الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بـهديه إلى يوم الدين.
تحدثنا سابقًا عن أهمية الصلاة، وعظيم منزلتها في دين الإسلام، وذكرنا أنّ القول الراجح الذي تدل عليه الأدلة من الكتاب والسنة والآثار عن الصحابة هو القول بكفر تارك الصلاة، وذكرنا أدلة ذلك.
الحكمة من مشروعية الصلاة
ومن أحسن من تكلّم عنها فيما وقفتُ عليه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى، فقد تكلم عن الحكمة من مشروعيتها كلامًا بديعًا، نكتفي بنقله في هذه الحلقة:
قال رحمه الله: “اشتملت الصلاة على الحكم الباهرة، والمصالح الباطنة والظاهرة، والمنافع المتصلة بالقلب والروح والبدن، التي لو اجتمع حكماء العالـم قاطبةً، واستفرغوا قواهم وأذهانـهم لَمَا أحاطوا بتفاصيل حِكَمها وأسرارها وغاياتـها المـحمودة، بل انقطعوا كلهم دون أسرار الفاتحة وما فيها من المعارف الإلهية، والحكم الربانية، والعلوم النافعة، والتوحيد التام، والثناء على الله تعالى بأصول أسمائه وصفاته، وذكر أقسام الخليقة باعتبار غاياتـهم ووسائلهم.
وما في مقدماتـها وشروطها من الحكم العجيبة من تطهير الأعضاء والثياب والمكان، وأخذ الزينة، واستقبال بيته الذي جعله إمامًا للناس، وتفريغ القلب لله، وإخلاص النية، وافتتاحها بكلماتٍ جامعةٍ لمعاني العبودية، دالةٍ على أصول الثناء وفروعها، مخرجةٍ من القلب الالتفات إلى ما سواه، والإقبال على غيره.
فيقوم بقلبه الوقوف بين يدي عظيمٍ جليلٍ كبيرٍ، أكبر من كل شيءٍ، وأجل من كل شيءٍ، وأعظم من كل شيءٍ، تلاشت في كبريائه السماوات وما أظلَّت، والأرض وما أقلَّت والعوالـم كلها، عنت له الوجوه، وخضعت له الرقاب، وذلَّت له الجبابرة، قاهرٌ فوق عباده، ناظرٌ إليهم، عالـمٌ بـما تكنُّ صدورهم، يسمع كلامهم، ويرى مكانـهم، ولا يخفى عليه خافيةٌ من أمرهم.
ثم أخذ -أي: المصلي- في تسبيحه وحمده وذكره تبارك وتعالى، ثم أخذ في الثناء عليه بأفضل ما يثني عليه به، من حمده، وذكر ربوبيته للعالـم، وإحسانه إليهم، ورحمته بـهم، وتـمجيده بالملِك الأعظم، في اليوم الذي لا يكون فيه ملِكٌ سواه، حين يجمع الأولين والآخرين في صعيدٍ واحد، ويُدِينُهم بأعمالـهم.
ثم إفراده بنوعي التوحيد: توحيد ربوبيَّته استعانةً به، وتوحيد ألوهيَّته عبوديةً له.
ثم سؤالُه أفضلَ مسؤولٍ، وأجلَّ مطلوبٍ على الإطلاق، وهو هداية الصراط المستقيم، الذي نصبه لأنبيائه ورسله وأتباعهم، وجعله صراطًا موصلًا لمن سلكه إليه، وإلى جنته، وأنه صراط من اختصَّهم بنعمته، بأن عرَّفهم الحق، وجعلهم متبعين له، دون صراط أمة الغضب الذين عرفوا الحق ولـم يتبعوه، وأهل الضلال الذين ضلوا عن معرفته واتباعه، فلله كم في هذه السورة من أنواع المعارف والعلوم والتوحيد، وحقائق الإيـمان.
ثم يأخذ المصلي بعد ذلك في تلاوة ربيع القلوب، وشفاء الصدور، ونور البصائر، وحياة الأرواح، وهو كلام رب العالمين، فأي نعيمٍ، وقرَّة عينٍ، ولذَّة قلبٍ، وابتهاجٍ وسرورٍ لا يحل له في هذه المناجاة، والرب تبارك وتعالى مستمعٌ لكلامه جاريًا على لسان عبده، ويقول جل وعلا: حمدني عبدي، وأثنى عليَّ عبدي، ومـجَّدني عبدي.
ثم يعود المصلي إلى تكبير ربِّه جل وعلا، فيجدِّد عهد التذكرة، كونه أكبر من كل شيءٍ بحق عبوديَّته، وما ينبغي أن يُعامَل به.
ثم يركع حانيًا له ظهره، خضوعًا لعظمته، وتذللًا لعزَّته، واستكانةً لجبروته، مسبِّحًا له بذكر اسمه العظيم: سبحان ربي العظيم، فنزَّه عظَمَتَه عن حال العبد وذله وخضوعه، وقابل تلك العَظَمَة بـهذا الذل والانحناء والخضوع، قد تَطَامَن هذا المصلِّي، وطأطأ رأسه، وطوى ظهره، وربه فوقه يشاهده، ويرى خضوعه وذلَّه، ويسمع كلامه، فهو ركن تعظيمٍ وإجلال، كما قال النبي : أما الركوع فعظِّموا فيه الرب [1].
ثم يعود المصلي إلى حاله من القيام، حامدًا لربِّه، مُثنيًا عليه بأكمل مـحامِده وأجمعها وأعمِّها، مثنيًا عليه بأنه أهل الثناء والمـجد، ومعترفًا بعبوديَّته، شاهدًا له بتوحيده، وأنه لا مانع لِمَا أعطى، ولا معطي لِمَا منع، وأنه لا ينفع أصحاب الجدود والأموال والحظوظ جدودهم عنه ولو عظُمَت.
