عند مخالطة الإنسان لغيره من الناس، والإنسان اجتماعي بطبعه، كما قال ابن خلدون: الإنسان اجتماعي بطبعه[1].
لا بد من أن يخالط غيره، فعند مخالطة الآخرين لا بد أن يواجه طبقة غير محترمة؛ إما من قريب أو صديق أو زميل أو جار أو غير ذلك، لا بد، مع أنه ينبغي أن يبتعد عن الأصدقاء من هذه الطبقة، لكن أحيانًا قد يُبتلى الإنسان بهذه الطبقة، وقد -أيضًا- يكون معه في مكان لا يستطيع أن ينفك منهم، كأن يكون مثلًا زميلًا في العمل أو نحو ذلك، أو قريبًا تجمعه به مناسبات أو نحو ذلك.
فلا بد من أن يعرف كيف يتعامل مع هذه الطبقة، هذه الطبقة غير محترمة تشتغل باللغو، تستمتع بأذية الآخرين؛ مَن دخل معهم في نقاش فسيستمر النقاش، وربما يؤدي إلى ما لا تُحمد عقباه ويستنفد طاقته، وربما يُستفز فيتكلم بكلام غير لائق أو يتصرف تصرفات غير مناسبة، وربما تتطور إلى ما لا يُحمد عقباه.
ولذلك؛ فإن التصرف الأمثل بالتعامل مع هذه الطبقة هو ما أرشدنا إليه ربنا سبحانه في قوله: وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [المؤمنون:3]، وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [القصص:55]، وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [الفرقان:63].
لاحِظ في القرآن العظيم التأكيد على هذا المعنى؛ يعني عدة آيات تؤكد على قضية الإعراض عن هؤلاء، في أكثر من موضع من القرآن.
وهذا يدل على عظم شأن هذه القضية، ولولا أنها قضية كبيرة ما أكد عليها القرآن بهذا التأكيد بعدة أساليب: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [الفرقان:63]، وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [القصص:55]، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [المؤمنون:3]، وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ [القصص:55].
وأية نصوص في هذا تدل على أهمية هذه القضية، وأن على المسلم أن يلتزم بما أرشدنا إليه ربنا سبحانه من الإعراض عن هذه الطبقة، وعدم الدخول معها، لا تدخل معهم في نقاش وأخذ ورد، وتستنفد طاقتك في أمر لا فائدة منه، بل ربما تكون مضرته أكثر من منفعته، ثم أيضًا تصون عرضك؛ إذا أعرضت عن الدخول مع هؤلاء تصون عرضك، وكما يقال: لا تخاصم الأحمق؛ فقد يخطئ الناس في التفريق بينكما.
ثم أيضًا أنت إذا دخلت مع هذا الإنسان الجاهل أو الأحمق؛ تنزل مستواك إلى مستواه فتتعامل معه بمستواه؛ والذي ينبغي أن تتعامل معه بأخلاقك وبمستواك.
فلهذا؛ نجد التأكيد في القرآن الكريم على كيفية التعامل مع هذه الطبقة التي لا بد أن تكون موجودة في كل زمان ومكان، لا يخلو منها زمان ولا مكان، وهو أن الإنسان يُعرض عنهم، ولا يدخل معهم في نقاش، ولا يدخل معهم في جدال، ولا يدخل معهم في أخذٍ ورد، حتى لو أساؤوا إليه لا يرد عليهم، يُعرض عنهم. فهذا هو التصرف الصحيح للتعامل مع هؤلاء.
وهناك موقف أحسن من هذا، لكن هذا لا يُوفَّق له إلا القلة من الناس، وهو دفع السيئة بالحسنة: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم [فصلت:34]، لكن هذه الخصلة ثقيلة على النفس؛ ولهذا قال سبحانه: وَمَا يُلَقَّاهَا يعني: خصلة دفع السيئة بالحسنة إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا تحتاج إلى صبر عظيم وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:35]؛ يعني: ذو نصيب وافر من الأخلاق الكريمة.
فهي درجتان: درجة الإعراض عن الجاهلين، هذه يستطيع أي إنسان أن يحققها. ودرجة دفع السيئة بالحسنة، هذه درجة لا يوفق لها إلا ذو حظ عظيم؛ يعني: دفع السيئة بالحسنة، أساء إليك تدعو له وتنصرف عنه، وتحسن له بالدعاء، تقول: جزاك الله خيرًا، أو نحو ذلك، ولا تقابل السيئة بمثلها، بل تقابلها بالحسنة.
فهذا أدبٌ أرشد إليه ربنا -تبارك وتعالى- في كتابه الكريم، وأكد عليه بعدة أساليب لأهميته.
وإذا تأملت كثيرًا من المشكلات تجد أنها ترجع في البداية لسبب تافه، سواء كانت المشكلات التي تؤدي إلى القتل، أو المشكلات التي تؤدي إلى الطلاق، أو المشكلات التي تؤدي إلى قطيعة الرحم، ونحو ذلك. تجد أحيانًا موقفًا تافهًا، كلمة نابية تكلَّم بها إنسان فردَّ عليه الآخر ثم احتدم النقاش بينهما والسباب، ثم تحول إلى -إذا كان قتل- إلى رفع السلاح، ثم أدى إلى القتل. ولو تأملت في السبب في الشرارة تجد أنها تافهة، موقف تافه.
الطلاق تجد أحيانًا السبب تافهًا، كلمة سيئة من الزوج أو الزوجة، ثم تطورت وأدت في النهاية إلى الطلاق أو قطيعة الرحم، ونحو ذلك.
ولو أن الإنسان من البداية أعرض عن هذا الإنسان الذي ألقى عليه هذه الكلمة غير المناسبة لَمَا حصل هذا كله؛ ولهذا فسيأتينا بعد قليل أن التغافل أنه من الأخلاق المحمودة الكريمة.
^1 | "تاريخ ابن خلدون": 1/ 594، وعبارته: "إن الإنسان هو مدني الطبع". |
---|