الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله وخليله نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
حياكم الله تعالى في هذه الحلقة الجديدة من هذا البرنامج، والتي نتكلم فيها عن جُمْلةٍ من أحكام الوصية، ونبتدئ الحديث بتعريف الوصية في اللغة؛ فنقول:
تعريف الوصية
الوصية في اللغة: مأخوذةٌ من وصَّيت الشيء إذا وصلته، سُمِّيَت بذلك؛ لأنها وصْلٌ لما كان في الحياة بما بعد الموت؛ لأن الموصِيَ قد وصل بعض التصرُّف الجائز له في حياته ليستمر بعد موته.
وأما معنى الوصية في اصطلاح الفقهاء، فهي: الأمر بالتصرُّف بعد الموت.
وأما الوصية بالمال، فهي: التبرُّع بالمال بعد الموت.
الأدلة على الوصية
والأصل في الوصية: الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب؛ فقول الله : كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:180]. ولقول الله في آية المواريث: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:11]، وفي الآية الأخرى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:12].
وأما السنة؛ ففي “الصحيحين” عن سعد بن أبي وقاصٍ قال: “جاءني رسول الله يعودني في حجة الوداع من وجعٍ اشتد بي، فقلتُ: يا رسول الله، قد بلغ بيَ الوجع ما ترى، وأنا ذو مالٍ، ولا يرثني إلا ابنةٌ، أفأتصدق بثلثَي مالي؟ قال: لا. قلتُ: فبالشَّطر؟ قال: لا. قلتُ: فبالثلث؟ قال: الثلث، والثلث كثيرٌ؛ إنك أن تدع ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تدعهم عالةً يتكففون الناس [1].
وفي “الصحيحين” أيضًا عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنَّ رسول الله قال: ما حقُّ امرئٍ مسلمٍ له شيءٌ يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبةٌ عنده [2].
وعن أبي هريرة أنَّ رسول الله قال: إنَّ الله تصدَّق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم، زيادةً في حسناتكم [3].
وقد أجمع العلماء في جميع الأمصار والأعصار على جواز الوصية، كما قال الموفق ابن قدامة رحمه الله.
إنَّ الإنسان لا يدري متى يفجؤه الموت، والموت لا يفرِّق بين صغيرٍ وكبيرٍ، ولا يفرِّق بين صحيحٍ ومريضٍ، ومن هنا؛ فينبغي أن يكون الإنسان متأهبًا لذلك، فيكتب وصيته، ولذلك؛ فإنَّ عبدالله بن عمر رضي الله عنهما لما سمع النبي يقول: ما حقُّ امرئٍ مسلمٍ له شيءٌ يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبةٌ عنده. قال ابن عمر: لم أبت ليلةً إلا ووصيتي مكتوبةٌ عندي” [4].
كم من إنسانٍ يملك الثروة الكبيرة، ويملك الأموال العظيمة، قد فجأه الموت فلم يتمكَّن من الوصية بشيءٍ ينفعه بعد مماته، والسعيد من وعِظ بغيره، والشقي من اتعظ به غيره.
حكم الوصية
الوصية تدور عليها الأحكام الخمسة؛ فقد تجب، وقد تستحب، وقد تحرم، وقد تكره، وقد تجوز.
فتجب الوصية على من عليه دينٌ، أو عنده وديعةٌ، أو عليه واجبٌ يوصي بالخروج منه؛ لأن الله تعالى أمر بأداء الأمانات إلى أهلها، والوصية بأداء الديون والحقوق الواجبة عليه من أكبر وسائل أداء الأمانات، فتكون الوصية بها واجبةً عليه.
وتكون الوصية مستحبةً لمن ترك خيرًا، وهو المال الكثير عُرْفًا؛ لقول الله : كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ [البقرة:180]. فنُسخ الوجوب، وبقي الاستحباب في حق من لا يرث.
