عناصر المادة
الحمد لله الذي أحاط بكل شيء علمًا، ووَسِع كلَّ شيء رحمةً وعلمًا، وقَهَر كلَّ مخلوق عزةً وحكمًا، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علمًا.
أحمده تعالى وأشكره، حمدًا وشكرًا عدد خلقه، وزنه عرشه، ورضا نفسه، ومداد كلماته.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أرسله الله تعالى بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا.
فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله حق التقوى، اتقوا الله عباد الله؛ فإن تقوى الله هو وصية الله للأولين والآخرين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا [الطلاق:5].
عباد الله:
الحديث في هذه الخطبة عن آخر أهل الجنة دخولًا الجنة، فيصف لنا النبي حاله ودعاءه وحديثه مع الرب ، وصف النبي ذلك في حديثٍ عظيم مُؤثِّرٍ مليء بالدروس والعبر.
وقبل أن نذكر هذا الحديثِ نشير إلى أن الناس بعد وقوفهم في عَرَصات يوم القيامة، في يوم طويلٍ مِقْدارُه خمسون ألف سنة، في يوم ثقيل تشيب من أهواله الوِلْدان.
وبعد نَصْب الموازين ونشر الدواوين، يجتاز جميعُ الناس الصراطَ المنصوبَ على متن جهنم، ويَعْبره جميع الناس، ويعبره أهل الجنة، وتكون سرعة العبور والسير بحسب أعمالهم.
ثم بعد ذلك ينقسم الناس إلى: فريقٍ في الجنة، وفريق في السعير.
ثم إن الله تعالى بمِنَّتِه وفضله وجُوده وكرمه يتفضَّل على مَن مات على التوحيد مِن أهل الكبائر، فيخرجون من النار، ويدخلون الجنة برحمة أرحم الراحمين.
حديث آخر من يخرج من النار ويدخل الجنة
وآخِرُ مَن يخرج مِن النار ويدخل الجنة، يصف النبي قصةَ خروجه من النار وحديثه مع ربه جل وعلا؛ فيقول عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق على صحته: ثم يُضرَب الصراط بين ظَهْرَيْ جهنم، فأكون أنا وأمتي أولَ من يُجِيز، ولا يتكلم يومئذٍ إلا الرسل، ودعوى الرسل يومئذٍ: اللهم سلِّم سلم. وفي جهنم كلاليب مثل شَوْك السَّعْدان، هل رأيتم السعدان؟. قالوا: نعم، يا رسول الله.
قال: فإنها مثل شَوْك السَّعْدان، غير أنه لا يعلم ما قَدْرُ عِظَمِها إلا الله، تخطف الناسَ بأعمالهم أي: بحسب أعمالهم.
حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد، وأراد أن يُخرج برحمته مَن أراد مِن أهل النار، أَمَر الملائكةَ أن يُخرجوا مِن النار مَن كان لا يُشرك بالله شيئًا ممن أراد الله تعالى أن يرحمه، ممن يشهد أن لا إله إلا الله.
فيَعرفونهم في النار، ويَعرفونهم بأثر السجود، تأكل النار من ابن آدم إلا أثر السجود، حَرَّم اللهُ على النار أن تأكل أثر السجود. فيُخرَجون مِن النار وقد امتَحَشوا، فيُصَبُّ عليهم ماءُ الحياة، فيَنبتون منه كما تنبت الحِبَّة في حَمِيل السَّيل.
ثم يَفرُغ اللهُ تعالى من القضاء بين العباد، ويبقى رجلٌ مُقبِلٌ بوجهه على النار، وهو آخِرُ أهلِ الجنة دخولًا الجنة، فيقول: أي ربِّ، اصرف عن وجهي النار، فإنه قد قَشَبَني رِيحُها، وأحرقني ذَكَاؤها. فيدعو اللهَ بما شاء الله أن يدعوه.
ثم يقول الله تبارك وتعالى له: هل عسيتَ إن فعلتُ ذلك بك أن تسأل غيره؟ فيقول: لا، لا أسألك غيره. ويُعطي ربَّه من عهودٍ ومواثيق ما شاء الله، فيصرف الله عن وجهه النار، فإذا أقبل على الجنة ورآها سكت ما شاء الله أن يسكت، ثم يقول: أَيْ ربِّ، قدِّمني إلى باب الجنة.
