logo
الرئيسية/مقاطع/قصة أم سليم زوجة أبي طلحة رضي الله عنهما

قصة أم سليم زوجة أبي طلحة رضي الله عنهما

مشاهدة من الموقع

هذه القصة قصةٌ عجيبةٌ.

كان أبو طلحة في سفرٍ، وقبل أن يَقدَم من سفره مات ابنٌ له، وهذا الابن هو الغلام الذي هو أبو عُميرٍ، صاحب النُّغَيْـر، الذي كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا مرَّ؛ يداعبه ويُـمازحه ويقول: يا أبا عُميرٍ، ما فعل النُّغَيْـر؟ [1]، كان عنده عصفورٌ فمات، فالنبي عليه الصلاة والسلام لما لقيه أراد أن يمازحه فقال لهذا الصبي: يا أبا عُمَيرٍ، ما فعل النُّغَيْـر؟.

هذا الغلام مات قُبَيل وصول أبي طلحة، أمه أم سُلَيمٍ صنعت موقفًا عجيبًا عظيمًا، يندر أن تصنع مثله امرأةٌ، كتمت الأمر، وغطَّت هذا الغلام، ولـمَّا أتى -كما في الرواية الأخرى- أول ما سأل سأل عن ابنه، وكان مريضًا، كان يعلم بأنه مريضٌ، قالت: “هو أسكن ما يكون”، وهي تريد أنه قد مات، وفهم بأنه بـحالٍ جيدةٍ.

فقرَّبت إليه عشاءً، وكان صائمًا، أفطر وأكل وشرب، ثم صنعت موقفًا أعجب من هذا، ابنها ميتٌ ومُسجًّى، وتصنع هذا كله، تقرب لزوجها العشاء، “ثم قامت وتصنَّعت له -يعني: تزيَّنت له- أحسن ما كانت تَصَنَّعُ، فوقع بـها -يعني جامعها- فلـما رأت أنه قد شبع وأصاب منها؛ خاطبته وقالت: يا أبا طلحة، أرأيت لو أن قومًا أعاروا عاريَّتهم أهل بيتٍ، فطلبوا عاريتهم، ألهم أن يـمنعوهم؟ قال أبو طلحة: لا، يعني: هي عاريَّتهم، كيف يـمنعوهم؟! قالت: فاحتسب ابنك، يعني: فابنك هو عاريّةٌ من الله ​​​​​​​ عندنا، وقد أخذ الله تعالى عاريَّته، فغضب أبو طلحة، قال: لماذا لـم تخبريني بوفاته أول ما قدمت من السفر؛ لماذا تتركينني حتى أتلطَّخ بـما تلطَّخت به.

ثم ذهب وانطلق إلى النبي عليه الصلاة والسلام فأخبره بـما كان، فالنبي دعا لهما بالبركة، قال: بارك الله لكما في غابر ليلتكما [2]، يعني: في جماع تلك الليلة، سبحان الله! حملت من تلك الليلة، ولـما كانت في الشهر الأخير، كانت مع النبي عليه الصلاة والسلام في سفرٍ هي وزوجها، وكان النبي عليه الصلاة والسلام إذا أتى المدينة من سفر؛ لا يطرقها طُروقًا، لـمَّا دنوا من المدينة أقام، ضربـها المخاض، مخاض الولادة، فاحتبس عليها زوجها أبو طلحة، يعني: تأخر عن الجيش وعن الرفقة، وانطلق النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة.

أبو طلحة جعل يعتذر، يقول: يا رب، إنك لتعلم أنه يعجبني أني أخرج مع رسولك إذا خرج، وأدخل معه إذا دخل، لكن قد احتبست بـما ترى؛ لـمَّا سمعت أم سليمٍ هذا الكلام تصبَّـرت وتجلدَّت، وقالت: يا أبا طلحة، ما أجد الذي كنت أجد، يعني: أن الطلق خفيفٌ، وليس عليَّ مشقةٌ، انطلق مع النبي عليه الصلاة والسلام، فانطلقنا، قال: فلـمَّا قدم المدينة ضربـها المخاض فولدت غلامًا، فقالت أم سُلَيمٍ لابنها أنسٍ: لا يُرضعه أحدٌ حتى تغدو به على رسول اللّـه ؛ لأجل أن يـحنكه وأن يسميه، فاحتمله أنسٌ وأتى به للنبي .

