عناصر المادة
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
لا يزال الحديث موصولًا عن أنواع صلاة التطوع؛ وحديثنا هنا عن السنن الرواتب.
المقصود بالرواتب وأهميتها
والمقصود بالرواتب: الدائمة المستمرة، وهي تابعةٌ للفرائض، وقد كان النبي يحافظ عليها في الحضر دائمًا، وهذه السنن الرواتب تُرقِّع الخلل الذي قد يقع في الصلاة المفروضة، مع ما فيها من ثوابٍ وأجر.
وقد جاء في حديث أبي هريرة قال: “سمعت رسول الله يقول: إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، فإن انتقص من فريضةٍ شيئًا، قال الربُّ تبارك وتعالى: انظروا هل لعبدي من تطوُّع، فيُكمَّل بـها ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر عمله كذلك [1]، أخرجه الترمذي وأبو داود وابن ماجه، بسندٍ صحيحٍ.
عدد السنن الرواتب
وقد أخرج مسلمٌ في صحيحه من طريق النعمان بن سالـم، عن عمرو بن أوس، قال: حدثني عنبسة بن أبي سفيان، قال: سمعت أمَّ حبيبة رضي الله عنها تقول: سمعت رسول الله يقول: من صلى اثنتي عشرة ركعةٍ في يومٍ وليلة، بُنِـي له بـهنَّ بيتٌ في الجنة قالت أم حبيبة: “فما تركتهنَّ منذ سمعتهنَّ من رسول الله “، وقال عنبسة: “فما تركتهنَّ منذ سمعتهنَّ من أم حبيبة”، وقال عمرو بن أوس: “فما تركتهنَّ منذ سمعتهنَّ من عنبسة”، وقال النعمان بن سالـم: “فما تركتهنَّ منذ سمعتهنَّ من عمرو بن أوس” [2].
وأنت أخي الكريم أرجو ألَّا تتركهنَّ منذ سمعت هذا الحديث.
وهذه الركعات الاثنتا عشرة هي السنن الرواتب، وقد جاء مصرَّحًا بذلك في رواية الترمذي: فقد أخرج في جامعه من طريق عنبسة بن أبي سفيان، عن أم حبيبة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : من صلى في يومٍ وليلةٍ ثنتي عشرة ركعةٍ، بُنِـي له بيتٌ في الجنة: أربعٌ قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر صلاة الغداة [3]، قال أبو عيسى الترمذي: “حديث عنبسة عن أم حبيبة في هذا الباب حديثٌ حسنٌ صحيح”.
والقول بأن السنن الرواتب اثنتا عشرة، أربعٌ قبل الظهر وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر، هذا هو مذهب الحنفية، وهو قول طائفةٍ من أهل العلم.
وقد استندوا إلى حديث أم حبيبة رضي الله عنها السابق، وإلى حديث عائشة رضي الله عنها: “أن النبي كان لا يدع أربعًا قبل الظهر” [4]، أخرجه البخاري في صحيحه.
وذهب بعض العلماء إلى أن السنن الرواتب عشر:
ركعتان قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة.
وقد استندوا في ذلك: إلى ما جاء في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: “حفظتُ من النبي عشر ركعاتٍ: ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل صلاة الصبح” [5].
والخلاف بين القولين راجعٌ للخلاف في السنة القبلية للظهر: هل هي ركعتان أم أربع؟
وقد صح عن النبي أنه صلى قبل الظهر ركعتين، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وصحَّ عنه أنه صلى قبل الظهر أربعًا، كما في حديث عائشة رضي الله عنها، ومن هنا فقد اختلف العلماء في الجمع بين هذين الحديثين.
قال ابن القيم رحمه الله في الجمع بينهما: “إما أن يقال: إنه كان إذا صلى في بيته صلى أربعًا، وإذا صلى في المسجد صلى ركعتين، وهذا أظهر، وإما أن يقال: كان يفعل هذا ويفعل هذا، فحكى كلٌ من عائشة وابن عمر ما شاهده، والحديثان صحيحان لا مطعن في واحدٍ منهما”.
وقد نقل الحافظ ابن حجر رحمه الله وجوهًا للجمع عن بعض العلماء، وقال: “والأولى أن يحمل على حالين: فكان تارةً يصلي ثنتين، وتارةً يصلي أربعًا، ثم نقل عن أبي جعفر الطبري أنه قال: الأربع كانت في كثيرٍ من أحواله، والركعتان في قليلها”.
