logo
الرئيسية/مقاطع/معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات»

معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات»

مشاهدة من الموقع

هذا الحديث العظيم: حُفَّت الجنة بالمكاره، وحُفَّت النار بالشهوات [1].

قال النووي: قال العلماء: هذا من بديع الكلام وفصيحه وجوامعه التي أُوتيها النبي من التَّمثيل الحسن، ومعناه: لا يُوصل للجنة إلا بارتكاب المكاره، والنار بالشهوات[2].

والمراد بالمكاره: ما أُمِرَ المُكلَّف بمُجاهدة نفسه فيه فعلًا وتركًا: كالإتيان بالعبادات على وجهها من الصلاة والصيام والزكاة والحج وبقية العبادات، وكذلك اجتناب المنهيات قولًا وفعلًا: اجتناب الغيبة والنميمة والسخرية وجميع المعاصي القولية، وكذلك جميع المعاصي الفعلية، وهذه تحتاج إلى مُجاهدةٍ للنفس؛ ولذلك سُميت: مكاره، وحُفَّت الجنة بها، وأُطلق عليها “المكاره” لمشقتها وصعوبتها.

وأما الشهوات فالمراد بها في الحديث: ما يُتلذذ به من أمور الدنيا مما منع الشارع من تعاطيه.

يعني: المقصود الشهوات المُحرمة: كالزنا، وشرب الخمر، ونحو ذلك.

فالجنة حُفَّت بالمكاره، والنار حُفَّت بالشهوات.

وقد جاء عند أحمد وأبي داود والنسائي بسندٍ صحيحٍ عن أبي هريرة : أن النبي قال: لما خلق الله الجنة والنار أرسل جبريل، فقال: اذهب إلى الجنة وانظر إليها وإلى ما أعددتُ لأهلها، فذهب جبريل ونظر إلى الجنة، وقال: يا رب، لا يسمع بها أحدٌ إلا دخلها، فأمر بها فَحُفَّت بالمكاره، ثم قال الله له: اذهب إليها فانظر لها وما أعددتُ لأهلها، فذهب ونظر إليها، فإذا هي قد حُفَّت بالمكاره، فقال: يا رب، لقد خشيتُ ألا يدخلها أحدٌ، قال: فاذهب إلى النار وانظر إليها وإلى ما أعددتُ لأهلها، فذهب إلى النار ونظر إليها، وإذا هي يركب بعضها بعضًا، فقال: يا رب، وعزتك لا يسمع بها أحدٌ فيدخلها، فَحُفَّت بالشهوات، ثم قال الله له: انظر إليها، فنظر إليها فإذا هي قد حُفَّت بالشهوات، فقال جبريل: وعزتك خشيتُ ألا ينجو منها أحدٌ [3].

فالجنة حُفَّت بالمكاره، والنار حُفَّت بالشهوات، فطريق الجنة ليس سهلًا، وإنما هو طريقٌ صعبٌ محفوفٌ بالمكاره؛ لأن ثمراته عظيمةٌ جدًّا: السعادة الأبدية في دار الخلود.

وبعض الناس يعتقد أنه لا بد أن يكون طريق الجنة سهلًا مُعَبَّدًا بالورود، وهذا غير صحيحٍ؛ ولهذا تجد أن بعض الناس يُنكر على المُفتي إذا قال: حرامٌ، يقول: لا تُشدد على الناس، الجنة حُفَّت بالمكاره، الحرام يبقى حرامًا، حتى وإن كانت فيه مشقةٌ على النفوس يبقى حرامًا، والواجب يكون واجبًا وإن كانت فيه مشقةٌ على النفوس؛ لأن الجنة حُفَّت بالمكاره.

وكما قال ابن القيم:

يا سلعة الرحمن لستِ رخيصةً بل أنت غاليةٌ على الكسلان[4]

وطريق النار حُفَّ بالشهوات، طريق النار طريقٌ تنجرف معه النفس، وتميل إليه النفس بطبيعتها؛ ولذلك تحتاج إلى نهيٍ، كما قال الله تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى۝ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40- 41]، فطريق النار محفوفٌ بالشهوات المُحببة للنفس، والتي تميل إليها النفس.

فهذا المعنى ينبغي أن يكون حاضرًا لدى المسلم، وهو: أن طريق الجنة محفوفٌ بالمكاره، فيحتاج إلى صبرٍ ومُصابرةٍ ومُجاهدةٍ، والنفس إذا روَّضها الإنسان ارتاضتْ على طاعة الله، المُجاهدة تكون في البداية، ثم لا تجد بعد ذلك صعوبةً.

مثلًا: صلاة الفجر مع الجماعة في المسجد، الذي روَّض نفسه عليها لا يجد صعوبةً فيها، إنما يجد الصعوبة الإنسان الذي لم يُروض نفسه عليها، يجد ثقلًا وكسلًا وترددًا، لكن مَن روَّض نفسه واعتاد على صلاة الفجر لا يجد أدنى صعوبةٍ، وهكذا بالنسبة لبقية الطاعات، واجتناب المعاصي، فطريق الجنة طريقٌ محفوفٌ بالمكاره: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142].

ثم أيضًا طريق الجنة يكون الإنسان فيه مُعرَّضًا للابتلاء: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ۝ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:2- 3].

بعض الناس يدَّعي أنه قوي الإيمان، لكن ما إن تحصل فتنةٌ أو شدةٌ أو ابتلاءٌ إلا وسرعان ما يسقط، ومن حكمة الله ​​​​​​​ أنه يُقدر بعض الأحداث للتَّمحيص وتمييز الخبيث من الطيب: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران:179]، لا بد من التَّمايز، والتَّمايز يكون بالابتلاء.

ولهذا فعلى المسلم أن يحرص على الثبات، وأن يسأل الله تعالى الثبات، فطريق الجنة إذن طريقٌ محفوفٌ بالمكاره، وصاحبه مُعرَّضٌ للابتلاء، وأشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، إن كان في دينه صلابةٌ شُدد عليه في البلاء.

لا بد أن يُوطن المسلم نفسه على ذلك، وكما مرَّ معنا في الحديث السابق في الأسبوع الماضي: مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع؛ تُفيئها الريح يمنةً ويسرةً، ومثل المُنافق كشجرة الأرز؛ لا تهتزّ حتى تُستحصد [5].

فالمؤمن كثير الآلام والمصائب والابتلاء، لكن عاقبته حميدةٌ في جنةٍ عرضها السماوات والأرض في حياة الخلود.

وأما طريق النار فهو طريقٌ مُعبَّدٌ بالشهوات، النفس تميل إليه بطبيعتها، لكن عاقبته وخيمةٌ؛ يكون الإنسان في عذاب الجحيم في حياة الخلود.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه مسلم: 2822.
^2 شرح صحيح مسلم للنووي: (17/ 165)، ط دار إحياء التراث العربي.
^3 رواه أبو داود: 4744، والترمذي: 2560 وقال: حسنٌ صحيحٌ، والنسائي: 3763، وأحمد: 8398.
^4 نونية ابن القيم: (ص 297)، ط عطاءات العلم.
^5 رواه بنحوه البخاري: 5644، ومسلم: 2810.
مواد ذات صلة
zh