عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بـهديه إلى يوم الدين.
تكلمنا في حلقاتٍ سابقة عن جملةٍ من أحكام الحيض والاستحاضة، ونختم الحديث في هذا الباب بالكلام عن أحكام النفاس، وعن أحكام استعمال ما يـمنع الحيض، أو يجلبه، أو يـمنع الحمل، أو يسقطه.
تعريف النفاس وحَدُّه
أولًا: تعريف النِّفَاس: هو دمٌ يُرخِيْه الرحم بسبب الولادة، إما معها، أو بعدها، أو قبلها بيومين، أو ثلاثةٍ مع الطلق.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “ما تراه المرأة حين تشرع في الطَّلْق فهو نِفَاسٌ، ولـم يقيده بيومين أو ثلاثة” ومراده: طَلْقٌ يعقبه ولادة، وإلا فليس بنفاس.
اختلف الفقهاء في حده: هل له حدٌّ؟ ومن حدَّه اختلفوا في أقله وأكثره.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: “النفاس لا حدَّ لأقله ولا لأكثره، فلو قُدِّر أن امرأة رأت الدم أكثر من أربعين أو ستين أو سبعين وانقطع، فهو نفاسٌ، لكن إذا اتصل فهو دم فسادٍ، وحينئذٍ فالحد أربعون، فإنه منتهى الغالب، جاءت به الآثار”.
وعلى هذا: فإذا زاد دمها على الأربعين، وكان لها عادةٌ بانقطاعه بعدُ، أو ظهرت فيه أمارات قرب انقطاع، فإنـها تنتظر حينئذٍ حتى ينقطع، وإلا اغتسلت عند تـمام الأربعين؛ لأنه الغالب، إلا أن يصادف زمن حيضها، فتجلس حتى ينتهي زمن الحيض، فإذا انقطع بعد ذلك، فينبغي أن يكون كالعادة لها، فتعمل بحسبه في المستقبل.
وإن استمر الدم معها فهي مستحاضة، ترجع إلى أحكام المستحاضة التي سبق أن تكلمنا عنها.
ولو طهرت النفساء بانقطاع الدم عنها، فهي طاهرٌ، ولو قبل الأربعين، فتغتسل وتصلي وتصوم؛ ولزوجها أن يجامعها، إلا أن يكون الانقطاع أقل من يوم، فلا حكم له، كما قال ذلك الموفق ابن قدامة في “المغني”.
وبـهذا نعرف أن المرأة إذا طهرت قبل الأربعين، فإنـها تكون طاهرة، وليس من شرط النفاس أن يستمر أربعين يومًا، فبعض النساء تطهر في نصف هذه المدة، وربَّـما أقل، وحينئذٍ إذا طهرت بانقطاع الدم عنها يومًا كاملًا فأكثر، فإنـها تكون طاهرةً، وتأخذ حكم الطاهرات.
متى يثبت النفاس للمرأة؟
لا يثبت النفاس إلا إذا وضعت المرأة ما تبيَّـن فيه خَلْق إنسان، وأقل مدةٍ يتبيَّـن فيها خلق الإنسان ثـمانون يومًا من ابتداء الحمل، وغالبها تسعون يومًا، وحينئذٍ:
إذا وضعت المرأة سقطًا صغيرًا لَـم يتبيَّـن فيه خَلْق إنسان؛ فإن دمها ليس بدم نفاس، بل هو دم عِرْقٍ، فيكون حكمها حكم المستحاضة، أي: أنَّـها تصوم وتصلي، وتأخذ أحكام الاستحاضة التي سبق أن تكلمنا عنها.
مثال ذلك: امرأةٌ أسقطت بعد ما مضى على حملها شهران، أي: ستون يومًا، فإن الدم الذي يخرج منها عقب هذا الإسقاط ليس بدم نفاس، بل هو دم فساد، حكمه حكم دم الاستحاضة، أي: أنَّـها تتحفَّظ من هذا الدم، وتصوم وتصلي.
مثالٌ آخر: امرأةٌ أسقطت بعد ما مضى على حملها مائة يوم، ومعلومٌ أنه إذا مضى على الحمل مائة يومٍ، فالغالب أنه قد بدأ فيه تخليق الإنسان، وحينئذٍ: فإن هذا السّقْط الذي قد بدأ فيه تخليق الإنسان، يكون الدم الخارج عقبه دم نفاس، وتترتب عليه أحكام دم النفاس، أي: أن المرأة في هذه الحال لا تصوم ولا تصلي، وتأخذ أحكام النفساء.
أحكام استعمال ما يـمنع الحيض أو يجلبه
إن استعمال المرأة ما يـمنع حيضها جائزٌ بشرطين:
- الشرط الأول: ألا يخشى الضرر عليها، فإن خشي الضرر عليها من ذلك، فإنه لا يجوز؛ لقول الله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29]، وقول الله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195].
