عناصر المادة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
آكد أنواع صلاة التطوع
من آكد أنواع صلاة التطوع: صلاة الوتر؛ وهي سنةٌ مؤكدةٌ جدًّا، وقد كان النبي يحافظ عليها محافظةً شديدةً، ولا يدعها لا سفرًا ولا حضرًا.
وقد أخرج أبو داود والترمذي وابن ماجه: أن النبي قال: إن الله أمدَّكم بصلاةٍ هي خيرٌ لكم من حُمر النعم، فصلوها ما بين صلاة العشاء إلى أن يطلع الفجر [1].
حكم صلاة الوتر
- ذهب بعض الفقهاء إلى وجوب صلاة الوتر، كما هو المأثور عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
- وجمهور الفقهاء على أنَّـها مستحبة، لكن متأكدة الاستحباب، وهذا هو الأقرب، والله أعلم.
وقد ساق الموفق ابن قدامة رحمه الله الخلاف بين العلماء في المفاضلة بين صلاة الوتر وركعتي الفجر، ثم اختار القول بأن الوتر آكد؛ لأنه مُختلفٌ في وجوبه، وفيه من الأخبار ما لَـم يأت مثله في ركعتي الفجر، قال: “لكن ركعة الفجر تليه في التأكيد”.
وقد اشتهر عن الإمام أحمد رحمه الله قوله: “من ترك الوتر عمدًا فهو رجل سوء، ولا ينبغي أن تُقبَل له شهادة” وهذه المقولة إن صحَّت عنه، فالمراد بـها المبالغة في تأكُّد صلاة الوتر، وإلا فهو لا يرى وجوبـها؛ ولهذا قال الموفق ابن قدامة رحمه الله، بعد أن ساق مقولة الإمام أحمد هذه، قال: “أراد بذلك المبالغة في تأكده، ولـم يرد الوجوب، فإنه قد صرَّح في رواية حنبل، فقال: “الوتر ليس بـمنزلة الفرض، فإن شاء قضى الوتر، وإن شاء لَـم يقضه”.
وقت صلاة الوتر
ووقت الوتر: هو ما بين صلاة العشاء والفجر.
وسواءٌ صلى صلاة العشاء في وقتها، أو صلاها مجموعةً مع المغرب جمع تقديم، فلو أن رجلًا جمع العشاء مع المغرب جمع تقديم، إما لسفرٍ أو مرضٍ، أو غير ذلك من الأسباب التي يجوز معها الجمع، فله أن يصلي بعدها صلاة الوتر، والأفضل في الوتر فعله في آخر الليل.
لِمَا جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: “من كل الليل أوتر رسول الله ، فانتهى وتره إلى السَّحَر”.
وفي (صحيح مسلمٍ) عن أبي هريرة : أن النبي قال: من خاف ألا يقوم من آخر الليل، فليوتر من أوله، ومن طمع أن يقوم آخره، فليوتر آخر الليل، فإن صلاة آخر الليل مشهودةٌ، وذلك أفضل [2].
وآخر الليل هو وقت النزول الإلهي إلى السماء الدنيا؛ نزولًا يليق بجلال الربِّ وعظمته.
ففي (صحيح مسلمٍ) عن أبي هريرة : أن رسول الله قال: ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلةٍ إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له، فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر [3].
ثم إن آخر الليل هو أرجى ساعات الليل موافقةً لساعة الإجابة، التي يقول عنها النبي : إن في الليل لساعةً لا يوافقها عبدٌ مسلم يسأل الله خيرًا من أمر الدنيا والآخرة، إلا أعطاه إياه، وذلك كل ليلةٍ [4]، وأرجى ساعات الليل موافقةً لهذه الساعة هي آخر ساعةٍ من الليل.
إن قيام الليل هو سنة سيد المرسلين ، فقد كان عليه الصلاة والسلام يقوم من الليل حتى تتفطَّر قدماه، وإن قيام الليل هو دأب الصالحين من قبلنا، وهو أمانٌ من النفاق، فإنه كما قال بعض السلف: ما قام الليل منافق؛ ولهذا أرشد الله تعالى إليه في قوله سبحانه: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل:6].
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية: “المقصود أن قيام الليل هو أشد مواطأة بين القلب واللسان، وأجمع على التلاوة؛ ولهذا قال: هي أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا أي: أجمع للخاطر في أداء القراءة وتفهُّمها من قيام النهار؛ لأنه وقت انتشار الناس، ولغط الأصوات، وأوقات المعاش.
