الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بـهديه إلى يوم الدين.
وهذا الباب من أبواب الفقه من أهم الأبواب، وقد استشكله بعض الفقهاء قديـمًا، ولئن قد استشكله بعض الفقهاء قديـمًا، فإن الإشكالات فيه في هذا الزمن أكثر وأكثر؛ وذلك بسبب كثرة ما يعتري النساء، وبسبب ما استجد من أمورٍ تؤثِّر على دم الحيض من جهة تقطُّعه واضطرابه، ونحو ذلك، فما يحدث للنساء في هذا شيءٌ كثير.
ولكننا هنا وفيما يأتي إن شاء الله سوف نذكر أصول المسائل وضوابطها، ويستطيع المكلف من خلالها أن يعرف الأحكام الشرعية في معظم مسائل هذا الباب.
تعريف دم الحيض
ودم الحيض، معناه في لغة العرب: سيلان الشيء وجريانه، يقال: حاض الوادي إذا سال.
وفي الشرع: هو دمٌ يحدث للأنثى بـمقتضى الطبيعة، بدون سببٍ، في أوقاتٍ معلومة.
فهو دمٌ طبيعيٌ، ليس له سببٌ من مرض أو جرح أو سقوطٍ أو ولادة، وبـما أنه دمٌ طبيعي، فإنه يختلف بسبب حال الأنثى، وبيئتها، والجو الذي تعيش فيه؛ ولذلك تختلف فيه النساء اختلافًا متباينًا ظاهرًا.
وهو قد كتبه الله على بنات آدم، وقد دخل النبي على عائشة رضي الله عنها وهي تبكي؛ لـمَّا حاضت في حجة الوداع، فقال عليه الصلاة والسلام: إن هذا أمرٌ كتبه الله على بنات آدم، فاقضي ما يقضي الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت [1].
الحكمة في الحيض
والحكمة فيه: هو أنه لـمَّا كان الجنين في بطن أمه لا يـمكن أن يتغذَّى بـما يتغذَّى به من كان خارج البطن، ولا يـمكن لأرحم الخلق به أن يوصل إليه شيئًا من الغذاء، حينئذٍ جعل الله تعالى في الأنثى إفرازاتٍ دموية، يتغذَّى بـها الجنين في بطن أمه، بدون حاجةٍ إلى أكلٍ وهضمٍ، تنفذ إلى جسمه عن طريق السرَّة، حيث يتخلَّل الدم عروقه، فيتغذَّى به، فتبارك الله أحسن الخالقين، فهذه هي الحكمة في الحيض.
ولهذا: إذا حملت المرأة انقطع الحيض عنها، فلا تحيض إلا نادرًا، وكذلك المرضع يقل أن تحيض، لا سيما في أول زمن الإرضاع.
ونتحدث عن جملةٍ من مسائل الحيض.
السن الذي يأتي فيه الحيض
ونبتدئ الحديث أيها الأخوة في السِّنِّ الذي يأتي فيه الحيض.
والسن الذي يغلب فيه الحيض هو ما بين اثنتي عشرة سنة إلى خمسين سنة، وربَّـما حاضت الأنثى قبل ذلك، أو بعده بسبب حالها وبيئتها، والجو الذي تعيش فيه.
وقد اختلف الفقهاء رحمهم الله: هل للسن الذي يأتي فيه الحيض حدٌ معيَّن، بحيث لا تحيض الأنثى قبله ولا بعده، وأن ما يأتيها قبله أو بعده فهو دم فسادٍ لا حيض؟
قال الدارمي بعد أن ذكر الاختلافات: “كل هذا عندي خطأ؛ لأن المرجع في جميع ذلك إلى الوجود، فأي قدرٍ وجد في أي حالٍ وسِنٍّ وجب جعله حيضًا” وهذا الذي قاله الدارمي هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله تعالى على الجميع.
وحينئذٍ نقول: متى رأت الأنثى الحيض، فهي حائض، وإن كانت دون تسع سنين، أو فوق خمسين سنة؛ وذلك لأن أحكام الحيض قد علَّقها الله ورسوله على وجود الحيض. وهو هذا الأذى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى [البقرة:222]، ولـم يحدد الله ورسوله لذلك سنًا معيَّنًا، فوجب الرجوع فيه إلى الوجود الذي عُلِّقَت الأحكام عليه، وتحديده بسنٍّ معينة يحتاج إلى دليل من الكتاب أو السنة، ولا دليل في ذلك.
وخلاصة الكلام في هذه المسألة:
أن القول الراجح الذي عليه المـحققون من أهل العلم: هو أنه لا حد لأقل السن الذي يأتي فيه الحيض، ولا حد لأكثره، وأن المعوَّل عليه هو الوجود، فمتى ما وجد هذا الأذى ترتَّبَت عليه أحكامه.
مدة الحيض
وقد اختلف الفقهاء في مدة الحيض -أي: في مقدار زمنه- على أقوالٍ كثيرة.
قال ابن المنذر: “وقالت طائفةٌ: ليس لأقل الحيض ولا لأكثره حد” بعدما ساق الأقوال التي فيها التحديد، وهذا القول: وهو عدم تحديد أقل الحيض وأكثره، هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله تعالى على الجميع.
