الفائدة (897): وبضدها تتبين الأشياء
“اقتضتْ حكمة الله سبحانه أن فاوت بين عباده أعظم تفاوتٍ؛ ليشكره منهم مَن ظهرتْ عليه نعمته وفضله، ويعرف أنه قد حُبِيَ بالإنعام، وخُصَّ دون غيره بالإكرام، ولو تساووا جميعهم في النعمة والعافية لم يعرف صاحب النعمة قدرها، ولم يبذل شُكْرَها؛ إذ لا يرى أحدًا إلا في مثل حاله، ومن أقوى أسباب الشكر وأعظمها استخراجًا له من العبد: أن يرى غيره في ضدِّ حاله الذي هو عليها من الكمال والفلاح”.
هذا من كلام الإمام ابن القيم رحمه الله [1].
فبضدها تتميز الأشياء، وهذا منسوبٌ لأبي الطيب المُتنبي، قال:
الضّد يُظْهِر حُسْنَه الضّد | وبضدها تتميز الأشياء |
فلا يعرف قدر النعمة إلا إذا رأى الإنسان ضدها، فيعرف قدر نعمة الإسلام إذا رأى الإنسان الكفر، ورأى أن هؤلاء الكفار يتخبَّطون في ظلمات الكفر والجهل.
إذا رأى -مثلًا- مَن يعبد الجرذان والفئران ونحو ذلك يعرف قدر نعمة الله عليه، وأن الله تعالى هداه للدين الحق.
ولا يعرف نعمة الأمن إلا مَن رأى الخوف، فمَن اكتوى بنار الخوف والاضطراب وفقدان الأمن يعرف قدر نعمة الأمن، ولا يعرف قدر نعمة الصحة إلا عندما يمرض، فعندما يمرض الإنسان يعرف عظيم قدر نعمة الصحة، وكذا ربما أيضًا يعرف قدرها إذا رأى مرضى -إذا رأى الإنسان المرضى- ولا يعرف قدر نعمة الراحة إلا عندما يتعب، فيعرف قدر نعمة الراحة، ولا يعرف قدر نعمة الفراغ إلا عندما ينشغل، وهكذا، فبضدها تتبين الأشياء.
بعض الناس يكون في نعمةٍ، ولا يعرف قدرها إلا إذا رأى ضدها، فإذا رأى ضدها عرف قدر تلك النعمة.
ولهذا نبَّه الإمام ابن القيم هنا فقال: من حكمة الله أن فاوت بين عباده، ومن الحِكَم في هذا التفاوت: ليشكره مَن ظهرتْ عليه النعمة، ويعرف قدر نعمة الله عليه إذا رأى مَن سُلِبَ هذه النعمة، فإن الناس لو تساووا جميعًا في النعم لم يعرف الإنسان قدر نِعَم الله عليه، لكنه إذا أنعم الله على الإنسان بهذه النعمة، ورأى غيره سُلِبَ هذه النعمة، أو لم يُعْطَ هذه النعمة؛ يعرف عظيم قدر نعمة الله تعالى عليه.
ولهذا من حكمة الله : أن أهل الجنة قبل أن يدخلوا الجنة لا بد أن يَمُرُّوا بالصراط المنصوب على متن جهنم، كما قال الله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم:71- 72].
وفسر النبي عليه الصلاة والسلام الورود بأنه المرور على الصراط، والصراط منصوبٌ على متن جهنم، ولا بد أن يَمُرَّ عليه جميع البشر بمَن فيهم الأنبياء والرسل، لكن يتفاوت الناس في المرور على هذا الصراط، فمنهم مَن يمر كالبرق، ومنهم مَن يمر كالريح المُرسلة، ومنهم مَن يسقط، ومنهم مَن تارةً يسقط، وتارةً يمشي، يتفاوتون في المرور على هذا الصراط بحسب أعمالهم.
لماذا أهل الجنة لا يدخلون الجنة مُباشرةً من غير أن يمروا بالصراط؟
الحكمة في ذلك -والله أعلم- حتى يعرفوا عظيم قدر نعمة الله عليهم؛ لأنهم إذا مَرُّوا على الصراط المنصوب على متن جهنم ورأوا جهنم عيانًا عندما يصلون إلى الجنة يعظم عندهم نعيم الجنة، ويقولون: لو لم يُنْعِم الله علينا إلا بالنَّجاة من النار فهذه بِحَدِّ ذاتها نعمةٌ عظيمةٌ. فكيف بنعيم الجنة الذي يُنْعِم الله تعالى به عليهم؟
فعندما يمرون على الصراط ويرون جهنم يعظم عندهم قدر نعيم الجنة، فهذا من حكمة الله في مرور الناس على الصراط.
إذن لا يعرف الإنسان قدر النعمة إلا إذا رأى ضدها، وبضدها تتميز الأشياء.
الحاشية السفلية
^1 | “مفتاح دار السعادة”: 1/ 7. |
---|