logo
الرئيسية/برامج تلفزيونية/عقود المعاوضات المالية- جامعة الإمام/(11) عقود المعاوضات المالية- بعض النصوص في تحريم الربا

(11) عقود المعاوضات المالية- بعض النصوص في تحريم الربا

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

حياكم الله تعالى، في هذه المحاضرة من مادة عقود المعاوضات المالية، وهذه هي المحاضرة الحادية عشر، في هذه المادة، كنا قد تكلمنا في آخر المحاضرة السابقة، ابتدأنا الحديث عن الربا، بعدما انتهينا من مسائل وأحكام البيوع، ابتدأنا الحديث عن الربا، وبدأت الكلام عن بيان عظيم إثمه، وذنبه ومعصيته عند الله ​​​​​​​، وأن الربا محرم في جميع الشرائع السماوية، ولا شك أن ما اتفقت الشرائع على تحريمه، يدل على عظيم ضرره على الأفراد والأمم والمجتمعات.

بعض النصوص الواردة في التحذير من الربا

وقد شدّدت الشريعة الإسلامية في شأن الربا تشديدًا عظيمًا؛ ولذلك أتت النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة مُبينة عظيم إثم الربا، وعظيم معصيته، ووبال عاقبته.

بعض النصوص من القرآن في التحذير من الربا

وفي المحاضرة السابقة، كنتُ قد بدأت الحديث، وذكرت، أو بدأت بذكر بعض النصوص من القرآن الواردة في التحذير من الربا، وتكلمت عن تفسير الآية الكريمة: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة:275].

أقول أيضًا: من النصوص الواردة في الربا ما ذكره الله تعالى في سورة البقرة في قوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ۝فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ [البقرة:278-279]، وقبل أن أتحدث عن هذه الآيات، أقول: إنّ الله تعالى قبل ذلك توعّد آكل الربا بعد معرفة تحريمه؛ لما قال: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:275]، نتكلم عن هذه الآية قبل أن نتكلم عن آيات: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ لأنها هي الأسبق في ترتيب الآيات وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ فتوعّد الله الذي يعود إلى الربا بعد معرفة تحريمه بهذا الوعيد الشديد وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، ثم قال : يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [البقرة:276].

معنى يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا

يمحق الله الربا، قال ابن كثير: “يخبر تعالى بأنه يمحق الربا، أي: يذهبه، وإما بأن يذهبه بالكلية من يد صاحبه، أو أن يحرمه بركة ماله، فلا ينتفع به، بل يعذبه بها في الدنيا، ويعاقبه عليه يوم القيامة”؛ ولذلك -يا إخوان- أموال المرابي ممحوقة البركة بأخبار ربنا ، أموال المرابي ممحوقة قطعًا، ومن أصدق من الله حديثًا؛ ولهذا أموال المرابي، إما أن يُسلط الله عليها من الآفات ما يذهبها، وإما أن تبقى في يد صاحبها، لكنه محروم منه، لا بركة فيه، بل صاحبها محروم منها، لا ينتفع بها، لا في الدنيا ولا في الآخرة، بل هي وبال على صاحبها، تعب في الدنيا، وعذاب في الآخرة، ألسنا نرى -أيها الإخوة- في المجتمع من هو يحوز ثروة كبيرة من الأموال، لكنه في الحقيقة محروم منه، هو بمثابة الحارس لها، يحرسها طيلة حياته، لا ينتفع بها لا في الدنيا ولا في الآخرة، بل إنه وبال عليه في الآخرة، وفي الدنيا يحرسها للورثة من بعده، أليس هذا في الحقيقة من أعظم الحرمان؟

تعب في جمعها وفي تحصيلها ثم بعد ذلك لا ينتفع بها ولا يستفيد منها، بل تكون هذه الأموال وبالًا عليه، بل إنه يعذب بها يوم القيامة، لا شك أنّ هذا من أعظم ما يكون من الحرمان، وهذا كله قد يكون من أسباب هذا الحرمان أن هذه الأموال شابها الربا، والله تعالى قد أخبر بأنه يمحق الربا يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ.

حكم المُرابي

ثم قال: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ [البقرة:276]، فوصف الله المرابي بأنه كفار أثيم، وهذه طبعًا نصوص الوعيد، يعني لا يقال: من أكل الربا يكون كافرًا، عند أهل السنة والجماعة؛ لأن عند أهل السنة والجماعة أن مرتكب الكبيرة مُؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، لكنه لا يكفر.

