به الفرائض يوم القيامة، فإن الفرائض يعتريها النقص، فتكمل بـهذه التطوُّعات التي من جنسها، فالوضوء واجبٌ وتطوُّعٌ، والصلاة واجبٌ وتطوُّعٌ، والصدقة واجبٌ وتطوُّعٌ، والصيام واجبٌ وتطوع، والحج واجبٌ وتطوعٌ، وهكذا.
وإن الإكثار من التطوعات والنوافل بعد المـحافظة على الفرائض، من أسباب نيل محبة الله ، كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: وما تقرَّب إليَّ عبدي بأحبَّ مـمَّا افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبه [1].
الصلاة من أفضل الأعمال
وإن الصلاة من أفضل الأعمال وأحبها إلى الله تعالى، ففي الصحيحين عن ابن مسعودٍ قال: “سألت النبي : أي العمل أحب إلى الله تعالى؟ فقال: الصلاة على وقتها [2].
قال ابن القيم رحمه الله: “ولـمَّا كانت العبودية غاية كمال الإنسان، وقربه من الله تعالى بحسب نصيبه من عبوديَّته، وكانت الصلاة جامعةً لـمُتفَرَّق العبودية.. متضمِّنةً لأقسامها؛ كانت أفضل أعمال العبد”.
نماذج من حال السلف مع صلاة التطوع
وقد ذكر في ترجمة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: أنه كان يصلي في اليوم والليلة تطوُّعًا من غير الفريضة ثلاثـمائة ركعة، وقد نقل الذهبي في (السِّيَـر) عن عبدالله بن الإمام أحمد قال: “كان أبي يصلي في كل يومٍ وليلة ثلاثـمائة ركعة، فلـمَّا مرض من تلك الأسواط وأضعفته أيام محنته كان يصلي كل يومٍ وليلةٍ مائة وخمسين ركعة”.
وذكر في ترجمة الحافظ عبدالغني بن عبدالواحد المقدسي، صاحب (عمدة الأحكام): أنه كان يقتدي بالإمام أحمد في هذا، فيصلي في اليوم والليلة ثلاثـمائة ركعة.
ومن هنا ينبغي للمسلم أن يقتدي بـهؤلاء الأئمة، وأن يكثر من صلاة التطوُّع بعد المـحافظة على الفرائض، فإن التطوع يُـجبَـر به ما قد يكون من خللٍ في صلاة الفريضة، ولا أحد يستطيع أن يضمن أنه أتى بالصلوات المفروضة، كما أمر الله ، ومن رحمة الله بعباده أن شرع لهم التطوع ليسد به الخلل والنقص الذي قد يقع في الفريضة.
والصلاة هي أول ما يحاسب عليه العبد من عمله يوم القيامة، كما جاء في الحديث الصحيح، الذي أخرجه أحمد والطبراني عن أنسٍ : أن رسول الله قال: أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت، صلح له سائر عمله، وإن فسدت، فسد سائر عمله [3]، والمـحاسبة إنـما تقع على الفرائض، فإن كان فيها نقصٌ أو خللٌ، فيُنظَر إلى ما للعبد من نوافل، فيُكمَّل بـها.
ثم إن المسلم بصلاة التطوُّع يكسب أجرًا وثوابًا عند الله ؛ ولذلك قال الله تعالى في الحديث القدسي: وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته؛ كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بـها، ورجله التي يـمشي بـها، ولئن سألني لأعطيَنَّه، ولئن استعاذ بي لأعِيذَنَّه [4]، أخرجه البخاري في صحيحه.
أنواع التطوع
وصلاة التطوع بابـها واسعٌ، ومن أوسعها التطوع المطلق، فللمسلم أن يصلي ما شاء من الليل مثنى مثنى، أي: ركعتين ركعتين، وله أن يصلي من النهار مثنى مثنى، ما عدا الأوقات التي قد ورد النهي عن الصلاة فيها، والتي سيأتي الحديث عنها بالتفصيل إن شاء الله.
وأما التطوع المقيَّد فهو أنواع:
منها ما يشرع له الجماعة، ومنها ما لا يشرع له الجماعة، ومنها ما هو تابعٌ للفرائض، ومنها ما ليس بتابعٍ، ومنها ما هو مؤقَّت، ومنها ما ليس بـمؤقَّت، ومنها ما هو مقيَّدٌ بسببٍ، ومنها ما ليس مقيَّدًا بسبب، وكلها يطلق عليها صلاة تطوُّع، وسيأتي الحديث عن كلٍ من هذه الأنواع إن شاء الله تعالى.
أيها الإخوة، نكتفي بـهذا القدر في هذه الحلقة، ونلتقي بكم على خيرٍ في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.