قال: “والإجابة إليها في المرة الأولى واجبةٌ” [1].
المذهب عند الحنابلة: أن إجابة وليمة العرس واجبةٌ، وهذه المسألة محل خلافٍ بين الفقهاء على قولين:
- القول الأول: أنها واجبةٌ، وهذا قول الجمهور من المالكية [2]، والشافعية [3]، والحنابلة [4]، على أن المالكية لهم قولٌ آخر، قيل: إنه هو المذهب، وهو أنها غير واجبةٍ، كما سيأتي.
- والقول الثاني: أنها مستحبةٌ، وهذا مذهب الحنفية، وقولٌ عند المالكية [5]، وقولٌ عند الحنابلة، واختاره الإمام ابن تيمية [6].
القائلون بالوجوب استدلوا بحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال: إذا دُعي أحدكم إلى وليمةٍ فليأتها [7]، وأيضًا حديث أبي هريرة : إذا دُعي أحدكم فليُجِب، فإن كان صائمًا فليُصلِّ، وإن كان مفطرًا فليَطعم [8]، وأيضًا من أقوى الأدلة عندهم: حديث أبي هريرة أن النبي قال: من لم يُجب الدعوة؛ فقد عصى الله ورسوله [9]، لاحِظ أنه في هذه الرواية التي عند مسلمٍ مرفوعٌ إلى النبي ، فقالوا: هذا صحيحٌ، في “صحيح مسلمٍ”، وصريحٌ: من لم يُجب الدعوة؛ فقد عصى الله ورسوله.
أيضًا استدلوا بأنه نَقَل الإجماعَ بعض العلماء على وجوب إجابة وليمة العرس؛ كابن عبدالبر [10]، والقاضي عياضٍ [11].
القائلون بالاستحباب استدلوا بحديث البراء : “أمَرَنا النبي بسبعٍ”، وذكر منها: “إجابة الداعي” [12]، قالوا: فالأمر بإجابة الداعي محمولٌ على الاستحباب؛ لأنه قَرَن ذلك بأمورٍ انعقد الإجماع على استحبابها، فقرن ذلك بعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، وإبرار المقسم، هذه كلها مجمَعٌ على استحبابها؛ فكذلك إجابة الداعي، وقالوا: إنه لم يرد دليلٌ صحيحٌ صريحٌ يدل على وجوب إجابة الداعي لوليمة العرس؛ فتكون إجابة دعوة وليمة العرس كغيرها.
وأما حديث أبي هريرة : من لم يُجب الدعوة؛ فقد عصى الله ورسوله، فقالوا: إنه لا يصح مرفوعًا إلى النبي ؛ وإنما هو موقوفٌ على أبي هريرة ، كما هي رواية “الصحيحين”؛ فإن الرواية التي اتفق عليها البخاري ومسلمٌ: أن هذا من كلام أبي هريرة ، وليس من كلام النبي عليه الصلاة والسلام، كذلك أيضًا عند مالكٍ وأحمد وأبي داود، كلها جاءت موقوفةً على أبي هريرة ، ولم تأتِ مرفوعةً إلا في روايةٍ عند مسلمٍ ذكرها متابعةً بعد ذكره عدة رواياتٍ موقوفةٍ على أبي هريرة ، وسبق أن ذكرنا في الدرس مرارًا أن منهج الإمام مسلمٍ في “صحيحه”: أنه يورد الرواية الصحيحة، ثم يورد بعدها الرواية الضعيفة من باب التنبيه على ضعفها، وقد أشار إلى ذلك في مقدمته، ومن أمثلة ذلك مثلًا: غيروا شعر هذا بشيءٍ [13]، عندما أُتي بوالد أبي بكرٍ -أبي قحافة- قال عليه الصلاة والسلام: غيروا شعر هذا بشيءٍ، ثم أورد مسلمٌ روايةً أخرى بزيادة: وجنبوه السواد [14]، الزيادة غير محفوظةٍ، ومن ذلك مثلًا: لا تخمروا رأسه [15]، في الذي وقصته راحلته، رواها مسلمٌ بهذا اللفظ، ثم ذكر روايةً أخرى بزيادة: ولا وجهه [16]، والزيادة غير محفوظةٍ، كل هذا من باب التنبيه على ضعف الرواية المتأخرة عنده؛ هكذا أيضًا هنا، ذَكَر الرواية الصحيحة، وأنها من قول أبي هريرة ، ثم ذكر الرواية الأخرى، وأنها مرفوعةٌ إلى النبي عليه الصلاة والسلام من باب التنبيه على ضعفها، فخذ هذه الفائدة، كأن الإمام مسلمًا لما ذكرها متأخرةً؛ يشير بذلك إلى عدم ثبوتها.
والحافظ الدارقطني في “العلل” لما ذكر روايات الحديث قال: “الصحيح أنه موقوفٌ على أبي هريرة، والحفاظ يرجحون الرواية الموقوفة” [17].
إذنْ من حيث الصناعة الحديثية: حديث: من لم يُجب الدعوة؛ فقد عصى الله ورسوله، من كلام أبي هريرة وليس من كلام النبي ؛ وعلى ذلك: فليس هناك شيءٌ مرفوعٌ.
بعض العلماء قال: حتى وإن كانت من كلام أبي هريرة؛ فلها حكم الرفع، ولكن هذا غير مُسلَّمٍ؛ لأن أبا هريرة فهم ذلك فهمًا، فَهِم من قول النبي عليه الصلاة والسلام في الأحاديث السابقة: إذا دعي أحدكم فليجب، فهم الوجوب من ذلك، وخالفه بقية الصحابة على هذا الفهم، فيكون قول صحابيٍّ، وقول الصحابي إذا خالفه صحابةٌ آخرون لا يكون حجةً.
وأما حكاية القاضي عياضٍ وابن عبدالبر الإجماع، فهذا غير مُسلَّمٍ؛ لأن هناك مذهب الحنفية يرون عدم الوجوب، وهناك قولٌ عند الحنابلة يرون عدم الوجوب، بل ذكر اللخمي أن مذهب المالكية عدم الوجوب [18]، فالقول بحكاية الإجماع هذه غير صحيحةٍ.
وعلى هذا فالأقرب والله أعلم: أن إجابة وليمة العرس مستحبةٌ استحبابًا مؤكدًا، وأنها ليست واجبةً؛ لأن القول بالوجوب يقتضي تأثيم من لم يحضر، وهذا يحتاج إلى دليلٍ، وما عندنا دليلٌ صحيحٌ صريحٌ يدل على وجوب إجابة الدعوة لوليمة العرس.
الحاشية السفلية
^1 | دليل الطالب لمرعي الكرمي: (ص 250). |
---|---|
^2, ^10 | التمهيد لابن عبد البر: (7/ 48)، ت بشار. |
^3 | الحاوي الكبير: (9/ 555). |
^4 | المغني: (10/ 193). |
^5 | التمهيد لابن عبد البر: (1/ 503)، ت بشار. |
^6 | مجموع افتاوى: (32/ 206). |
^7 | رواه مسلم: 1429، بنحوه. |
^8 | رواه مسلم: 1431. |
^9 | رواه مسلم: 1432. |
^11 | ينظر: إكمال المعلم: (7/ 46). |
^12 | رواه البخاري: 1239، ومسلم: 2066. |
^13, ^14 | رواه مسلم: 2102. |
^15, ^16 | رواه مسلم: 1206. |
^17 | العلل للدارقطني: (9/ 116). |
^18 | ينظر: التبصرة للخمي: (4/ 1864- 1865). |