وأما في الآخرة فهو تحت مشيئة الله تعالى إن شاء الله عذبه، وإن شاء عفا عنه، لكنه لا يُخلّد في النار، هذا هو معتقد أهل السنة والجماعة في شأن مرتكب الكبيرة، خلافًا لبعض الفرق المبتدعة التي تكفر مرتكب الكبيرة، فنقول: إنّ هذه الآية من نصوص الوعيد وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ [البقرة:276]، فأخبر سبحانه بأنه لا يحب المرابي، وحرمانه من محبة الله تعالى يستلزم أن الله يبغضه، وأن الله يمقته، وتسميته: كَفارًا، أي: مبالغًا في كفر النعمة، وكما قلنا: هو الكفر الذي لا يخرج من الملة، فهو كفار بنعمة الله ؛ لأنه لا يرحم العاجز، ولا يساعد الفقير، ولا ينظر المعسر، أو أن المراد بالكفار: الكفر المخرج من الملة، إذا كان يستحل الربا، فإن من استحل الربا هو كافر كفرًا أكبر بإجماع العلماء.

ووصفه الله بأنه أثيم، يعني: مبالغة في الإثم، وأثيم من صيغ المبالغة، على وزن فعيل، ثم بعد ذلك نعود للآيات التي أشرت إليها قبل قليل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:278]، نهى الله تعالى عباده المؤمنين عن الربا، وأعلن الحرب على المُرابي، فقال: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ [البقرة:279]، في هاتين الآيتين جملة من التهديدات عن تعاطي الربا.

  • أولًا: أنه سبحانه نادى عباده باسم الإيمان: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، ثم ختم الآية بقوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فدل على أن تعاطي الربا لا يليق بالمؤمن.
  • ثانيًا: أن الله سبحانه قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ فدل على أن الذي يتعاطى الربا لا يخاف الله، ولا يتقيه.
  • ثالثًا: أن الله سبحانه قال: وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا أي: اتركوا، وهذا أمر بترك الربا، فدل على أن من يتعاطى الربا قد عصا أمر الله.
  • رابعًا: أن الله سبحانه أعلن الحرب على من لم يترك التعامل بالربا، قال: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا يعني: فإن لم تتركوا الربا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أي: اعلموا أنكم تحاربون الله ورسوله، قال ابن عباس رضي الله عنهما: “يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب، ثم قرأ هذه الآية”، وهذا في الحقيقة من باب تبكيت له، وإلا فإنه لا يمكن أن يحارب الله ورسوله، لكن هذا مبالغة في تبكيته وفي إذلاله.
  • خامسًا: تسمية المرابي ظالمًا فَلَكُمْ رُؤوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ وهذا يقتضي أن الربا ظلم في الحقيقة، هو ظلم من المرابي لمن يتعامل معه، هو في الغالب لا يخلو من الظلم، وإن كان أيضًا في بعض صوره قد لا يكون فيها ظلمًا، لكنه في الغالب لا ينفك من الظلم، فهذه النصوص -أيها الإخوة- من القرآن تدل على عظيم إثم هذه المعصية؛ ولذلك هي من كبائر الذنوب، ومن السبع الموبقات.

بعض نصوص السنة في التحذير من الربا

السنة أيضًا ورد فيها أحاديث كثيرة، فيها التحذير من الربا، وبيان عظيم إثمه عند الله ، ومن ذلك ما جاء في صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: “لعن رسول الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه” وقال: هم سواء[1].

واللعن يقتضي الطرد والإبعاد عن رحمة الله، حتى أن اللعن لم يختص فقط بآكل الربا وموكله، وإنما شمل حتى كاتبه وشاهديه؛ وذلك لعظيم وشناعة هذه المعصية، وجاء في صحيح البخاري عن سمرة بن جندب  أن النبي  قال: أتاني الليلة آتيان، وإنهما قالا لي: انطلق انطلق إلى أن قال: فانطلقنا حتى إذا أتينا على نهر من دم، فيه رجل يسبح، وعلى شط النهر رجل بين يديه حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح ما يسبح، ثم يأتي ذلك الرجل الذي جمع عنده أي: الحجارة فيفغر أي: يفتح له فاه فيلقمه حجرًا، فينطلق يسبح، ثم يرجع إليه، كلما رجع إليه فغر له فاه، فألقمه حجرًا، فقلت -سبحان الله-: ما هذان؟ فقال لي: انطلق انطلق ثم أخبره بعد ذلك بأنه آكل الربا [2].

وجاء فيه عن ابن مسعود أنّ النبي قال الربا ثلاثة وسبعون بابًا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه [3]، رواه الحاكم، وقال: صحيح على شرط البخاري ومسلم.