- الشرط الثاني: أن يكون ذلك بإذن الزوج، إن كان له تعلقٌ به، مثل أن تكون معتدةً منه على وجه تجب عليه نفقتها، فتستعمل ما يـمنع الحيض لتطول المدة، وتزداد عليه نفقتها، فليس لها أن تستعمل ما يـمنع الحيض حينئذٍ إلا بإذنه، وكذلك إذا ثبت أن منع الحيض يـمنع الحمل، فلا بد من إذن الزوج.
وأما استعمال ما يجلب الحيض: فجائزٌ بشرطين أيضًا:
- الشرط الأول: ألا تتحيَّل به على إسقاط واجب، مثل أن تستعمله قرب رمضان من أجل أن تفطر، أو لتسقط به الصلاة، ونحو ذلك.
- الشرط الثاني: أن يكون ذلك بإذن الزوج؛ لأن حصول الحيض يـمنعه من كمال الاستمتاع، فلا يجوز استعمال ما يـمنع حقه إلا برضاه.
وإذا كان النبي قد نـهى المرأة عن أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه؛ لأجل أن ذلك الصيام قد يُفوِّت على الزوج كمال الاستمتاع، فاستعمالها ما يجلب الحيض من باب أوْلى، وحينئذٍ نقول: لا بد من إذن الزوج في ذلك.
حكم استعمال ما يـمنع الحمل
فعلى نوعين:
- النوع الأول: أن يـمنعه منعًا مستمرًا، فهذا لا يجوز؛ لأنه يقطع الحمل فيقل النسل، وهو خلاف مقصود الشارع من تكثير الأمة الإسلامية؛ ولأنه لا يُؤمَن أن يـموت أولادها الموجودون، فتبقى أرملةً لا أولاد لها.
- النوع الثاني: أن يـمنعه منعًا مؤقتًا، وهو ما يسمى: بتنظيم الحمل، مثل أن تكون المرأة كثيرة الحمل، والحمل يرهقها، فتحب أن تنظِّم حملها كل سنتين مرةً مثلًا، أو نحو ذلك، فهذا جائزٌ بشرط: أن يأذن به زوجها، وألا يكون به ضررٌ عليها.
والدليل على هذا: أنّ الصحابة كانوا يعزلون عن نسائهم في عهد النبي ، من أجل ألا تحمل نساؤهم فلم ينهوا عن ذلك، وفي حديث جابرٍ في “الصحيحين” قال: “كنا نعزل والقرآن ينزل” [1].
حكم استعمال ما يسقط الحمل
وأما استعمال ما يسقط الحمل:
فهذا إن كان بعد نفخ الروح فيه فهو حرامٌ بلا ريب؛ لأنه قتل نفسٍ مـحرمةٍ بغير حق، وقتل النفس المـحرمة حرامٌ بالكتاب والسنة، وإجماع المسلمين، ونفخ الروح يكون بعد مرور مائة وعشرين يومًا على الحمل، أي: بعد أن يـمضي أربعة أشهر على الحمل؛ لقول النبي ، كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكًا بأربع كلمات، فيكتب عمله، وأجله، ورزقه، وشقي أو سعيد [2].
فدل هذا الحديث على أن النفخ في الروح إنـما يكون بعد مضي مائة وعشرين يومًا؛ بعد مضي أربعين يومًا نطفة، ثم أربعين يومًا علقة، ثم أربعين يومًا مضغةً، فهذه مائةٌ وعشرون يومًا، أي: أربعة أشهر، ثم يأتيه الملك ويؤمر بنفخ الروح.
وحينئذٍ نقول: إن كان استعمال ما يسقط الحمل بعد نفخ الروح، فإنه حرامٌ؛ لأنه قتل نفسٍ بغير حق.
أما إن كان استعمال ما يسقط الحمل قبل نفخ الروح فيه، أي: قبل أن يـمضي أربعة أشهرٍ على ذلك الحمل، فقد اختلف العلماء في جوازه:
- فمنهم من أجازه.
- ومنهم من منعه.
- ومنهم من قال: يجوز ما لَـم يكن علقة، أي: ما لَـم يـمض عليه أربعون يومًا.
- ومنهم من قال: يجوز ما لَـم يتبيَّـن فيه خلق إنسان.
والأحوط المنع من إسقاطه إلا لحاجةٍ ملحَّة، كأن تكون الأم مريضةً لا تتحمل الحمل أو نحو ذلك، فيجوز إسقاطه حينئذٍ، إلا إن مضى عليه زمنٌ يـمكن أن يتبيَّـن فيه خَلْق إنسانٍ، فإن المنع يتأكد حينئذٍ.
أيها الإخوة، هذا ما تيسر عرضه في هذا الباب، وننتقل بكم في الحلقة القادمة إلى بابٍ جديدٍ.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.