فيقول الله له: أليس قد أَعْطَيتَ عهودك ومواثيقك لا تسألني غير الذي أعطيتك، ويلك يا ابن آدم، ما أغدرك! فيقول: أي رب، يدعو الله حتى يقول له: فهل عسيتَ إن أعطيتُك ذلك أن تسأل غيره؟ فيقول: لا وعزتك.
فيُعطي ربه ما شاء الله من عهود ومواثيق، فيُقدمه إلى باب الجنة، فإذا قام على باب الجنة، انْفَهَقَتْ له الجنة، فرأى ما فيها من الحَبْرة والسرور، فيسكت ما شاء الله أن يسكت، ثم يقول له: أي ربي، أدخلني الجنة.
فيقول الله تبارك وتعالى له: أليس قد أعطيتَ عهودك ومواثيقك ألا تسأل غير ما أُعطِيتَ؟ ويلك يا ابن آدم، ما أغدرك! فيقول: أي رب، لا تجعلني أشقى خلقك.
فلا يزال يدعو الله تعالى حتى يضحك الله تبارك وتعالى منه، فإذا ضحك الله منه قال له: ادخل الجنة. فإذا دخلها قال الله له: تَمَنَّ.
فيسأل ربَّه، ويتمنى، ويتمنى، ويتمنى حتى تنقطع به الأمانِيُّ، حتى إن الله لَيُذكِّرُه مِن كذا وكذا، حتى إذا انقطعت به الأماني قال الله تبارك وتعالى له: لك ذلك وعشرة أمثاله. وذلك أدنى أهل الجنة منزلةً وآخِرُ مَن يدخل الجنة[1].
أدنى أهل الجنة منزلة
وجاء في “صحيح مسلم” عن المُغيرة : أن النبي قال: سأل موسى ربَّه: ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعدما أُدخل أهل الجنةِ الجنةَ، فيقال له: ادخل الجنة. فيقول: أي رب، كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أَخَذَاتِهم؟!.
فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل مَلِكٍ مِن ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت يا رب. فيقول: لك ذلك، ومثله ومثله ومثله ومثله. فيقول في الخامسة: رضيت يا رب. فيقول: لك ذلك وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك ولذَّت عينك. فيقول: رضيت يا رب. وذلك أدنى أهل الجنة منزلة[2].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، من كل ذنب؛ فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة.
فوائد من حديث آخر أهل الجنة دخولًا الجنة
عباد الله:
قد سمعتم هذا الحديث العظيم في قصة آخر أهل الجنة دخولًا الجنة، وفيه فوائد كثيرة:
- منها: عظيم شأن التوحيد، وصفاء العقيدة.
فإن مَن مات على التوحيد فمآله للجنة، حتى وإن عُذب في النار ما شاء الله أن يُعذب، إلا أنه لا يخلد في النار، بل يكون مآله للجنة. فأهل التوحيد من أهل الكبائر يُخرجون من النار بعد مُكْثهم فيها ما شاء الله، ويُدخلون الجنة برحمة أرحم الراحمين.
ومن هنا فينبغي للمسلمِ العنايةُ بتحقيق التوحيد، وصفاء العقيدة، والبعد عن كل ما يخدش في ذلك مِن الشركيات والبدع والضلالات.
- ومنها: عظيم شأن الدعاء، مع قوة الرجاء في إجابة الدعاء.
فإن هذا الرجل الذي هو آخر أهل الجنة دخولًا بقي في النار يدعو الله تعالى: أي رب، اصرِفْ عن وجهي النار؛ فإنه قد قَشَبَني رِيحُها، وأحرقني ذَكَاؤُها[3]. وجاء في بعض الروايات: أن هناك من كان يبقى ألف سنة وهو يدعو الله تعالى: يا حنَّان يا مَنَّان، اصرف عني جهنم[4].
ثم يدعو الله تعالى في كل مرة مع قوة الرجاء، حتى يقول: يا رب، لا تجعلني أشقى خلقك. فينجيه الله تعالى من النار، ويدخله الجنة.
