كل صاحب نعمةٍ محسودٌ.
هذا من سنن الله ، أن كل صاحب نعمةٍ محسودٌ، كلما عظمت النعمة؛ عظم الحسد.
والمقصود بالحسد: كراهية نعمة الله تعالى على الغير، وتمني زوالها، أن يكره نعمة الله على الغير، ويتمنى زوالها، وقد تقع الكراهية في النفس، لكن المسلم ينبغي أن يجاهد ذلك، وألا يتمنى زوال النعمة عن أخيه؛ ولهذا قال الحسن: ما خلا جسدٌ من حسدٍ، ولكن الكريم يخفيه، واللئيم يبديه.
فالحسد كامنٌ في النفوس، ولكن المسلم يتغلب عليه بقوة إيمانه وتقواه لله ، وترويض النفس، وأما من يُتبِع نفسه هواها، فهذا قد يستجيب لدواعي النفس، ويحسد الآخرين، يحسدهم على ما آتاهم الله من فضله، فيعيش في ألمٍ نفسيٍّ شديدٍ؛ ولذلك يقال في الحكمة، أو يقول أحد الحكماء: ما رأيت ظالمًا أشبه بمظلومٍ من الحاسد؛ لأنه يرى كل نعمةٍ لك وبالًا عليه، فهو الذي يتألم!
ثم أيضًا الحاسد بحسده يعترض على قضاء الله وقدره، كأنه يعترض على الله بأن فلانًا لا يستحق هذه النعمة، فلماذا تعطيه يا رب هذه النعمة؟! هو يكره نعمة الله عليه، ويعترض عليها، ويتمنى زوالها؛ لهذا يقال:
ألا قُل لمن ظل لي حاسدًا | أتدري على من أسأت الأدب |
أسأت على الله في فضله | إذ أنت لم ترض لي ما وهب [1] |
فالحاسد في الحقيقة هو معترضٌ على الله ، ومسيءٌ الأدب مع الله ؛ ولهذا من أعظم الخصال التي ينبغي أن يحرص عليها المسلم، وأن يسعى لتحقيقها: سلامة الصدر؛ فإن سلامة الصدر من صفات أولياء الله ، من صفات عباد الله المتقين، وقد أثنى الله على المؤمنين الذين يقولون: وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا [الحشر:10]، يعني: بمجرد دعائهم أثنى الله عليهم، فكيف بمن لا يحمل الغل أصلًا على إخوانه المسلمين؟! وَالَّذِينَ جَاؤوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10]، إذا رأيت من يحمل الغل والحقد على المسلمين؛ فهذا دليلٌ على ضعف إيمانه، على أنه بعيدٌ عن التقوى؛ لأن التقي لا يحمل الحقد ولا الحسد ولا الغل على إخوانه المسلمين، بل يحب الخير للناس، ويتمنى الخير للناس.
ولذلك عندما يُرى في الواقع من تصرفات بعض الناس، وتصيدهم للزلات ونفخهم فيها؛ تدرك أن الباعث لذلك هو الحسد، فهؤلاء بعيدون عن التقوى لله ، وهذا يدل على ضعف الإيمان عندهم؛ فإن المؤمن يحب الخير لإخوانه المسلمين، لا يحسدهم، بل يسأل الله تعالى ألا يجعل في قلبه غلًّا للذين آمنوا.
وسلامة الصدر امتن الله تعالى بها على أهل الجنة: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ [الأعراف:43]؛ وهذا دليلٌ على أنه نعمةٌ عظيمةٌ، جعل الله تعالى سلامة الصدر من نعيم أهل الجنة، وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47]، فهو من نعيم أهل الجنة؛ لأن من يحمل الغل؛ يتألم ألمًا نفسيًّا شديدًا، لكن سليم الصدر تجد أنه في راحةٍ عظيمةٍ وفي سرورٍ؛ ولهذا جعله الله تعالى من نعيم أهل الجنة: أن الله تعالى نزع من قلوبهم الغل، فأصبحوا إخوانًا على سررٍ متكئين، يتحدثون فيما بينهم، ومتآخين قد نزع الله تعالى من قلوبهم الغل.
الحاشية السفلية
^1 | تفسير القرطبي: (5/ 251)، ونسبها لمنصور الفقيه. |
---|