والأقرب -والله تعالى أعلم- أن السنن الرواتب اثنتا عشرة ركعة؛ لأن أكثر الأحاديث على هذا؛ ولأنـها قد وردت من قول النبي ، كما في حديث أم حبيبة، وابن عمر رضي الله عنهما إنـما وصف ما شاهده، ويحتمل أن النبي صلى في بيته ركعتين، ثم خرج للمسجد فصلى ركعتين، كما جاء ذلك في بعض الروايات، ويحتمل غير ذلك، ومن المقرر عند أهل العلم أن القول أصرح في الدلالة من الفعل، والله تعالى أعلم.
وقت السنن الرواتب
وأما وقت هذه السنن: فكل سنةٍ قبل صلاة الفريضة، فوقتها من دخول وقت تلك الفريضة إلى فعلها، وكل سنةٍ بعد صلاة الفريضة، فوقتها من بعد الفراغ من تلك الفريضة، إلى خروج وقتها.
والسنة: أن تُصلَّى السنن الرواتب في البيت، بل جميع التطوعات التي لا سبب لها؛ لقول النبي : أيها الناس، صلوا في بيوتكم، فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة [6]، متفقٌ عليه.
ولقوله عليه الصلاة والسلام: اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم، ولا تتخذوها قبورًا [7]، متفقٌ على صحته.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “كان هدي النبي فعل السنن والتطوع في البيت إلا لعارض، كما أن هديه كان فعل الفرائض في المسجد إلا لعارضٍ، من سفرٍ أو مرضٍ، أو غيره مـمَّا يـمنعه من المسجد”.
ويتأكد من السنن الرواتب أن تفعل في البيت سنة المغرب؛ فإنه لَـم يُنقل عن النبي قط أنه صلاها في المسجد.
قال الإمام أحمد رحمه الله: “ليس ها هنا شيءٌ آكد من الركعتين بعد المغرب -يعني: فعلهما في البيت- قيل له: فإن كان منزل الرجل بعيدًا، قال: لا أدري”.
قال ابن القيم رحمه الله: “كان يصلي عامَّة السنن والتطوُّع الذي لا سبب له في بيته، لا سيما سنة المغرب، فإنه لَـم يُنقل عنه أنه فعلها في المسجد البتَّة”.
وقال الإمام أحمد في رواية حنبل: “السنة أن يصلي الركعتين بعد المغرب في بيته، كذا روي عن النبي وأصحابه”.
قال السائب بن يزيد: “لقد رأيت الناس في زمن عمر بن الخطاب ، إذا انصرفوا من المغرب، انصرفوا جميعًا، حتى لا يبقى في المسجد أحد” يريد: أنَّـهم لا يصلون بعد المغرب حتى يصيروا إلى أهليهم.
آكد السنن الرواتب
وآكد السنن الرواتب: ركعتا الفجر.
وقد كان النبي يتعاهدهما ويحافظ عليهما، ولَـم يكن يدعهما حتى في حال السفر.
تقول عائشة رضي الله عنها: “لَـم يكن النبي على شيءٍ أشدَّ معاهدةً منه على ركعتين قبل الصبح” [8]، أخرجه البخاري ومسلم.
وفي (صحيح مسلمٍ) عنها رضي الله عنها: أن النبي قال: ركعتا الفجر خيرٌ من الدنيا وما فيها [9].
بم تختص ركعتي الفجر؟
وتختص هاتان الركعتان بأمورٍ منها:
- أولًا: آكديَّتهما، وعظيم ثوابـهما، وأنـهما خيرٌ من الدنيا وما فيها.
- ثانيًا: مشروعيَّتهما في الحضر والسفر.
- ثالثًا: أنه يُسنُّ تخفيفهما، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: “كان النبي يُخفِّف الركعتين اللتين قبل صلاة الصبح، حتى إني لأقول: هل قرأ فيهما بأم الكتاب؟” [10].
- رابعًا: أن السنة أن يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة بسورة: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وفي الثانية بعد الفاتحة بسورة: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، أو يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة بالآية من سورة البقرة: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:136]، وفي الركعة الثانية بالآية من سورة آل عمران: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64].
أيها الإخوة، نكتفي بـهذا القدر في هذه الحلقة، ونستكمل الحديث عن المسائل المتعلقة بالسنن الرواتب في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | رواه أبو داود: 864، والترمذي: 413، والنسائي: 465، وأحمد: 9494، وقال الترمذي: حديث حسن غريب. |
---|---|
^2 | رواه مسلم: 728. |
^3 | رواه الترمذي: 415. |
^4 | رواه البخاري: 1182. |
^5 | رواه البخاري: 180. |
^6 | رواه البخاري: 731، ومسلم: 781. |
^7 | رواه البخاري: 432، ومسلم: 777. |
^8 | رواه البخاري: 1169، ومسلم: 724. |
^9 | رواه مسلم: 725. |
^10 | رواه البخاري: 1171، ومسلم: 724. |