فإذا كان الله تعالى قد أجاب دعاء هذا الرجل في هذا الموطن، فكيف بغيره؟!
وقد ورد في الحديث الصحيح عن النبي قال: ليس شيء أكرم على الله من الدعاء[5].
- ومنها: عظيم رحمة الله تعالى بعباده، وعظيم فضله وجوده.
فإن أهل الكبائر مِن أهل التوحيد قد عصوا الله تعالى بارتكاب كبائر من الذنوب، يُعذَّبون في النار ما شاء الله أن يعذبوا، ثم يتفضَّل الله عليهم بإخراجهم من النار، ثم يتفضل الله عليهم مرة أخرى بإدخالهم الجنة.
نهاية الرحلة البشرية
عباد الله:
وبعدما يدخل هذا الرجلُ الجنةَ، وهو آخِرُ أهل الجنة دخولًا الجنة، كما أخبر بذلك النبي ، بعد ذلك يخبر عليه الصلاة والسلام بأنه: يجاء بالموت كهيئة كبش أملح، فيُوقف بين الجنة والنار، ثم يقال: يا أهل الجنة، هل تعرفون هذا؟ فيَشْرَئِبُّون؛ أي: يرفعون رؤوسهم وينظرون، فيقولون: نعم، هذا الموت.
ويقال: يا أهل النار، هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون؛ أي: يرفعون رؤوسهم وينظرون، ويقولون: نعم، هذا الموت. فيُؤمر به فيُذبح، ثم يقال: يا أهل الجنة، خلودٌ فلا موت. ويا أهل النار، خلود فلا موت، ثم قرأ رسول الله : وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [مريم:39][6].
فتستقر البشرية حينئذٍ: فريق في الجنة، وفريق في السعير. وهذه هي نهاية الرحلة البشرية.
خُلق الإنسان من عدم، من تراب، ثم من نطفة، ويعيش في هذه الدنيا ما شاء الله أن يعيش في اختبارٍ وابتلاء بالأوامر والنواهي الشرعية. ثم بعد ذلك ينتقل إلى حياة جديدة، ينتقل إلى عالم الآخرة، ينتقل للدار الآخرة، ثم تكون نهاية المطاف: فريق في الجنة، وفريق في السعير.
وها نحن في أخطر مراحل هذه الرحلة التي نعيشها، نحن في مرحلة العمل الذي يترتب عليه مصير الإنسان، ويترتب عليه كل شيء، ويترتب عليه مصيره في الحياة الباقية، في الحياة الأبدية، في الحياة الحقيقية.
فينبغي أن نغتنم زمن أعمارنا، وزمن حياتنا في هذه الدنيا، فيما ينفعنا في الحياة الدائمة الباقية بعد الممات، وإلا فمَن ذهب عليه عمره في هذه الدنيا في لهو وفي غفلة، فسيتفاجأ بملك الموت يقبض روحه، وسينتقل للحياة الجديدة، سينتقل للحياة الدائمة الباقية، فيتحسر حسرات عظيمة لأجل أنه لم ينتبه ولم يغتنم عمره في هذه الدنيا فيما ينفعه بعد الممات، وفي الدار الآخرة.
فالسعيد مَن وُعظ بغيره، والشقي من اتعظ به غيره.
ألا وأَكثِروا من الصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير؛ فقد أمركم الله بذلك، فقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن صحابته أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أذل الكفر والكافرين.
اللهم أَبْرِم لأمة الإسلام أَمْرَ رُشْدٍ يُعَزُّ فيه أهل طاعتك، ويُهْدَى فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، وترفع السنة، وتقمع فيه البدعة. يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم وفِّق ولاة أمور المسلمين لتحكيم شرعك، واجعلهم رحمة لرعاياهم، ووفق إمامنا وولي أمرنا لما تحب وترضى، وفِّقه وولي عهده لما فيه صلاح البلاد والعباد، ولما فيه عز الإسلام والمسلمين، وقرِّب منهم البطانة الصالحة الناصحة التي تعينهم إذا ذكروا، وتذكرهم إذا نسوا. يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك.
نسألك اللهم من الخير كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.