الموت مصيبةٌ، سماه الله تعالى مصيبةً في قوله: فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ [المائدة:106]، وإنما كان مصيبةً؛ لأنه يقطع الإنسان عن العمل؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: لا يتمنين أحدكم الموت لضرٍّ نزل به.. [1]، فإنه لن يزيد المسلم عمره إلا خيرًا، لن يزيده إلا خيرًا، يكسب حسناتٍ مع طول العمر، والموت يقطعه؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: خيركم من طال عمره وحسن عمله، وشركم من طال عمره وساء عمله [2]، رواه أحمد بسندٍ صحيحٍ.
فطول العمر مع حسن العمل نعمةٌ؛ لأنه يزيد الحسنات؛ ولهذا أيضًا جاء عند أحمد وأبي داود بسندٍ جيدٍ: أن رجلين من بلي أحدهما قُتل في سبيل الله، والآخر مات بعده بسنةٍ على فراشه، فرآهما أحد الصحابة والذي مات على فراشه في درجةٍ أعلى في الجنة من الذي قتل في سبيل الله، فذكر ذلك للنبي قال: أليس قد عاش بعده سنةً، وصام رمضان، وصلى كذا ألف ركعة [3]، لاحِظ، أعمال سنةٍ رَفعت هذا الرجل هذه الدرجة، مع أن الأول قُتل في سبيل الله، فالمؤمن لن يزيده عمره إلا خيرًا، خيركم من طال عمره وحسن عمله [4]؛ ولهذا كان الموت مصيبةً بالنسبة له، ولهذا من الأدعية العظيمة: اللهم اجعلني ممن طال عمره وحسن عمله على طاعتك، أو اللهم أطل عمري على طاعتك، أو اجعلني ممن طال عمره وحسن عمله، لكن في المقابل أيضًا: طول العمر مع سوء العمل نقمةٌ؛ لأنه تَكثر عليه الذنوب والسيئات.
قال: "والموت وإن كان مصيبةً عظمى، ورزيةً كبرى؛ فأعظم منه الغفلة عنه، والإعراض عن ذكره، وترك العمل له، وإن فيه وحده لعبرةً لمن اعتبر، وفكرةً لمن تفكر".
وهو وإن كان مصيبةً؛ إلا أن الغفلة عنه والإعراض عنه مصيبةٌ أعظم، كون الإنسان يغفل عن الموت، ويكون لاهيًا في هذه الدنيا ومشاغلها، حتى لا يستيقظ إلا بالموت، فينتبه حينئذٍ، ويندم حين لا ينفع الندم، هذه مصيبةٌ؛ ولهذا ينبغي الإكثار من ذكر الموت والدار الآخرة، وألا يغفل الإنسان عنها؛ لأن الغفلة هذه سببٌ لقسوة القلوب؛ ولذلك كما قال القرطبي هنا، قال [5]: وإن كان الموت مصيبةً؛ إلا أن الغفلة عنه والإعراض عن ذكره مصيبةٌ أعظم، وإن فيه وحده لعبرةً لمن اعتبر، وفكرةً لمن تفكر، يعني: الموت بحد ذاته فيه عبرٌ؛ لأن الإنسان ينتقل بهذا الموت من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة، ويقول بعضهم: الموت كأنه ولادةٌ جديدةٌ للإنسان، ينتقل به من مرحلةٍ إلى مرحلةٍ، فهو عبرةٌ عظيمةٌ، والإنسان ما دام حيًّا؛ لا زال باب العمل مفتوحًا، ولا زال باب التوبة مفتوحًا، ولكن المصيبة..، ولكن عندما تبلغ الروح الحلقوم؛ يغلق في وجهه باب العمل وباب التوبة، وينتقل من دار العمل إلى دار الجزاء والحساب؛ ولهذا من يرتبط بالقرآن الكريم، ويتدبر القرآن؛ لن يغفل عن الموت ولا عن الدار الآخرة؛ لأن معظم سور القرآن تذكرك، معظم سور القرآن -خاصةً السور المكية- تذكر الإنسان بالموت والدار الآخرة وأوصاف الجنة والنار ونحو ذلك.
فمن يرتبط بالقرآن الكريم؛ يكون بعيدًا عن الغفلة؛ ولهذا ينبغي أن يحرص المسلم على تدبر القرآن، وأن يجعل من وقته نصيبًا للتلاوة مع التدبر، هذا من أعظم أسباب الثبات، بل من أعظم أسباب زيادة الإيمان، وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2].