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : الربا سبعون بابًا، أدناها كالذي يقع على أمه [4]، قال المنذري: رواه البيهقي بإسناد لا بأس به.

وعن عبدالله بن حنظلة قال: قال رسول الله : درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم، أشد من ستة وثلاثين زنية [5]، رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح.

وهذا يدل على أن الربا أعظم في الإثم من الزنا، وإن كان الزنا أيضًا من كبائر الذنوب، إلا أن الربا أعظم إثمًا منه، كما قلنا: في آخر الحلقة السابقة، أو آخر المحاضرة السابقة، قلنا: إن الربا هو من أعظم كبائر الذنوب، والنصوص في الحقيقة كثيرة، يعني لا أريد أن نتوسع في هذه، النصوص كثيرة في التحذير من الربا، وبيان عظيم إثمه عند الله ، قال ابن دقيق العيد رحمه الله: “آكل الربا مجرب له سوء الخاتمة”.

الحكمة من تحريم الربا

لماذا حرّمت الشريعة الإسلامية الربا؟ كما قلنا: محرم في جميع الشرائع السماوية، يعني: ما الحكمة من تحريم الربا؟ لماذا كان فيه هذا التشديد؟ أقول: حرّم الله تعالى الربا لما فيه من الضرر العظيم على الفرد وعلى المجتمع، فالربا يخل بنظام المجتمع، ويقسم الناس إلى طبقتين، طبقة غنية تزداد غنى، وطبقة فقيرة تزداد فقرًا، وأثره كبير ومدمر على مستوى الأفراد وعلى مستوى المجتمعات، ونذكر من وجوه الحكمة من تحريم الربا:

  • أولًا: أن الربا يتضمن ظلمًا واضحًا، خاصة في ربا الديون، وربا القرض، ففيه أخذ للمال بغير عوض، وبغير مقابل؛ لأن من يبيع درهمًا بدرهمين إلى أجل، يحصل على زيادة درهم من غير عوض، ومن غير جهد، ومن غير عمل، ومن غير تعرض لربح وخسارة، وإنما يعيش على كد وسعي الآخرين، فهذا المرابي يشارك الزارع في زرعه، والصانع في مصنعه، والعامل في معمله، والتاجر في مكسبه، من غير أن يقوم هو بأي عمل، وإنما تأتيه أرباحه، وهو آمن في بيته، بينما غيره كادح وجل يخشى الخسارة في عمله وماله.
    وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحكمة، حيث سمى المرابي ظالمًا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ۝فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ [البقرة:278-279]، فأشار الله تعالى إلى هذه الحكمة، وهي تضمن الربا للظلم.
  • ثانيًا: أن الربا يُربّي الإنسان على الكسل والخمول والابتعاد عن الاشتغال بالمكاسب النافعة، والسعي في الأرض بالزراعة أو الصناعة أو التجارة؛ وذلك لأن الإنسان إذا رأى أنه إذا أودع نقوده في بنك حصل على فائدة ثابتة مضمونة، فعل ذلك وأخلد إلى الراحة والكسل، وبهذا تتعطل مواهب الأمة، وتخسر الأمة أيادٍ، كان بوسعها واستطاعتها أن تسعد نفسها وتسعد غيرها، بدلًا من إسعاد نفسها على حساب مضرة الآخرين؛ ولهذا قال بعض أهل العلم: إن الله تعالى إنما حرم الربا من حيث إنه يمنع الناس من الاشتغال بالمكاسب؛ وذلك لأن صاحب الدرهم إذا تمكن بواسطة عقد الربا من تحصيل الدراهم الزائدة نقدًا كان أو نسيئة، خف عليه اكتساب المعيشة، فلا يكاد يتحمل مشقة الكسب والتجارة والصناعات الشاقة.
  • ثالثًا: الربا يُفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس، وسد باب التعاون والإحسان والمواساة، ويُؤدي إلى تكدس الأموال بأيدي نفر قليل من المرابين، فالغني يزداد غنىً، والفقير يزداد فقرًا، وينقسم المجتمع إلى طبقتين: طبقة الأغنياء المتخمين، وطبقة الفقراء المعدمين، وهذا في الحقيقة يُورث العداوة والبغضاء بين طبقات المجتمع؛ ولذلك لا تكاد تُوجد آية من آيات التحذير من الربا، إلا وقبلها أو بعدها آية أو آيات تحث على الصدقة، وعلى الإنفاق، وعلى البذل في سبيل الله ، وعدم استغلال حاجة الفقراء والمعسرين، حتى لا يكون المال دولة بين الأغنياء، وحتى لا يستغل القوي الضعيف، ولا يستغل الغني الفقير، وحتى لا تكون حياة الناس حياة مادية بحتة، بحيث لا يكون لا هم للغني فيها إلا تكديس الثروة، وامتصاص أموال الفقراء والمحتاجين والمساكين.
  • رابعًا: أيضًا من وجوه الحكمة من تحريم الربا: أن الربا من أسباب انتشار البطالة وفشوها في المجتمع؛ لأن أصحاب الأموال يفضلون إقراض أموالهم بالربا على استثمارها في إقامة مشروعات صناعية أو زراعية أو تجارية، وهذا بالتالي يُقلّل من فرص العمل، فتنتشر البطالة في المجتمعات التي يفشو فيها الربا، ويُؤكد هذا ما يشاهد من معاناة بعض الدول من مشكلة البطالة، رغم تقدمها في أمور التكنولوجيا وتطورها الصناعي، وهذه حقيقة قد قررها بعض الكتاب الغربيين، وبينوا أن من أبرز أسباب فشو البطالة في أي مجتمع، فشو الربا فيه.
  • خامسًا: الربا من أسباب غلاء الأسعار؛ لأن صاحب المال إذا استثمر ماله في صناعة أو زراعة أو تجارة فلن يرضى ببيع سلعته، أو الشيء الذي أنتجه إلا بربح أكثر من نسبة الربا، أكثر من الفائدة؛ وذلك لأنه يرى أنه قد استثمر المال، وبذل فيه الجهد، وعرّض نفسه للخسارة، فلا بد أن تكون نسبة الربح أكثر من نسبة الربا، وكلما ازدادت نسبة الربا غلت الأسعار، هذا إذا كان المُنتِج أو التاجر صاحب مال، أما إذا كان المُنتِج أو التاجر مما يقترض بالربا، فرفعه أسعار منتجاته والسلعة أمر بدهي، بحيث سيضيف إلى نفقاته ما يدفعه من ربا، وهذه الحقيقة قد أكدها كثير من الاقتصاديين، أكدوا على حقيقة تأثير الربا في رفع الأسعار، وبينوا أن الربا من أسباب ارتفاع الأسعار؛ ولذلك نجد أن المجتمعات التي ينتشر فيها الربا الأسعار فيها مرتفعة، أسعار البضائع والسلع والأشياء مرتفعة، وهذه الحقيقة أمر يتعجب منه الإنسان، دول صناعية متقدمة، ودول كبرى، عندما تريد أن تشتري بعض البضائع أو السلع، تجد أن أسعارها مرتفعة وباهظة جدًّا، من أبرز أسباب ارتفاع الأسعار فيها هو الربا، كما ذكرنا؛ لأن أصحاب المصانع وأصحاب المزارع والعاملون يريدون أن ينالوا أرباحًا أكثر مما يناله المرابي؛ لأن المرابي إذا قيل: تأخذ نسبة وفائدة محددة، من غير أن تتعرض لربح ولا خسارة، فهو لا بد أن هذا العامل لا بد أن هذا الذي يعمل في مصنعه، أو في متجره، أو في مزرعته، لا بد أن يأخذ فوق هذا الربح الذي أو فوق هذه الفائدة التي ينالها هذا المرابي؛ ولذلك هذه من أبرز أسباب غلاء الأسعار، فالربا مرتبط بغلاء الأسعار، وإن كان غلاء الأسعار له أسباب كثيرة، لكن من أبرز الأسباب هو الربا.
  • سادسًا: من وجوه الحكمة الربا من أبرز أسباب الأزمات الاقتصادية التي تحل بالمؤسسات والشركات والدول، فإن من يقترض بفوائد ربوية تتراكم عليه مع مرور الزمن، ويعجز في الغالب عن سدادها، وقد ثبت أنّ الأزمات التي تعتري الاقتصاد العالمي إنما تنشأ غالبًا من الربا، الذي يتراكم مع مرور الوقت على الشركات والدول، ولذلك الأزمة الاقتصادية الأخيرة التي وقعت في آخر عام ألف وأربعمائة وتسعة وعشرين للهجرة، آخر عام ألفين وثمانية ميلادية، كان من أبرز أسبابها هو الربا، التعاملات الربوية المخالفة للشريعة الإسلامية، هذه التعاملات المخالفة للشريعة الإسلامية عمومًا، والتعاملات الربوية على وجه الخصوص.

هذه بعض وجوه الحكمة من تحريم الربا يعني نذكره، وهي أكثر بكثير مما ذكرته، ولكن نكتفي بهذا القدر، ويكفينا أن هذا هو تشريع رب العالمين، خالق العباد، وحكمه وتشريعه هو حِكمة الحِكَم، وهو غاية الحِكَم، قلت لكم: عندما تكلمت عن وجوه الحكمة إن معظم النصوص التي ورد فيها ذكر الربا -خاصة في القرآن- يذكر قبلها أو بعدها الحث على الصدقة، وهذا فيه إشارة إلى أنه ينبغي ألا تكون حياة الناس مبنية على المادة، وإنه ينبغي أن تشيع بينهم الأخلاق الإسلامية: من مساعدة المحتاج، وكذلك أيضًا الصدقة على الفقراء وعلى المساكين، وأن هذا المتصدق إذا تصدق بصدقة يبارك الله تعالى له في ماله، وينتفع بهذه الصدقة في الدنيا والآخرة، كما قال عليه الصلاة والسلام: ما نقصت صدقة من مال [6].

وكما أيضًا جاء في حديث أبي هريرة عند الشيخين: من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب -ولا يقبل الله إلا طيبًا- فإن الله تعالى يقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها، كما يُربي أحدكم فلوه، حتى تكون مثل الجبل [7].

وكما في قول الله : مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261]، ولهذا ذكر الله تعالى آيات الصدقة قبل وبعد آيات الربا، وذكر الله تعالى أيضًا بعد آيات الربا في سورة البقرة، ذكر مسألة إنظار المعسر: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:280].

وأيضًا إنظار المعسر، هذا الإنسان الذي هو مدين لك، وحل عليه الدين وهو معسر، يجب عليك أن تنظره، فإنظار المعسر حكمه أنه واجب، ليس للدائن فيه منة؛ ولذلك لا يحل للدائن أن يطالب المدين المعسر، لا يحل له ذلك، وإذا فعل هذا فإنه يكون آثمًا، وإذا رفع فيه شكاية فحُبس المعسر بسبب شكايته، فإنه يكون آثمًا، وكل يوم يبقى فيه هذا المعسر في الحبس، أو في السجن؛ فإن هذا الذي قد رفع فيه الشكاية تكتب عليه أوزار وآثام؛ لأن المعسر يجب إنظاره.

حكم إنظار المعسر

إذًا، نقول: لو أردنا أن نضع سؤالًا في هذا، نقول: ما حكم إنظار المُعسر؟

الجواب، أنه واجب، الدليل قول الله تعالى: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، أما غير المعسر فإنظاره مستحب، يعني: ينبغي أيضًا للإنسان أن يسعى للتوسعة على إخوانه المسلمين.

طيب بعد أن تكلمنا عن بعض النصوص الواردة في تحريم الربا، وعظيم إثمه، وذكرنا بعض وجوه الحكمة من تحريم الربا، وتكلمنا عن حكم إنظار المعسر ننتقل بعد ذلك للأحكام الفقهية المتعلقة بالربا.

تعريف الربا

ونبتدئ بتعريف الرِّبا في اللغة: الربا: معناه في اللغة الزيادة، ومنه قول الله تعالى: فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [فصلت:39]، أي: زادت وعلت، ومنه قول الله تعالى: أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ [النحل:92] يعني: أكثر عددًا، فمادة الربا في اللغة العربية تدور حول معنى الزيادة.

ومعنى الربا شرعًا: الزيادة في أشياء مخصوصة الزيادة في أشياء مخصوصة، وقد أجمعت الأمة على تحريمه، فمن أنكر تحريم الربا فهو كافر.

الربا ينقسم إلى قسمين: ربا الفضل وربا النسيئة، وأضاف بعض العلماء ربا القرض، أو ربا الديون، وسوف نتكلم -إن شاء الله تعالى- عن هذه الأقسام.

قبل هذا ما هي علة الربا؟ يعني: ما هو الضابط فيما يجري فيه الربا، وما لا يجري فيه الربا؟ هذا إن شاء الله تعالى نرجئ الحديث عنه للمحاضرة القادمة.

وسوف نتكلم إن شاء الله في المحاضرة القادمة عن علة الربا بالتفصيل، وما الذي يجري فيه الربا، وما الذي لا يجري فيه الربا؟ وما يتفرع عن ذلك من مسائل وأحكام، فألتقي بكم على خير في المحاضرة القادمة إن شاء الله تعالى.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه مسلم: 1598.
^2 رواه البخاري: 2085.
^3 رواه الحاكم: 2259.
^4 رواه ابن ماجه: 57، والبيهقي في شعب الإيمان: 5132.
^5 رواه أحمد: 21957، والدارقطني: 2843.
^6 رواه مسلم: 2588.
^7 رواه البخاري: 7430، ومسلم: 1014.
مواد ذات صلة
zh