عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بـهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.
سبق الحديث في حلقات سابقة عن أهمية الصلاة، وعظيم منزلتها في دين الإسلام، وأنـها لا تسقط عن المكلف ما دام عقله معه، إلا في حال الحيض والنفاس، فإن الصلاة تسقط عن المرأة في هذه الحال، وما عدا هذه الحال فإنه يجب على المكلف أن يؤدي الصلاة في وقتها على حسب استطاعته، قال الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].
كيفية صلاة المريض
وبناءً على ذلك: فإن المريض يجب عليه أن يؤدي الصلاة في وقتها على حسب الاستطاعة، فيصلي قائمًا إن استطاع، فإن لَـم يستطع صلى قاعدًا، فإن لَـم يستطع صلى على جنبه، ولو أن يصلي بقلبه، فالمريض ما دام عقله معه يجب عليه أن يؤدي الصلاة على الحال التي يستطيع فيها، مهما اشتد به المرض.
ولكن إذا كان يلحقه الحرج بترك الجمع، فله أن يجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، إما جمع تقديمٍ أو جمع تأخير، يختار ما هو الأرفق به، ويكون الجمع هنا من غير قصر.
وبعض الإخوة المرضى -هداهم الله- يتركون الصلاة حال مرضهم، إما جهلًا واعتقادًا منهم أن المريض له تأخير الصلاة حتى يبرأ، وإما تـهاونًا، وهذا خطأٌ كبير، فإن الواجب على المريض أن يؤدي الصلاة في وقتها، مهما كان مرضه على حسب استطاعته.
قضاء صلاة المُغْمَى عليه
وأما إذا غُطِّي عقله بإغماءٍ ونحوه:
فإن كان ذلك باختياره، كالذي غُطِّي عقله ببَنْجٍ ونحوه لإجراء عمليةٍ جراحية مثلًا، فيلزمه قضاء الصلاة، أو الصلوات التي مرت عليه حال الغيبوبة.
وأما إذا كان الإغماء بغير اختياره، كمن وقع عليه حادثٌ في الطريق، فأُغمي عليه، فهل يجب عليه قضاء الصلوات التي تركها حال الغيبوبة؟
اختلف الفقهاء في ذلك:
- فمنهم من ذهب إلى أن عليه القضاء مطلقًا، ولو طالت مدة الإغماء، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، وهو من مفردات المذهب، واستدلوا: “بأن عمار بن ياسر أغمي عليه يومٌ وليلةً فقضاهنَّ” [1]، رواه البيهقي وابن أبي شيبة، وقياسًا على النائم: فإن النائم مأمورٌ بقضاء الصلوات التي تركها حال نومه، فكذا المغمى عليه إذا أفاق.
- وذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية إلى أنه لا قضاء عليه، واستدلوا بـما روي: “أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أغمي عليه ثلاثة أيامٍ ولياليهنَّ فلم يقض” [2]، رواه البيهقي والدارقطني.
- وعند الحنفية: أنه إن أغمي عليه يومٌ وليلة قضى خمس صلوات، وإن زاد وقت صلاةٍ سادسة فلا قضاء عليه.
- وذهب بعض الفقهاء إلى أن الإغماء إن كان يسيرًا في حدود ثلاثة أيامٍ فأقل، فعليه القضاء إذا أفاق، قياسًا على النائم، أما إن كان الإغماء كثيرًا، أي: أكثر من ثلاثة أيامٍ، فلا قضاء عليه، قياسًا على المـجنون.
أيها الإخوة: هذه هي أقوال العلماء في هذه المسألة، والمسألة ليس فيها نصٌ ظاهر، والآثار عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم قد اختلفت، فمنهم من روي عنه القضاء، ومنهم من روي عنه عدم القضاء، وحينئذٍ لا تكون حجةً عند الاختلاف، وبقي النظر في القياس: فهل يقاس المغمى عليه على المـجنون، فلا يؤمر بالقضاء، أو يقاس على النائم فيقضي مطلقًا؟
الواقع أن المغمى عليه يشبه النائم من وجه، ويشبه المـجنون من وجهٍ آخر؛ ولهذا فإن أقرب الأقوال في هذه المسألة -والله تعالى أعلم- هو القول الأخير، وهو: أنه إذا كان الإغماء يسيرًا في حدود ثلاثة أيامٍ فأقل، فيلزم المغمى عليه القضاء إذا أفاق قياسًا على النائم، وأما إذا كان الإغماء كثيرًا، أي: أكثر من ثلاثة أيام، فلا يلزمه القضاء، قياسًا على المـجنون، وهذا القول هو اختيار شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى.
