logo

الجمع بين التجارة والعبادة

مشاهدة من الموقع

قال أبو الدرداء : "كنتُ تاجرًا قبل المبعث، فلما جاء الإسلام؛ جمعتُ التجارة والعبادة فلم يجتمعا، فتركتُ التجارة ولزمتُ العبادة" [1]

هذا الكلام نقله الحافظ الذهبي في "السير"، ثم علق الحافظ الذهبي على هذا فقال: "الأفضل جمع الأمرين مع الجهاد، ولا ريب أن أمزجة الناس تختلف في ذلك؛ فبعضهم يقوى على الجمع؛ كالصدِّيق وعبدالرحمن بن عوفٍ، وكما كان ابن المبارك، وبعضهم يعجز ويقتصر على العبادة، وبعضهم يقوى في بدايته ثم يعجز، بالعكس، وكلٌّ سائغٌ، ولكن لا بد من النهضة بحقوق الزوجة والعيال" [2].

الجمع بين التجارة والعبادة، أو التجارة والعلم، أو التجارة وأمور الآخرة؛ هذا ممكنٌ، ليس بينهما تنافرٌ، المهم: أن الإنسان يجعل الدنيا وما يشتغل به في يده، ولا يجعل ذلك في قلبه، بحيث لا يصدُّه ذلك عن العبادة، ولا يصدُّه ذلك عن الإقبال على طاعة الله .

فأبو بكر الصديق  كان غنيًّا وكان أفضل الصحابة ، والله تعالى أشار إلى هذا في قوله: وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ، يعني: لا يحلف أولو الفضل منكم والسعة، كان أبو بكر الصديق حلف ألا يُنفق على مِسطح بن أُثَاثة، رضي الله عنهما؛ لمَّا وقع فيما وقع فيه بعض الناس من الإفك في قصة عائشة رضي الله عنها، فحلف أبو بكرٍ  ألا يُنفق عليه، فأنزل الله هذه الآية: وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ المقصود بها: أبو بكر الصديق ، أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى؛ لأن مِسطحًا كان ابن خالة أبي بكرٍ الصديق، وكان فقيرًا، أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:22]، لما نزلت الآية؛ قال أبو بكرٍ الصديق : "بلى، أُحِب أن يغفر الله لي"، فكفَّر عن يمينه وأرجع النفقة لمِسطحٍ [3].

الشاهد من هذا: أن الله تعالى وصف أبا بكرٍ الصديق بأنه من أُولي الفضل والسعة، فأبو بكرٍ الصديق  كان غنيًّا، ومن أُولي الفضل والسعة، وكان أفضل الصحابة وأتقاهم وأحبهم للنبي ، فلم تمنعه تجارته وغناه عن عبادته وطاعته لله .

أيضًا عبدالرحمن بن عوفٍ ، أحد العشرة المبشرين بالجنة، كان من أثرياء الصحابة، ومع ذلك كان من أفضل الصحابة ، ومن العشرة المبشرين بالجنة.

عثمان بن عفان كذلك، والزبير بن العوام، ونصف العشرة المبشرين بالجنة أو أكثر من النصف قليلًا من أغنياء الصحابة ومن أثرياء الصحابة، فلم يمنعهم هذا الثراء وهذا الغِنى عن الإقبال على الطاعة.

المهم: أن الإنسان إذا كان غنيًّا أو ثريًّا؛ لا يصدُّه ذلك عن طاعة الله ، يجعل الدنيا في يده وليست في قلبه، لا تُلهيه تجارته عن ذكر الله ولا عن طاعة الله سبحانه، فإذا كان كذلك؛ كان غنيًّا شاكرًا.

وبعض الناس -كما قال الحافظ الذهبي- لا يقوى على ذلك، لا يستطيع أن يجمع بين التجارة والعبادة؛ كما قال أبو الدرداء ، لم يستطع الجمع بينهما، فآثر العبادة على التجارة، وبعض الناس ربما يبدأ ثم يضعف، أو العكس، وكما قال الحافظ الذهبي: "إن أمزجة الناس تختلف في ذلك" [4].

لكن القاعدة في هذا: أن كل ما أشغلك عن طاعة الله لا خير فيه، كل ما أشغلك وصدَّك عن طاعة الله تعالى لا خير فيه؛ لأن الفوز العظيم طاعة الله سبحانه، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:71].

فالخير كله والفلاح كله والفوز كله في طاعة الله ، فأي شيءٍ يَصُدُّك عن طاعة الله لا خير فيه.

^1 سير أعلام النبلاء للذهبي: 2/ 337-338.
^2 سير أعلام النبلاء للذهبي: 2/ 338.
^3 رواه البخاري: 4750، ومسلم: 2770.
^4 المصدر السابق.