وفي (صحيح البخاري) عن أبي هريرة : أن رسول الله قال: يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عُقد، يضرب مكان كل عقدةٍ، عليك ليلٌ طويلٌ فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلَّت عقدة، فإن توضأ انحلَّت عقدة، فإن صلى انحلَّت عقدة، فأصبح نشيطًا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان [5].
قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله في معنى هذا الحديث: “هذا كما قال ، والله أعلم كيف يعقد الشيطان عقده على رأس ابن آدم، وقيل: إنـها كعُقد السحر، من قول الله تعالى: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ [الفلق:4] وهذا لا يقف على حقيقته أحدٌ، والقافية: مؤخِّرة الرأس”.
ثم قال: “والمعنى عندي -والله أعلم- في هذا الحديث: أن الشيطان يُنوِّم المرء، ويزيده ثِقَلًا وكسلًا بسعيه، وما أُعطِي من الوسوسة، والقدرة على الإغواء والتضليل، وتزيين الباطل، والعون عليه، إلا عباد الله المخلصين.
قال: وفي هذا الحديث دليلٌ على أن ذكر الله يُطرد به الشيطان، وكذلك الوضوء والصلاة”.
وإن لـم يتيسَّر للإنسان قيام الليل، والوتر من آخر الليل، فلا أقل من أن يوتر قبل أن ينام، وبـهذا أوصى النبي بعض أصحابه، كأبي هريرة .
ففي (صحيح مسلمٍ) عن أبي هريرة قال: “أوصاني خليلي رسول الله بثلاث: بصيام ثلاثة أيامٍ من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أرقد” [6].
وإنـما أوصاه النبي بذلك، مع أن الوتر آخر الليل أفضل؛ لأن أبا هريرة كان يتعاهد ما حفظه من الأحاديث عن رسول الله ، وربَّـما سهر لأجل ذلك، فيشق عليه القيام من آخر الليل، وهكذا نقول فيمن كان لا يثق من قيامه آخر الليل، فإنه يوتر قبل أن ينام.
فإن لـم يتيسر للمسلم أن يوتر قبل أن ينام، فلا أقل من أن يوتر بعد صلاة العشاء، ولو بركعةٍ واحدة، فإن أقل الوتر ركعة.
ما يفعل من فاتته صلاة الوتر؟
والحاصل: أنه ينبغي للمسلم أن يحرص على هذه السنة المؤكَّدة، وألا يدعها مطلقًا، وإذا فاتته صلاة الوتر فلم يأت بـها لسببٍ من الأسباب، إما لمرضٍ، أو غلبة نومٍ، أو لغير ذلك من الأسباب، فالسنة أن يقضيه في النهار شفعًا.
ويدل لذلك: ما جاء في (صحيح مسلمٍ) عن عائشة رضي الله عنها: “أن رسول الله كان إذا فاتته الصلاة من الليل من وجعٍ أو غيره، صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة” [7].
وإنـما كان يقضيه ثنتي عشرة ركعة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة في غالب أحيانه، فإذا فاتته لمرضٍ أو غيره؛ قضاها من النهار شفعًا، فيقضيها ثنتي عشرة ركعة، وهكذا نقول فيمن كان من عادته أن يوتر بتسع، فإذا فاته فإنه يقضيه من النهار عشرة ركعات، ومن كان من عادته أن يوتر بسبعٍ -مثلًا- فإذا فاته؛ فإنه يقضيه من النهار ثـمان ركعات، وهكذا.
كيف يصلي من أوتر أول الليل ثم قام آخره؟
ومن أوتر من أول الليل، ثم يسر الله تعالى له القيام من آخر الليل؛ فإنه يصلي مثنى مثنى، ركعتين ركعتين، ولا ينقض وتره، فلو أن رجلًا خشي ألا يقوم من آخر الليل، فأوتر قبل أن ينام، ثم يسَّر الله تعالى له وقام من آخر الليل، فإنه يصلي مثنى مثنى ولا يوتر.
لقول النبي : لا وتران في ليلة [8].
وإذا قام من آخر الليل فإنه لا يتحرَّج في أن يصلي مثنى مثنى، ولو كان قد أوتر قبل أن ينام.
ويدل لذلك: ما جاء في (صحيح مسلمٍ) عن عائشة رضي الله عنها: “أن النبي كان يصلي ركعتين بعدما يُسلِّم -أي: من الوتر- وهو قاعد” [9].
قال النووي رحمه الله: “الصواب أن هاتين الركعتين فعلهما بعد الوتر جالسًا؛ لبيان جواز الصلاة بعد الوتر، ولبيان جواز النفل جالسًا، ولـم يواظب على ذلك، بل فعله مرةً، أو مرتين، أو مراتٍ قليلةٍ”.
وإلى الملتقى في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.