وهذا القول: وهو القول بعدم تحديد مدة الحيض، هو القول الأظهر في هذه المسألة، وهو الذي عليه عامة المـحققين من أهل العلم، فلا يتحدَّد زمن الحيض بـمدةٍ معيَّنة، ومن حدَّه بـمدةٍ معينة فعليه الدليل، وليس هناك دليلٌ ظاهرٌ لا من كتاب الله، ولا من سنة رسول الله ، يدل على هذا التحديد.
وقد دل على رجحان هذا القول: ظاهر الكتاب، والسنة، والاعتبار.
أما الكتاب: فقول الله : وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ [البقرة:222]، فجعل الله تعالى غاية المنع هي الطهر، ولـم يجعل الغاية مضي يومٍ وليلة، ولا ثلاثة أيام، ولا خمسة عشر يومًا، فدل هذا على أن علة الحكم هي الحيض وجودًا وعدمًا، فمتى وجد الحيض ثبت الحكم، ومتى طهرت منه زالت أحكامه.
ويدل لذلك من السنة ما جاء في (صحيح مسلم): أن النبي قال لعائشة وقد حاضت وهي محرمةٌ بالعمرة: افعلي ما يفعل الحاج، غير ألا تطوفي بالبيت قالت: فلـمَّا كان يوم النحر طهرت.. الحديث. [2]
وفي (صحيح البخاري): أن النبي قال لها: انتظري، فإذا طهرت، فاخرجي إلى التنعيم [3]، فجعل النبي غاية المنع الطهر، ولـم يجعل الغاية زمنًا معينًا، فدل هذا على أن الحكم يتعلق بالحيض وجودًا وعدمًا.
ويدل لذلك أيضًا: أن هذه التقديرات والتفصيلات التي ذكرها من ذكرها من الفقهاء رحمهم الله في هذه المسألة، ليست موجودةً في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله ، مع أن الحاجة بل الضرورة داعية إلى بيانـها، فلو كانت مـمَّا يجب على العباد فهمه، والتعبُّد لله به؛ لبيَّنها الله ورسوله بيانًا ظاهرًا لكل أحد؛ لأهمية الأحكام المترتبة على ذلك من الصلاة والصيام والنكاح والطلاق والإرث، وغيرها من الأحكام، كما بيّن الله ورسوله عدد الصلوات وأوقاتـها وركعوها وسجودها، وبين الزكاة أموالها وأنصُبَها ومقدارها ومصرِفَها، وبيّن أحكام الصيام مدته وزمنه، وبين أحكام الحج، وما دون ذلك، حتى آداب الأكل والشرب، والنوم، والجِمَاع، والجلوس، ودخول البيت، والخروج منه، وآداب قضاء الحاجة، حتى عدد مسحات الاستجمار.
إلى غير ذلك من دقيق الأمور وجليلها، مـمَّا أكمل الله به الدين، وأتـمَّ به النعمة على المؤمنين، كما قال سبحانه: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89]، وقال : مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ [يوسف:111].
فلـمَّا لَـم توجد هذه التقديرات والتفصيلات في كتاب الله تعالى، ولا في سنة رسول الله ، تبين ألا تعويل عليها، وإنـما التعويل على مسمى الحيض الذي عُلِّقت عليه الأحكام الشرعية وجودًا وعدمًا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: “ومن ذلك اسم الحيض: علَّق الله به أحكامًا متعددةً في الكتاب والسنة، ولـم يُقدِّر لا لأقلِّه ولا لأكثره، ولا للطهر بين الحيضتين، مع عموم بلوى الأمة بذلك، واحتياجهم إليه، واللغة لا تفرق بين قدرٍ وقدر، فمن قدَّر في ذلك حدًا، فقد خالف الكتاب والسنة”.
ويدل لرجحان هذا القول: وهو أنه لا حد لأقل الحيض ولا لأكثره: الاعتبار، أي: القياس الصحيح المطرد؛ وذلك أن الله تعالى علَّل الحيض بكونه أذى، فمتى وجد الحيض، فالأذى موجود، لا فرق بين اليوم الثاني واليوم الأول، ولا بين اليوم الرابع واليوم الثالث، ولا بين اليوم السادس عشر والخامس عشر، ولا بين الثامن عشر والسابع عشر، فالحيض هو الحيض، والأذى هو الأذى، فالعلة موجودةٌ في اليومين على حدٍّ سواء، فكيف يصح التفريق في الحكم بين اليومين مع تساويهما في العلة؟!
ومـما يدل لذلك أيضًا: اختلاف أقوال المـحدِّدين واضطرابـها، فإن ذلك يدل على أن المسألة ليس فيها دليلٌ يجب المصير إليه، وإنـما هي أحكامٌ اجتهاديةٌ معرَّضةٌ للخطأ والصواب، وليس أحدها أولى بالاتباع من الآخر.
فهذا هو القول الأظهر في هذه المسألة، والله تعالى أعلم: وهو أنه لا حد لأقل الحيض ولا لأكثره.
أيها الإخوة، نكتفي بـهذا القدر في هذه الحلقة، ونلتقي بكم على خيرٍ في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.