فأما الفقير الذي له ورثةٌ محتاجون، فلا يستحب له أن يوصي، بل تكره الوصية في حقه؛ لأن الله تعالى قال في الوصية: إِنْ تَرَكَ خَيْرًا [البقرة:180]. وقال النبي : إنك أن تدع ورثتك أغنياء، خيرٌ من أن تدعهم عالةً يتكففون الناس [5]، وقال عليه الصلاة والسلام: ابدأ بنفسك، ثم بمن تعول [6].
قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “والذي يَقوَى عندي: أنه متى كان المتروك لا يفضل عن غنى الورثة لم تستحب الوصية؛ لأنَّ النبي علّل المنع من الوصية بقوله: إنك أن تدع ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تدعهم عالة [7]؛ ولأنَّ إعطاء القريب المحتاج خيرٌ من إعطاء الأجنبي، فمتى لم يبلغ الميراث غناهم كان تركه لهم كعطيته إياهم، فيكون أفضل من الوصية به لغيرهم.
فعلى هذا؛ تختلف الحال باختلاف الورثة في كثرتهم وقلتهم، وغناهم وحاجتهم؛ فلا يتقدَّر بقدرٍ من المال.
وقد قال الشعبي: ما من مالٍ أعظم أجرًا من مالٍ يتركه الرجل لولده يغنيهم به عن الناس”.
وتحرم الوصية لوارثٍ؛ لقول النبي : إنّ الله أعطى كل ذي حقٍ حقه؛ فلا وصية لوارث [8].
وتحرم الوصية لغير الوارث بأكثر من الثلث؛ لقول النبي في حديث سعدٍ السابق: الثلث، والثلث كثيرٌ [9].
ولكن إن أجاز الورثة الوصية بأكثر من الثلث، فإنها تصح الوصية حينئذٍ، وكذلك إن أجاز الورثة الوصية للوارث؛ فإنها تصح الوصية كذلك.
وتجوز الوصية بجميع المال لمن لا وارث له؛ لأن المنع من الزيادة على الثلث إنما كان لتعلُّق حق الورثة به، وهذا لا وارث له، وبناءً على ذلك؛ فلو كان الزوج لا يرثه إلا زوجته، أو كانت الزوجة لا يرثها إلا زوجها، فوصَّى أحد الزوجين للآخر بجميع ماله، فله جميع المال إرثًا ووصيةً.
أعدل الوصية
قال العلماء: والأولى ألا يستوعب الموصي الثلث بالوصية، وإن كان غنيًّا؛ لقول النبي : الثلث كثيرٌ. وفي “الصحيحين” عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: “لو أنَّ الناس غَضُّوا من الثلث إلى الربع؛ فإن النبي قال: الثلث كثيرٌ” [10].
والأفضل للغني الوصية بالخمس، هذا هو ظاهر قول السلف، وقد روي عن أبي بكرٍ الصديق أنه أوصى بالخمس، وقال: رضيتُ بما رضي الله به لنفسه، يريد قول الله : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ [الأنفال:41].
وروي عن علي أنه قال: “لأن أوصي بالخمس أحبُّ إليَّ من أن أوصي بالربع”.
وعن العلاء بن زيادٍ قال: “أوصى أبي أن أسأل العلماء: أيُّ الوصية أعدل؟ فما تتابعوا عليه فهو وصية. قال: فتتابعوا على الخُمُس”.
والأفضل: أن يجعل وصيته لأقاربه الذين لا يرثون إذا كانوا فقراء؛ في قول عامة أهل العلم.
قال الحافظ ابن عبدالبر رحمه الله: “لا خلاف بين العلماء علِمتُ في ذلك، إذا كانوا ذوي حاجة، وذلك؛ لأن الله تعالى كتب الوصية للوالدين والأقربين، فخرج منه الوارثون بقول النبي : لا وصية لوارثٍ [11]. وبقي سائر الأقارب على الوصية لهم، وأقل ذلك الاستحباب، وقد قال الله تعالى: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ [الإسراء:26]. وقال: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى [البقرة:177]، فبدأ بهم، ولأن الصدقة عليهم في الحياة أفضل؛ فكذلك بعد الممات.
نكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة، ونستكمل الحديث عن بقية أحكام الوصية في الحلقة القادمة إن شاء الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية