قال ابن القيم رحمه الله: “من أسباب انشراح الصدر: الشجاعة، فإن الشجاع مُنْشَرِح الصدر، واسع البِطَان، مُتَّسع القلب، والجبان أضيق الناس صدرًا، وأحصرهم قلبًا، لا فرحة له ولا سرور” [1].
الشجاعة من الأخلاق الكريمة التي ما زال الناس قديمًا وحديثًا يمدحون مَن اتَّصف بها، وهي من أعظم مكارم الأخلاق، بل إن السيد لا يكون سيدًا إلا إذا كان كريمًا، شجاعًا، أما البخيل فهو بمعزلٍ عن السيادة، وهكذا الجبان؛ ولهذا أبو الطيب المُتنبي يقول:
الرأي قبل شجاعة الشجعان | هو أولٌ وهي المحل الثاني |
فإذا هما اجتمعا لنفسٍ حرةٍ | بلغتْ من العلياء كل مكان [2] |
يعني: إذا اجتمع الرأي السَّديد والشجاعة بلغت النفس من العلياء كل مكان.
يعني: هؤلاء هم أكمل الناس الذين يجتمع عندهم الرأي والشجاعة.
وبعض الناس قد يكون عنده رأيٌ وحُسن تدبيرٍ، لكنه جبانٌ، ليست عنده شجاعةٌ.
وبعض الناس على العكس: شجاعٌ، لكن عنده سُوء تدبيرٍ، وليس عنده رأيٌ.
وبعض الناس لا رأي ولا شجاعة.
والقسم الرابع هو أكمل الأقسام، وهو أن يجتمع لديه الرأي والشجاعة، كما قال أبو الطيب: “فإذا هما اجتمعا” يعني: الرأي والشجاعة “لنفسٍ حرةٍ بلغتْ من العلياء كل مكان”.
والشجاعة تعني: ثبات القلب عند النوازل، واستقراره عند المخاوف، وإن لم يكن الإنسان قويًّا في بدنه، فالمقصود بالشجاعة: شجاعة القلب؛ ولهذا كان أبو بكر الصديق أشجع الصحابة، مع أنه لم يكن أقواهم.
والشجاعة خُلُقٌ يتولد -كما قال ابن القيم رحمه الله- من الصبر وحُسن الظنِّ بالله ، فإذا اجتمع الصبر وحُسن الظنِّ بالله سبحانه يتولد من ذلك خُلُق الشجاعة.
أما مَن كان قليل الصبر، وسيئ الظنِّ، فهذا يكون جبانًا، ولا يكون شجاعًا.
ثم إن الجُبْن والتَّخوف من أسباب القلق وضيق الصدر، فتجد أن هذا الجبان يتخوف من كل شيءٍ، والمخاوف كثيرةٌ في هذه الحياة، فتجد أنه كثير التَّخوف والقلق بسبب جُبْنِه وبُعْدِه عن التَّخلق بخلق الشجاعة.
بينما الشجاع تجد أنه سعيدٌ، فالشجاعة من أسباب السعادة؛ ولهذا ذكر ابن القيم قال: “من أسباب انشراح الصدر: الشجاعة، فإن الشجاع مُنْشَرِح الصدر، واسع البِطَان، مُتَّسع القلب، والجبان أضيق الناس صدرًا”؛ لأن الجبان كل شيءٍ يُخَوِّفه، فهو قلقٌ، مُتكدرٌ، “وأحصرهم قلبًا، لا فرحة له ولا سرور”.
وقد كان النبي أشجع الناس، كان معروفًا بالشجاعة عليه الصلاة والسلام، وهكذا أبو بكر الصديق كان شجاعًا، ولما مات النبي عليه الصلاة والسلام قام أبو بكرٍ مقامًا عظيمًا؛ أتى للناس وهم في المسجد يَمُوجُون، ومنهم مَن أنكر أن النبي عليه الصلاة والسلام قد مات، وصعد المنبر، وحمد الله وأثنى عليه، وقال: “أيها الناس، مَن كان يعبد محمدًا، فإن محمدًا قد مات، ومَن كان يعبد الله، فإن الله حيٌّ لا يموت”، ثم قرأ قول الله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران: 144]، إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30] [3].
لما قرأ أبو بكرٍ هذه الآيات، يقول الصحابة: كأنها نزلتْ تلك الساعة.
وبعد ذلك اجتمع الصحابة وبايعوا أبا بكر الصديق خليفةً للمسلمين، لكنه في البداية لم يكن هو الخليفة، لكن كان شجاعًا وتَحَلَّى بزمام المُبادرة، وصعد المنبر، وألقى هذه الخطبة، وكان سببًا في تثبيت الناس بعد توفيق الله بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام.
إذن الشجاعة خُلُقٌ كريمٌ، ويمكن أن يُولد الإنسان شجاعًا، كما يُولد حليمًا، وسَخِيًّا، وكريمًا، ويمكن أيضًا أن يتخلق الإنسان بها، فالأخلاق منها ما هو فطري يُولد مع الإنسان، ومنها ما هو مُكْتَسَبٌ، فإذا كانت الشجاعة خُلُقًا فطريًّا كان هذا هو الأكمل، إذا كانت خُلُقًا جِبِليًّا، لكن مَن لم يُرزق هذا الخُلُق يُمكنه اكتساب هذا الخُلُق، يمكنه أن يكتسب هذا الخُلُق بأن يتعاطى الشجاعة حتى تكون خُلُقًا له.
والشجاعة خُلُقٌ كريمٌ بين خُلُقين مذمومين: الجبن والتَّهور.
فالجبن مذمومٌ، وهو خلاف الشجاعة.
والتَّهور كذلك مذمومٌ، فإن بعض الناس يُسمي التَّهور: شجاعةً، وهذا غير صحيحٍ، فهناك فرقٌ بين الشجاعة والتَّهور؛ فالشجاعة تعني: الإقدام في مواضع الإقدام، بينما التَّهور يعني: الإقدام في غير مواضع الإقدام.