وإنـما جعلنا الثلاثة أيامٍ حدًا بين اليسير والكثير؛ لأن الشريعة قد اعتبرت ذلك في مسائل عديدة، فمثلًا: نـهى النبي أن تحاد المرأة على غير زوجها أكثر من ثلاثة أيام، ونـهى المهاجر أن يبقى في مكة بعد طواف الصدر أكثر من ثلاثة أيام، ونـهى عن أن يهجر المسلم أخاه فوق ثلاث، إلى غير ذلك من المسائل التي جعل الشارع الثلاثة أيام حدًّا بين اليسير والكثير.
حكم من أدركته الصلاة وهو في الطائرة
أيها الإخوة: ومن فروع القول بأن الصلاة لا تسقط عن المكلف ما دام عقله معه: حكم من أدركته الصلاة وهو في الطائرة.
إن المسلم إذا أدركته الصلاة وهو في الطائرة، فإن كان يتمكن من الاتجاه إلى القبلة في جميع الصلاة، من الركوع والسجود والقيام والقعود صلى داخل الطائرة، أما إذا كان لا يتمكن من ذلك، أو من بعضه، فيؤخر الصلاة حتى تـهبط الطائرة، فيصلي على الأرض، فإن خشي خروج الوقت قبل هبوط الطائرة؛ أخَّرها إلى وقت الثانية، إن كانت مـمَّا يُجمع إليها، كالظهر مع العصر، والمغرب مع العشاء، فإن خشي خروج وقت الثانية، صلاهما قبل أن يخرج الوقت.
مثال ذلك: مسافرٌ أقلعت به الطائرة قُبَيل أذان الظهر، وخشي أن تغرب عليه الشمس، وهو لَـم يصل الظهر والعصر؛ فإنه يصليهما في الطائرة على حسب حاله، ويأتي بـما يستطيع من شروطها وأركانـها وواجباتـها؛ لقول الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، وقول النبي : إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم [3]، فإذا لـم يجد مكانًا مناسبًا يصلي فيه؛ فإنه يصلي ولو على مقعده، ولو أن يومئ بالركوع والسجود.
وليس له أن يؤخر الصلاة حتى يخرج وقتها؛ وذلك لأن الوقت هو آكد شروط الصلاة، كما قال الله : إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، وقد تسقط جميع شروط الصلاة ما عدا النية؛ مراعاةً لهذا الشرط.
وبـهذا يتبيَّـن خطأ بعض المسافرين الذين يؤخرون الصلاة حتى يخرج وقتها، بحجة أنَّـهم كانوا في الطائرة وقت الصلاة، وأنـهم لَـم يجدوا المكان المناسب لأداء الصلاة، وهذا خطأ كبير، والواجب عليهم أن يصلوا في الوقت على حسب استطاعتهم، وتأخير الصلاة عن وقتها معدودٌ من الكبائر عند عامة أهل العلم.
صلاة التطوع على الراحلة
ويجوز لمن كان راكبًا على الراحلة من طائرةٍ أو سيارةٍ أو قطارٍ أو غيره أن يصلي صلاة النافلة قاعدًا، ولو إلى غير القبلة، يومئ بالركوع والسجود، وقد جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: “رأيت النبي يصلي على راحلته حيث توجَّهت به” [4].
وفي “صحيح البخاري” عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن النبي كان يصلي التطوُّع وهو راكبٌ إلى غير القبلة [5].
وفي “صحيح البخاري” أيضًا عن عامر بن ربيعة رضي الله تعالى عنه قال: “رأيت رسول الله وهو على الراحلة يسبح -أي: يتنفَّل- يومئ برأسه قِبَل أي وجهٍ توجَّه” [6].
ولـم يكن رسول الله يصنع ذلك في الصلاة المكتوبة، وهذا الحكم -أعني: صلاة التطوع على الراحلة- إنـما هو خاصٌ بحال السفر دون حال الحضر، والله تعالى أعلم.
وإلى اللقاء في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.