logo
الرئيسية/مقاطع/موعظة عن حقيقة الدنيا والاستعداد للدار الآخرة

موعظة عن حقيقة الدنيا والاستعداد للدار الآخرة

مشاهدة من الموقع

لا بد أن الإنسان –أيها الأخوة- يعرف حقيقة هذه الدنيا، وأن مقامه في هذه الدنيا مؤقَّتٌ، وأنـها دار مـمرٍّ وعبورٍ.

أين من كان قبلنا قبل مئة سنةٍ مثلًا؟ نحن الآن في هذا العام الهجري (1442 هـ)، أين من كان قبلنا عام (1342)؟ هم الآن في قبورهم، طيب ماذا يتمنون الآن؟! سنكون مثلهم بعد مئة سنةٍ مثلًا (1442هـ)، أين نحن؟ وماذا نحن نتمنَّـى في ذلك الحين؟!

فيطرح الإنسان مثل هذه الأسئلة على نفسه؛ يتبيَّـن له حقيقة هذه الدنيا، وأنـها لا تستحق من الإنسان كل هذا العناء، وكل هذا النصب، وكل هذا الشقاء، وكل هذه المصادمات، وكل هذا الصخب، وأن الإنسان إنـما يُغبَط فيها على عمله الصالح، هذا والله هو الذي يُغبَط، وما عدا ذلك لا يُغبط، تغبطه على ماذا؟ الذي يُغبط: هو من اغتنم عمره في طاعة الله ​​​​​​​، وأما الدنيا فمهما أوتي الإنسان من الدنيا؛ فهي إلى الفناء؛ كما قال الله سبحانه.

انظر إلى هذه الآيات العظيمة، يقول ​​​​​​​: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً، يعني: لولا أن يجتمع الناس كلهم على الكفر؛ لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ [الزخرف:33]، يجعل الله بيوتـهم وسقفهم كلها من فضة، وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ [الزخرف:33]، يعني: سلالـم من فضةٍ، يظهرون عليها ويصعدون، وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ [الزخرف:34]، وأبوابًا من فضةٍ ومن ذهبٍ، وسررًا يتكئون عليها، غاية الرفاهية، وَزُخْرُفًا [الزخرف:35]، يعني: وذهبًا، الزخرف هو الذهب، يعني: بيوتًا مبنيةً من ذهبٍ ومن فضةٍ، وسررًا يتكئون عليها، يعني: غاية الرفاهية.

ولكن ماذا قال ​​​​​​​ بعد ذلك؟

وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الزخرف:35]، كل هذه دنيا زائلةٌ فانيةٌ، وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:35]، يعني: أن الدنيا لا تساوي عند الله شيئًا، ولولا أن يجتمع الناس على الكفر؛ لجعل الله تعالى لمن كفر لبيوتـهم سُقُفًا من فضةٍ، وجعل بيوتـهم مبنيةً من ذهبٍ ومن فضةٍ، وجعل لهم سررًا يتكئون عليها، وجعلهم في غاية الرفاهية، وهذا يدل على أن هذه الدنيا حقيرةٌ، وأنـها لا تساوي عند الله ​​​​​​​ شيئًا.

الدنيا مزرعةٌ للآخرة، فمُقامنا في هذه الدنيا مُقامٌ مؤقَّتٌ، والحياة الحقيقة هي الحياة في الدار الآخرة؛ ولهذا إذا رأى الإنسان أهوال يوم القيامة ماذا يقول؟ يقول: يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [الفجر:24]، طيب، أليست حياتك في الدنيا حياةً؟ لا، الحياة الحقيقة هي الحياة في الدار الآخرة، يقول عن حياته في الدنيا: لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [البقرة:259]، قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ۝قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [المؤمنون:112-113]، وإذا كنت لا تصدقنا؛ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ [المؤمنون:113]، تنكمش أعمارهم في الدنيا حتى تصبح كأنـها يومٌ أو بعض يومٍ.

سبحان الله! عندما يرون أهوال يوم القيامة، الموقف فقط، الموقف يوم القيامة خمسون ألف سنةٍ، ماذا يرى الإنسان عمره القصير هذا في هذه الدنيا، كم يعيش؟ كم؟ سُنَيَّاتٍ قليلةً، ستين، سبعين، ثـمانين، قل مئة سنةٍ، كم نسبتها إلى خمسين ألف سنةٍ؟ هذا فقط الموقف يوم القيامة، وإلا ما بعد ذلك حياةٌ أبديةٌ سرمديةٌ، فكيف يُؤْثِر الإنسان هذه الدنيا على الدار الآخرة الباقية؟! فكيف يؤثر الإنسان هذه الدنيا الفانية على الدار الآخرة الباقية؟! على أن هذه الدنيا لا تصفو لأحدٍ، وإنـما طبعت على كدرٍ، هل رأيتم أحدًا صفت له الدنيا؟

طُبعت على كدرٍ وأن تريدها صفوًا من الأكدار والأقذار
ومُكلِّفُ الأيام فوق طِبَاعها مُتطلبٌ في الماء جذوة نار[1]

هذه الدنيا خلق الله الإنسان فيها في كبدٍ، لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4]، فهي لا تصفو للإنسان، لكن حتى لو صفت له، لو افترضنا هذا افتراضًا، ثم ماذا؟ النتيجة: ثم إلى الفناء، ومحاسبٌ على جميع أعماله في الدنيا، محاسبٌ عليها حسابًا عسيرًا، حسابًا شديدًا.

فينبغي أن ينظر الإنسان لهذه الدنيا على حقيقتها؛ لأن بعض الناس يعيش في هذه الدنيا لاهيًا غافلًا، يركض وراء هذه الدنيا وكأنه سيُخلَّد فيها آبد الآباد، ثم فجأةً يأتيه الموت فيستيقظ، ويرى أنه كان في غفلةٍ، وأنه كان في ذهولٍ، ثم يندم الندم العظيم حين لا ينفعه الندم.

فنحن الآن -أيها الإخوة- في هذه الدنيا في دارٍ يتمنَّاها الأموات؛ لأن باب العمل عندنا لا زال مفتوحًا، وباب التوبة لا زال مفتوحًا، بإمكاننا أن نتدارك، بإمكاننا أن نعمل، فينبغي أن نغتنم هذه ما تبقى من أعمارنا.

أسأل الله تعالى أن يستعملنا جميعًا في طاعته، وأن يعيننا على ذكره وعلى شكره، وعلى حسن عبادته.

ونكتفي بهذا القدر في التعليق على “لطائف الفوائد”[2]، والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 للشاعر علي بن محمد التهامي؛ تاريخ بغداد للخطيب البغدادي: (19/ 38)، ط دار الكتب العلمية.
^2 لطائف الفوائد للأستاذ دكتور سعد بن تركي الخثلان، ط دار الصميعي.
مواد ذات صلة
zh