logo
الرئيسية/مقاطع/متى يكون الرجل تقيًّا؟

متى يكون الرجل تقيًّا؟

مشاهدة من الموقع

عن ميمون بن مهران قال: "لا يكون الرجل تقيًّا حتى يكون لنفسه أشد مُحاسبةً من الشريك لشريكه، وحتى يعلم من أين ملبسه ومَطْعَمه ومشربه" [1].

هذه المقولة عن هذا العالِم الجليل: "لا يكون الرجل تقيًّا حتى يكون لنفسه أشدّ مُحاسبةً من الشريك لشريكه"، وهذه المُحاسبة للنفس قد أمر الله تعالى بها، فقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر:18].

تأمل قوله: وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ يعني: يُحاسب الإنسان نفسه، ماذا قدَّم لِغَدٍ؟

المقصود بِغَدٍ يعني: يوم القيامة، وسمَّاه الله تعالى: غدًا لقُربه، فهو قريبٌ منا، ما بين الإنسان وبين قيام الساعة إلا أن يموت، وإذا مات فإنه يكون في فترة البَرْزَخ: إما في نعيم القبر، أو في عذابه، لكن ظاهر الأدلة أنه لا يشعر بمرور الزمن، مع كونه يُنَعَّم أو يُعَذَّب، كالنائم يرى في منامه ما يَسُرُّه وما يُحزنه؛ ولهذا قال الله تعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ لاحظ أنه موتٌ وليس نومًا، فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ [البقرة:259].

فإذا كان الإنسان لا يشعر بمرور الزمن بعد موته في فترة البَرْزَخ، وإن كان يُنَعَّم أو يُعَذَّب، فمعنى ذلك: أنه سيَتَفَاجأ بقيام الساعة.

يعني: ما بينه وبين قيام الساعة إلا أن يموت؛ ولذلك هذا يستدعي أن يُحاسب الإنسان نفسه: وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ.

يقف الإنسان مع نفسه وقفة مُحاسبةٍ صادقة، ويُقَدِّر ويقول: لو أتاني الموت هل أنا مُستعدٌّ لأهوال يوم القيامة؟ هل أنا مُستعدٌّ لليوم الآخر؟ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ، ولا يُعول على طول الأمل، وأنه سيُعَمَّر وسيتدارك فيما بعد، وسيُنِيب ويتوب إلى الله تعالى، ما يدري، ربما يَفْجَأه الموت على حين غفلةٍ، أو على حين غِرَّةٍ؛ فيندم الندم العظيم.

وحياتك أيها الإنسان فرصةٌ واحدةٌ غير قابلةٍ للتعويض، وليس فيها مجالٌ للمُغامرة، إن نجحتَ في هذا الاختبار العظيم الذي نعيشه الآن سعدتَ السعادة الأبدية، وإن فشلتَ خسرتَ كل شيءٍ حتى نفسك: وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [المؤمنون:103]، فحياتك ليس فيها مجالٌ للمُغامرة والمُخاطرة.

فينبغي أن يكون هذا المعنى حاضرًا، وأن يكون الإنسان على جانبٍ عظيمٍ من مُحاسبته لنفسه: وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ، وكما في مقولة هذا العالِم الجليل: "لا يكون الرجل تقيًّا حتى يكون لنفسه أشدّ مُحاسبةً من الشريك لشريكه".

وجاء في بعض الآثار: "النَّفْس كالشريك الخَوَّان" [2]، يعني: الذي يشك فيه ولا يثق فيه.

"وحتى يعلم من أين ملبسه ومَطْعَمه ومشربه" يعني: يُحاسب نفسه إذا قصَّر في أداء الواجبات، ويُحاسب نفسه إذا وقع في المُحرمات.

فمَن كان على جانبٍ من مُحاسبة نفسه فهو على خيرٍ وإلى خيرٍ، ولكن المُصيبة تكون عندما تنعدم مُحاسبة النفس، فعندما تنعدم مُحاسبة النفس عند الإنسان هنا المصيبة؛ يعيش في ذهولٍ، وفي غفلةٍ، وفي مشاغل الدنيا التي لا تنقضي حتى يتفاجأ بلقاء الله سبحانه في يومٍ من الأيام، فيندم النَّدم العظيم حين لا ينفع النَّدم.

ولهذا كان عمر إذا خطب الناس يقول: "أيها الناس، حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبُوا، وَزِنُوا أنفسكم قبل أن تُوزَنُوا، وتَجَهَّزوا للعرض الأكبر: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18]" [3].

^1 "سير أعلام النبلاء" للذهبي: 5/ 74.
^2 "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" لابن القيم: 1/ 79.
^3 "الزهد والرقائق" لابن المبارك: 306.
zh