logo
الرئيسية/مقاطع/عِظم شأن الإخلاص

عِظم شأن الإخلاص

مشاهدة من الموقع

الإخلاص أمرٌ عجيبٌ، ما إن يقترن بعملٍ إلا ويبارك الله فيه، ويرفع الله صاحبه درجاتٍ، وإذا أراد الإنسان أن يعمل عملًا يرفعه عند الله تعالى درجات، وأن يكون هذا العمل مؤثرًا في الناس؛ فليبدأ ولينطلق من الإخلاص، وقد كان كثير من المصنفين يفتتحون مصنفاتهم بحديث: إنما الأعمال بالنيات [1].

ولكن شرط الإخلاص شديدٌ؛ ولهذا قال سهل بن عبدالله: “ليس على النفس شيءٌ أشق من الإخلاص؛ لأنه ليس لها فيه نصيبٌ”[2]، هو شديدٌ؛ ولذلك يحتاج إلى مجاهدةٍ.

والإمام أحمد رحمه الله -وهذه الفائدة رقم (1) في هذا الكتاب، هي الفائدة رقم (1) بهذا الكتاب- قال الإمام أحمد: “شرط النية شديدٌ، إلا أنه حُبب إليَّ فجمعته” [3]، ومعنى “شرط النية شديدٌ” يعني: أن الإخلاص شديدٌ على النفس؛ لأن النفس ليس لها فيه مصلحةٌ، فيحتاج إلى مجاهدةٍ عظيمةٍ؛ ولهذا يقول سفيان الثوري رحمه الله: “ما عالجت شيئًا أشد علي من نيتي؛ لأنها تتقلب عليَّ” [4]، ويقول بعض السلف: “اكتم حسناتك كما تكتم سيئاتك” [5].

ولكن هذا ليس على إطلاقه، اكتم حسناتك، إلا إذا كان في الإخبار بها والإعلان بها مصلحةٌ؛ كأن يُقتدى بك، فهنا إظهارها أفضل، فلو كنت مثلًا تصوم صيام نافلةٍ؛ الأفضل ألا تخبر أحدًا بذلك، لكن إذا كان في إخبارك تشجيعٌ لمن أخبرته، ويغلب على ظنك أنه سيَقتدي بك؛ فالأفضل الإخبار؛ لأنك لو أخبرته واقتدى بك؛ يكتب لك مثل أجره، وأيضًا عند السلف مقولةٌ عظيمةٌ: رُبَّ عملٍ كثيرٍ تُصغِّره النية، ورب عملٍ صغيرٍ تكبره النية.

فقبول الأعمال يتفاوت بحسب ما يقوم في القلوب من الإخلاص واليقين، فليست العبرة بكثرة العمل، ولكن العبرة بحسن العمل؛ لهذا قال ربنا سبحانه: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2]، ولم يقل: أكثر عملًا، أَحْسَنُ عَمَلًا، وأحسن عملًا كما قال الفضيل بن عياضٍ: أصوبه وأخلصه [6].

ورب عملٍ يسيرٍ يقترن به إخلاصٌ عظيمٌ، يرفع الله صاحبه درجاتٍ، وقد ذكر النبي في حديث السبعة الذين يظلهم الله تعالى تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله، ذكر رجلًا تصدق بصدقةٍ فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه [7].

هذا الرجل تصدق بصدقةٍ ربما تكون الصدقة بمبلغٍ يسيرٍ، لكن اقترن بهذه الصدقة إخلاصٌ عظيمٌ، بحيث لو قُدِّر أن اليد الشمال تبصر؛ ما استطاعت أن ترى اليد اليمين من شدة الإخلاص، ما استطاعت أن ترى اليد اليمين من شدة الإخلاص، فكان هذا جزاءه، بأن يكون مع الذين يظلهم الله تعالى تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله.

أيضًا ذكر عليه الصلاة والسلام رجلًا  ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه، قوله: خاليًا، فيه إشارةٌ إلى الإخلاص؛ لأن الإنسان إذا كان مع الناس؛ ربما تفيض عيناه إما رياءً، وإما تأثرًا بالموقف، رأى الناس يبكون فبكى معهم، لكن كونه يكون في المكان الخالي لا يراه أحدٌ من الناس، فيذكر الله ​​​​​​​ وعظمته فتفيض عيناه؛ فهذا دليلٌ على قوة إخلاصه ومراقبته لربه ؛ ولهذا كان من الذين يظلهم الله تعالى تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله، بل ربما الإخلاص الذي يقترن بكلمةٍ واحدةٍ، كلمةٍ يكتب الله تعالى له بسببها رضوانه إلى يوم يلقاه؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت؛ فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه [8]، قال بعض العلماء: إن هذه الكلمة: هي الدفاع عن عرض مسلمٍ في مجلس السلطان، كونه مثلًا يقع أحدٌ من الناس في عرض أحدٍ، ثم يقوم أحد الناس ويدافع عنه، يريد بذلك الثواب عند الله ، قال الكثير من العلماء: إن هذه هي الكلمة التي يكتب الله تعالى بها رضوانه إلى يوم القيامة.

لكن الصحيح: أنها لا تنحصر في هذا، يعني هذا نوعٌ منها، ولا تنحصر في ذلك.

فالإخلاص شأنه عظيمٌ، وهو الذي تتفاوت به الأعمال تفاوتًا عظيمًا؛ ولهذا ينبغي للمسلم -خاصةً لطالب العلم- أن يربي نفسه على تحقيق الإخلاص في جميع أموره، في جميع أعماله وتصرفاته وعباداته، إلا -كما ذكرنا- إذا ترتب على الإعلان والإظهار مصلحةٌ؛ كالاقتداء ونحو ذلك.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 1، ومسلم: 1907.
^2 جامع العلوم والحكم: (ص 55)، ت الفحل.
^3 الآداب الشرعية لابن مفلح: (2/ 40)، ط عالم الكتب.
^4 الجامع لأخلاق الراوي للخطيب البغدادي: (1/ 317)، ط مكتبة المعارف.
^5 حلية الأولياء للأصبهاني: (8/ 347)، عن بشر بن الحارث.
^6 تفسير البغوي: (5/ 124).
^7 رواه البخاري: 660، ومسلم: 1031.
^8 رواه الترمذي: 2319، وابن ماجه: 3969، وقال الترمذي: حسن صحيح.
مواد ذات صلة
zh