يقول النبي : مَن لم يَدَعْ قول الزور والعمل به فليس لله حاجةٌ في أن يَدَعَ طعامه وشرابه [1]، أخرجه البخاري في "صحيحه".
هذا الحديث العظيم يُبيِّن أن حقيقة الصيام لا تنحصر في الإمساك عن المُفَطِّرات الحسية فحسب، ولكنها تشمل كذلك الإمساك عن المعاصي القولية والفعلية، وهذا مطلوبٌ في جميع الوقت، لكن يتأكد ذلك أثناء الصيام.
وقد عبَّر النبي عن المعاصي القولية بقوله: قول الزور، وعن المعاصي الفعلية بقوله: والعمل به.
وعلى هذا، فكل معصيةٍ تقع من الصائم فإنها تخدش في الصيام، وتُنْقِص من أجره، وإذا كَثُرَتْ هذه المعاصي فقد يصل الصائم إلى المرحلة التي ذُكِرَتْ في الحديث، وهي: فليس لله حاجةٌ في أن يَدَعَ طعامه وشرابه.
فعلى الصائم أن يحرص على حفظ صومه، وذلك بحفظ جوارحه عن المعاصي؛ يحفظ لسانه عن الكلام المُحرم، وبصره عن النظر المُحرم، وسمعه عن السماع المُحرم، ويحفظ بقية جوارحه عن المعاصي.
وقد كان كثيرٌ من السلف الصالح إذا صاموا جلسوا في المسجد، وقالوا: نحفظ صومنا، ولا نغتاب أحدًا[2].
وقوله عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث: فليس لله حاجةٌ في أن يَدَعَ طعامه وشرابه يدل على أنه لا يُؤْجَر ولا يُثاب على هذا الصوم، وإن كانت تحصل به براءة الذمة؛ لأنه قد أمسك عن المُفَطِّرات الحسية، فتحصل بذلك براءة الذمة، لكنه لا يُثاب ولا يُؤْجَر على هذا الصيام الذي لم يتأدب معه بآداب الصيام.
ونظير ذلك من بعض الوجوه: الصلاة التي يُصلِّيها المُصلِّي وهو من حين أن يُكبِّر إلى أن يُسلِّم في هواجس ووساوس، فهذه الصلاة تبرأ بها الذمة؛ لأنها مُكتملة الأركان والشروط والواجبات، لكن ليس له من أجر صلاته إلا مقدار ما عقل منها.
هذا المعنى -أيها الإخوة- ينبغي أن يكون حاضرًا لدى المسلم، وأنه إذا أراد أن يفعل معصيةً قوليةً أو فعليةً تذكَّر أنه صائمٌ؛ فَيُمْسِك عنها ولو على سبيل المُدافعة، مع أن المُدافعة في الأصل جائزةٌ، والله تعالى يقول: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [البقرة:194]، والنبي يقول: المُسْتَبَّان ما قالا فعلى البادئ ما لم يَعْتَدِ المظلوم [3].
مَن سبَّك الأصل أنه يجوز لك أن تَسُبَّه بمثل سِبَابه، لكن إذا كنتَ صائمًا لا تُقابل السَّبَّ بمثله؛ احترامًا لشعيرة الصيام؛ لقول النبي : فإن سَابَّه أحدٌ أو قاتله فَلْيَقُلْ: إني امرؤٌ صائمٌ [4].


