عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بـهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين:
كنا قد تكلمنا سابقًا عن جملةٍ من الأحكام المتعلقة بشرط: اجتناب النجاسات، ونستكمل الحديث عن بقية المسائل المتعلقة بـهذا الشرط.
وسيكون حديثنا عن المواضع المنهي عن الصلاة فيها: عن حكم الصلاة في المقبرة، والحمَّام، والمرحاض، ومعاطن الإبل، وأما بقية المواضع فسنتكلم عنها لاحقًا إن شاء الله تعالى.
حكم الصلاة في المقبرة والحمام
قد جاء في حديث أبي سعيد الخدري : أن النبي قال: الأرض كلها مسجدٌ إلا المقبرة والحمام [1]، أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد وابن خزيـمة والحاكم، وجوَّد إسناده شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله تعالى على الجميع.
ففي هذا الحديث دلالة على أن الصلاة لا تصح في المقبرة والحمَّام.
العلة في النهي عن الصلاة في المقبرة
أما المقبرة: فلأن الصلاة فيها قد تُتخَذ ذريعةً إلى عبادة القبور، أو التشبُّه بـمن يعبد القبور؛ ولهذا: لـمَّا كان الكفار يسجدون للشمس عند طلوعها وغروبـها؛ نـهى النبي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبـها، بل نـهى عن الصلاة من بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، ومن بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس؛ لئلا تُتَخذَ ذريعةً إلى أن تُعبَد الشمس من دون الله تعالى، أو إلى أن يُتَشبَّه بالكفار.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “من الفقهاء من اعتقد أن سبب كراهة الصلاة في المقبرة، ليس إلا كونـها مظنَّةً للنجاسة؛ لِمَا يختلط بالتراب من صديد الموتى، وبنى على هذا الاعتقاد الفرق بين المقبرة الجديدة والعتيقة، وبين أن يكون بينه وبين التراب حائلٌ أو لا يكون، لكن المقصود الأكبر ليس هو هذا!؛ فإنه قد بيَّـن أن اليهود والنصارى كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا، وقال: لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يُـحذِّر ما فعلوا [2]، وقال: اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبَد، اشتدَّ غضب الله على قومٍ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد [3]، وهذا كله يُبيِّـن أن السبب ليس مظنَّة النجاسة، وإنـما مظنَّة اتخاذهم أوثانًا”.
والحاصل: أن العلَّة في النهي عن الصلاة في المقبرة ليس خشية النجاسة، وإنـما هي خشية تعظيمها، واتخاذ القبور أوثانًا، فالعلة هي سَدُّ الذريعة عن عبادة المقبورين.
حكم صلاة الجنازة في المقبرة
ويُستثنى من ذلك: صلاة الجنازة، فيجوز فعلها في المقبرة؛ لفعل النبي .
ففي الصحيحين عن أبي هريرة : “في قصة المرأة التي كانت تَقُم المسجد، فسأل عنها النبي ، فقالوا: ماتت، فقال: أفلا كنتم آذنتموني -أي: أعلمتموني-، فكأنـهم صغَّروا أمرها، فقال : دلوني على قبرها فدلوه فصلى عليها” [4].
فدل هذا على استثناء صلاة الجنازة، فيجوز أن تصلى في المقبرة، وما عداها فلا يجوز أن تكون في المقبرة، سواءٌ كانت صلاة فريضة أو نافلة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في المسجد المبنِـيِّ على قبْـرٍ: “لا يُصلَّى فيه فرضٌ ولا نفل، فإن كان المسجد قبل القبر غُيِّـر، إما بتسوية القبر، أو نبشه إن كان جديدًا، وإن كان القبر قبل المسجد، فإما أن يُزَال المسجد، وإما أن تُزَال صورة القبر”.
المراد بالحمَّام المنهي عن الصلاة فيه
وأما الحمَّام: المستثنـى مع المقبرة في حديث أبي سعيد: الأرض كلها مسجدٌ، إلا المقبرة والحمَّام [5]، فليس المراد به الحمام المعروف عند الناس اليوم بدورة المياه، فإن هذا يسمى: مرحاضًا أو حُشَّا، وسيأتي الكلام عليه.
وإنـما المراد بالحمام في هذا الحديث: الـمُغتَسَل المعد للناس، وقد كان الناس قديـمًا يجعلون مُغتَسلاتٍ، يأتي إليها الناس، ويغتسلون فيها، ويحصل فيها كشفٌ للعورات، واختلاطٌ بين الرجال والنساء، فهذه الحمامات بـهذا الوصف قد دلَّ هذا الحديث على أنه لا تصح الصلاة فيها.
وإذا كانت الصلاة لا تصح في هذه الحمَّامات، فلا تصح من باب أولى في الحشوش والمراحيض المعدَّة لقضاء الحاجة، وهي ما يسميها الناس اليوم: بدورات المياه؛ لأنـها أماكن نجسةٌ خبيثة؛ ولأنـها مأوى الشياطين.
حكم الصلاة في أعطان الإبل
ومن المواضع المنهي عن الصلاة فيها: أعطان الإبل.
والمراد بـها: ما تُقيم فيها الإبل، وتأوي إليها، سواءٌ كانت مبنِيَّةً بجدرانٍ، أو مُـحوَّطَةً بأشجارٍ، أو بقوسٍ ونحو ذلك.
وقد جاء في (صحيح مسلم) عن جابر بن سَـمرة : “أن رجلًا سأل النبي : أُصلِّي في مرابض الغنم؟ قال: نعم قال: أُصلِّي في مبارك الإبل؟ قال: لا [6].
وعن أبي هريرة : أن رسول الله قال: صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل [7].
علة النهي عن الصلاة في معاطن الإبل
وليست علَّة النهي عن الصلاة في معاطن الإبل نجاستها، فإن بول وروث الإبل طاهر، بل بول وروث جميع ما يؤكل لحمه طاهر، كما دل لذلك أحاديث كثيرة:
ومنها: ما جاء في الصحيحين في قصة العُرَنيِّين الذين قدموا المدينة، فاشتكوا، فأمرهم النبي أن يلحقوا بإبل الصدقة، فيشربوا من ألبانـها، وأبوالها، فلو كانت أبوالها نجسةً؛ لَمَا أمرهم النبي بالشرب منها.
ثم إن النبي قد أذن بالصلاة في مرابض الغنم، ولو كانت نجسةً؛ لَمَا أذن بالصلاة فيها.
وفي الصحيحين من حديث عبدالله بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: “طاف النبي في حجة الوداع على بعيرٍ يستلم الركن بـمِحْجن” [8]، فإدخال البعير للمسجد، والطواف عليه، دليلٌ على طهارة بوله، حيث لا يُؤمَن بول البعير في أثناء الطواف، ولو كان نجسًا لَـم يُعرِّض النبي المسجد للنجاسة.
فهذه النصوص وما جاء في معناها تدل على أن بول وروث ما يؤكل لحمه طاهرٌ، وليس بنجس، ومن ذلك الإبل.
وحينئذٍ نقول: إن نـهي النبي عن الصلاة في معاطن الإبل ليس لأجل نجاستها، وإنـما لعلةٍ أخرى غير النجاسة، وقد جاءت الإشارة إلى هذه العلة في حديث عبدالله بن مُغفَّل قال: قال رسول الله : صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل، فإنـها خُلقت من الشياطين [9]، أخرجه أحمد وابن ماجه وابن حبان وابن أبي شيبة والبيهقي، بسندٍ صحيحٍ.
قال ابن حبان رحمه الله: “وقول النبي : فإنـها خُلِقت من الشياطين يكون المعنى: أن معها الشياطين، كما قال لمن يصلي وأراد أحدٌ أن يـمر بين يديه: فليدرَأْه ما استطاع، فإن أبى فليُقاتله، فإنه شيطان [10]، وفي الرواية الأخرى: فليقاتله، فإن معه القرين [11].
وقيل: المعنى: أن من طبعها الشيْطَنَة، وليس معناه: أن مادة خلقها الشيطنة، فهو كقول الله تعالى: خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ [الأنبياء:37] أي: طبعه هكذا، فهكذا نقول في الإبل: طبعها الشيطنة، فهي لا تكاد تـهدأ أو تقرُّ في العطن بل تثور، فربـما قطعت على المصلي صلاته، وشوَّشَت عليه خشوعه، وربَّـما ثارت عليه فأحدثت به ضررًا؛ ولهذا: لـمَّا أُمِنَ شرُّها للراكب عليها؛ جاز له أن يصلي عليها، وقد كان النبي يصلي النافلة في السفر على بعيره.
الخلاصة
وبكل حال: فإن النهي عن الصلاة في معاطن الإبل ليس لأجل نجاسة بولها وروثها، وإنـما هي لعلة أخرى، يحتمل أنَّـها ما ذكرنا، ويحتمل أنَّـها علة أخرى غير ما ذُكِر، والله تعالى أعلم.
أيها الإخوة، نكتفي بـهذا القدر في هذه الحلقة، ونستكمل الحديث عن بقية المواضع المنهي عن الصلاة فيها في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | رواه أبو داود: 492، والترمذي: 317، وابن ماجه: 745، وأحمد: 11788، وابن حبان: 2321، وأبو يعلى: 1350، والحاكم: 919، وابن خزيمة: 791. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 435، ومسلم: 531. |
^3 | رواه أحمد: 7358، بنحوه. |
^4 | رواه البخاري: 460، ومسلم: 956. |
^5 | سبق تخريجه. |
^6 | رواه مسلم: 360. |
^7 | رواه الترمذي: 348، وابن ماجه: 769، وأحمد: 16799، وقال: حديث حسن صحيح. |
^8 | رواه البخاري: 1607، ومسلم: 1272. |
^9 | رواه ابن ماجه: 769، وأحمد: 16799، وابن حبان: 1702، وابن أبي شيبة: 3897، والبيهقي في الكبرى: 4153. |
^10 | رواه مسلم: 505. |
^11 | رواه مسلم: 506. |