ثم يعود المصلي إلى تكبيره، ويـخرُّ له ساجدًا على أشرف ما فيه، وهو الوجه، فيُعفِّره في التراب ذلًّا بين يديه، ومَسكَنَةً وانكسارًا، وقد أخذ كل عضوٍ من البدن حظه من هذا الخضوع، حتى أطراف الأنامل ورؤوس الأصابع.
ثم أُمِر المصلي أن يُسبِّح ربه الأعلى، فيذكر عُلوَّه سبحانه في حال سفوله -سفول العبد- هو، ويُنزِّهه عن مثل هذه الحال، وأن من هو فوق كل شيءٍ، وعالٍ على كل شيءٍ، يُنَزَّه عن السفول بكل معنى، بل هو سبحانه هو الأعلى بكل معنًى من معاني العلو؛ ولـمَّا كان هذا غاية ذل العبد وخضوعه وانكساره؛ كان العبد أقرب ما يكون من الربِّ في هذه الحال، فأُمِر أن يجتهد في الدعاء؛ لقربه في هذه الحال من القريب المـجيب، وقد قال تعالى: كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق:19].
وكان الركوع كالمقدمة بين يدي السجود، والتوطئة له، فينتقل من خضوعٍ إلى خضوع أكمل وأتم منه، وأرفع شأنًا، وفَصَل بينهما بركنٍ مقصودٍ في نفسه، يجتهد فيه في الحمد والثناء والتمجيد، وجُعِل بين خضوعين: خضوعٍ قبله، وخضوعٌ بعده، وجُعِل خضوع السجود بعد الحمد والثناء والمـجد، كما جُعِل خضوع الركوع بعد ذلك.
قال ابن القيم رحمه الله: فتأمَّل هذا الترتيب العجيب، وهذا التنقل في مراتب العبودية، كيف ينتقل من مقام الثناء على الرب بأحسن أوصافه وأسمائه، وأكمل محامده، إلى منزلة خضوعه وتذلـُّلِه لمن له هذا الثناء، ويستصحب في مقام خضوعه ثناءً يناسب ذلك المقام، ويليق به، فيذكر عظمة الرب في حال خضوعه، ويذكر علو الرب في حال سفوله هو.
ولـمَّا كان أشرف أذكار الصلاة القرآن؛ شُرِع في أشرف أحوال الإنسان، وهي هيئة القيام التي قد انتصب فيها قائمًا على أحسن هيئة؛ ولـمَّا كان أفضل أركانه الفعلية السجود، شُرِع فها بوصف التكرار، وجعل خاتـمة الركعة وغايتها التي انتهت إليها، تطابق افتتاح الركعة بالقرآن، واختتامها بالسجود، أول سورةٍ افتتح بـها الوحي، وهي: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1] فإنـها بُدِئت بالقراءة، وختمت بالسجود: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق:19].
وشُرِع له بين هذين الخضوعين أن يجلس جلسة العبيد، وأن يسأل ربه أن يغفر له، وأن يرحمه ويرزقه، وأن يهديه ويعافيه، وهذه الدعوات تجمع له خير دنياه وآخرته.
ثم شُرِع له تكرار الركعة مرةً بعد مرةً، كما شرع له تكرار الأذكار والدعوات، مرةً بعد مرة؛ ليستعد بالأول لتكميل ما بعده، ويجبر بـما بعده ما قبله؛ وليشبع القلب من هذا الغذاء؛ وليأخذ زاده ونصيبه وافرًا من الدواء ليقاومه، فإن منزلة الصلاة من القلب منزلة الغذاء والدواء، فإذا تناول الجائع الشديد الجوع من الغذاء لقمةً، أو لقمتين، كان غناؤها عنه، وسدها من جوعه يسيرًا جدًا، وكذلك المرض الذي يحتاج إلى قدرٍ معيَّنِ من الدواء، إذا أخذ منه المريض قيراطًا من ذلك لَـم يزل مرضه بالكلية، وأزال بحسبه.
فما حصل الغذاء والشفاء للقلب بـمثل الصلاة، وهي لصحتِه ودوائِه بـمنزلة غذاء البدن ودوائه.
ثم لـمَّا أكمل الصلاة شُرِع له أن يقعد قعدة العبد الذليل المسكين لسيده، ويثني عليه بأفضل التحيات، ويُسلم على من جاء بـهذا الحظ الجزيل، ومن نالته الأمة على يديه.
ثم يُسلِّم على نفسه وعلى سائر عباد الله المشاركين له في هذه العبودية، ثم يتشهَّد شهادة الحق، ثم يعود فيصلي على من عَلَّم الأمة هذا الخير، ودلهم عليه.
ثم شُرِع له أن يسأل حوائجه، وأن يدعو بـما أحب، ما دام بين يدي ربه، مقبلًا عليه.
فإذا قضى ذلك؛ أذن له في الخروج منها بالتسليم على المشاركين له في الصلاة”.
قال ابن القيم رحمه الله: “هذا بعض ما تضمنته الصلاة من الأحوال والمعارف، فلا تجد منزلًا من منازل السير إلى الله تعالى، ولا مقامًا من مقامات العارفين بالله، إلا وهو في ضمن الصلاة”.
قال رحمه الله: “وهذا الذي قد ذكرناه من شأنـها كقطرةٍ من بحر”.
أيها الإخوة، هذا هو ما اتسع له وقت هذه الحلقة، ونلتقي بكم على خيرٍ في الحلقة القادمة، إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | رواه مسلم: 479. |
---|