الرئيسية/مقاطع/الاقتصاد في الموعظة
|categories

الاقتصاد في الموعظة

مشاهدة من الموقع

عبدالله بن مسعودٍ من علماء الصحابة، ومن فقهاء الصحابة ، وكان له بعض الطلاب، وكانوا ينتظرونه، فقال: “إني أعلم وأُخبَر بمكانكم، ولكن لا يمنعني أن أخرج إليكم إلا كراهة أن أُمِلَّكم، إن رسول الله كان يتخَوَّلنا -يعني يتعاهدنا- بالموعظة مخافة السآمة علينا” [1].

 وأيضًا جاء في الحديث الآخر حديث شقيقٍ أبي وائلٍ: أن عبدالله بن مسعود كان له مجلس موعظةٍ كل يوم خميسٍ، فقال له رجل: نحب حديثك ونشتهيه، وددنا أنك تحدثنا كل يوم، فقال: ما يمنعني إلا كراهية أن أُمِلَّكم، إن رسول الله كان يتخولنا -يعني يتعاهدنا بالموعظة في الأيام- كراهة السآمة علينا» [2].

فكان يحرص على أن يتعاهدهم من حينٍ لآخر بالموعظة، وألا تكون كل يومٍ؛ لأنها إذا كانت كل يومٍ؛ تَدخل عليهم السآمة والملل.

وهذا الحديث فيه فوائد:

أولًا: الاقتصاد في الموعظة؛ لئلا تملها القلوب، فيفوت مقصودها؛ ولذلك ينبغي للواعظ أن يعظ من حينٍ لآخر، وألا يكثر؛ لأنه إذا أكثر على الناس في الموعظة؛ فإن الناس تمل وتسأم، فينبغي أن تكون موعظته قصدًا.

أيضًا من الفوائد: أنه ينبغي للواعظ والمعلم أن يقتدي بالنبي في هذا الهدي، وأن يتخوَّل الناس بالموعظة وبالتعليم، وأن يبتعد عن كل ما ينفر.

أيضًا من الفوائد: بيان ما كان عليه النبي من الرفق بأصحابه؛ ليأخذوا عنه بنشاطٍ لا بضجرٍ ومللٍ، كان عليه الصلاة والسلام يحرص على أن يتبع أفضل الأساليب في التعليم، وفي التربية، وفي التوجيه؛ ولذلك كان ينوع أساليب التعليم: تارةً بذكر المثل، وتارةً بذكر القصة، وتارةً بطرح السؤال، فكان يأتي بأساليب متنوعةٍ، وكان أيضًا لا يكثر عليهم، وإنما يتخولهم ويتعاهدهم من حينٍ لآخر، كان أسلوبه عليه الصلاة والسلام مع الصحابة أنفع وأنجع الأساليب؛ ولذلك أثر فيهم تأثيرًا عظيمًا، فالنبي عليه الصلاة والسلام بُعث وعمره أربعون، وتوفي وعمره ثلاثٌ وستون، يعني: بقي في البعثة والرسالة ثلاثًا وعشرين سنةً فقط؛ ثلاث عشرة سنةً منها في مكة، يدعو الناس إلى تحقيق التوحيد وترك الشرك، والعشر السنوات الأخيرة من عمره عليه الصلاة والسلام كان في المدينة، دعا الناس فيها إلى بقية شرائع الإسلام.

انظر إلى عظيم بركة وقته عليه الصلاة والسلام، هذه الأحاديث الآن التي تُروى بالآلاف هي فقط في العشر السنوات الأخيرة، ومع ذلك كان عليه الصلاة والسلام يتخول الصحابة بالموعظة ولا يكثر عليهم؛ مخافة النفرة.

 أيضًا من الفوائد: مراعاة أحوال النفوس، وأنه ينبغي تجنب ما يكون سببًا للملل والسآمة، فينبغي خاصةً للواعظ والخطيب والمتحدث أن يراعي أحوال النفوس، وأن يبتعد عن كل ما كان سببًا للسآمة والملل، ومن ذلك الإكثار من الموعظة، ومن ذلك أيضًا التطويل فيها؛ لأن التطويل سببٌ للملل؛ ولهذا كان عليه الصلاة والسلام خطبته قصيرةٌ، لم يكن يطول الخطبة، وقال: إن قِصَر خُطبة المرء وطول صلاته مَئِنَّةٌ من فقهه [3].

والمقصود هنا بالقِصَر: القصر النسبي، يعني: في حدود قراءة سورة (ق) مرتلةً، حدود عشر دقائق تقريبًا، أو في هذا القدر، من عشر دقائق إلى ربع ساعةٍ، بهذا القدر، وليس كما يفهمه بعض الناس، بعض الناس فهم هذا الحديث فهمًا خطئًا؛ فأصبح يخطب الجمعة ثلاث دقائق، أو أربع دقائق، هذا لا يحقق الغرض من خطبة الجمعة، لكن المقصود هنا بالقِصَر: القصر النسبي، كان عليه الصلاة والسلام يجتنب كل ما يسبب النفرة والملل؛ ولذلك لما بلغه أن رجلًا قال: إني لا أصلي صلاة الفجر؛ مما يطيل بنا فلانٌ؛ غضب النبي عليه الصلاة والسلام غضبًا شديدًا، وقال: أيها الناس، إن منكم منفرين، أيكم أمَّ الناس فليخفف؛ فإن من ورائه الكبير والضعيف وذا الحاجة [4].

فكل ما يؤدي لتنفير الناس ينبغي اجتنابه، وينبغي أن يلاحظ هذا إمام المسجد والخطيب والداعية والمعلم: أن يجتنب كل ما ينفر الناس، إذا كان هذا الشيء ينفر الناس؛ ينبغي أن تجتنبه؛ ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام أنكر على هذا الرجل مع أنه كان يطيل صلاة الفجر، فلما كان منفرًا بهذه الإطالة؛ أنكر عليه وغضب، وقال إن منكم منفرين، وينبغي عدم تنفير الناس، والمقصود بالتنفير التنفير الذي يكون لغالب الناس، أما الذي يكون لشخصٍ واحدٍ لا يلتفت إلى هذا؛ لأنه إذا كان لشخصٍ واحدٍ؛ بعض الناس قد يكون عنده مشاكل صحيةٌ، أو مشاكل نفسيةٌ، أو أحيانًا نظرةٌ غير سويةٍ، فلا يُلتفت لهؤلاء.

لكن لو كان معظم المصلين حصل لهم نفرةٌ؛ بسبب تصرفٍ من تصرفات إمام المسجد أو الخطيب أو المعلم، معنى ذلك أن هناك مشكلةً، فينبغي أن يتنبه لها، وينبه لذلك.

فكل ما كان سببًا للتنفير ينبغي اجتنابه، ومن ذلك مثلًا التطويل مثلًا في الصلاة تطويلًا يسبب النفرة، هذا ينبغي أن يجتنبه إمام المسجد، لا يطيل تطويلًا يسبب النفرة، وكما ذكرنا يعني النفرة من أغلب المصلين.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 مكارم الأخلاق للخرائطي: (ص 236)، ط دار الآفاق العربية.
^2 رواه البخاري: 6411، ومسلم: 2821.
^3 رواه مسلم: 869.
^4 رواه البخاري: 702، ومسلم: 466.
مواد ذات صلة