قال: فصادفته ومعه مِيْسَمٌ -يعني: الآلة التي يُوسَم بـها الحيوانات، يوسم بها البعير، آلة الوَسْم- فلـمَّا رآني قال: لعلَّ أم سُلَيمٍ ولدت؟ قلت: نعم؛ لأنه رأى أنسًا ومعه طفلٌ، فعرف أن أمه ولدت، فوضع الميسم، قال: وجئت به فوضعته في حجره، فدعا رسول الله بعَجْوةٍ من عجوة المدينة، يعني: بتمرةٍ من العجوة، فلاكها في فيه -يعني: مضغها حتى ذابت- ثم قذفها في فِي الصبي، يعني: حَنَّكَه، فجعل الصبي يتلمَّظها -يتطعَّمها- فقال النبي عليه الصلاة والسلام مُـمازحًا من عنده: انظروا إلى حب الأنصار التمر، يعني: الأنصار هم أهل زراعةٍ وأهل حرثٍ، وعندهم نـخيلٌ وتـمرٌ، بخلاف أهل مكة، كانوا أصحاب تجارةٍ، لـم يكن عندهم نخيلٌ ولا تـمرٌ، فقال: انظروا إلى حب الأنصار التمر، فمسح وجهه وسـمَّاه عبدالله، وبارك الله تعالى في هذا المولود، جاء في رواية البخاري عن أحد الأنصار قال: رأيت له تسعة أولادٍ كلهم قد قرأ القرآن، ببركة دعاء النبي .

هذه القصة قصةٌ عجيبةٌ، من أبرز فوائدها:

  • أولًا: المنقبة العظيمة لهذه المرأة، أم سليمٍ؛ بصبرها ورضاها بقضاء الله وقدره، وهذا الموقف العظيم يدل على كمال عقلها وعلمها، وعظيم تديُّنها وورعها، وصدقها مع ربـها ​​​​​​​، وأيضًا عظيم اليقين عندها، امرأةٌ يـموت ابنها، وتصنع هذا الموقف؟! يـموت ابنها، ثم يَقدَم زوجها من سفرٍ، فتخفي أثر المصيبة عليها، وتتجرع الألـم، وتصنع العشاء لزوجها، ثم بعد ذلك تضرب موقفًا أعجب من هذا، تتصنَّع له حتى قضى حاجته منها، ثم بعد ذلك تخبره بأسلوبٍ فيه لطفٌ ورفقُ، تقول: يا أبا طلحة، لو أن قومًا أعاروا عاريتهم أهل بيت فطلبوا عاريتهم، ألهم أن يـمنعوهم؟ يعني: أرادت أن تقنعه بـهذا، قال: لا، قالت: فاحتسب ابنك.
    هذا الموقف يدل على قوة إيـمانـها ويقينها، وكمال عقلها ورشدها، وإلا فأكثر النساء لا يصلن لهذه المرتبة العظيمة، ربـما أيضًا حتى أكثر الرجال، ما بالك بامرأةٍ تصنع هذا الموقف؟! وهذا يدل على عظيم أثر الإيـمان على النفوس، وأن الإيـمان ما إن يستقر في القلب، حتى يصنع بصاحبه الأعاجيب، فانظر إلى أثر الإيـمان القوي الذي جعل هذه المرأة تصنع هذا الموقف العجيب العظيم، الذي يندر أن أحدًا من النساء -بل حتى من الرجال- يصنع مثلها!
  • أيضًا من الفوائد: أن من ترك لله شيئًا، ورضي بقضاء الله وقدره؛ عوَّضه الله خيرًا منه، فأم سليم لـما مات ابنها، رضيت بقضاء الله وقدره، وصنعت ما صنعت، وكذلك أيضًا زوجها أبو طلحة، وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام، فدعا لهما بالبركة، وعوضهما الله ​​​​​​​ ابنًا جعله الله تعالى مباركًا، ورُزق هذا الابن بتسعةٍ من الولد كلهم قد قرءوا القرآن، فمن ترك لله شيئًا عوضه الله خيرًا منه.
  • أيضًا من فوائد هذه القصة: بيان عظيم شأن الرضا بقضاء الله وقدره؛ فإن أم سليمٍ لـم تكن تصنع هذا الموقف العظيم، وهذا الموقف العجيب لولا أنـها قد رضيت بقضاء الله وقدره بـهذه المصيبة، ومرتبة الرضا بالقضاء والقدر من المراتب العلية الرفيعة، التي لا يوفق لها إلا أولياء الله ​​​​​​​.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 6129، ومسلم: 2150.
^2 رواه مسلم: 2144.
مواد ذات صلة
zh