عناصر المادة
الحمد لله الذي خص بالفضل والتشريف بعض مخلوقاته، خلق فقدر، ودبر فيسر، وربك أعلم حيث يجعل رسالاته، أحمده تعالى وأشكره حمدًا وشكرًا، كما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله حق التقوى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
نعمة بلوغ شهر رمضان
عباد الله: هذه الجمعة هي آخر جمعة في شهر شعبان، بل ربما يكون هذا اليوم هو آخر يوم في شهر شعبان، وسيحل بعد بضع ساعات إن رئي الهلال ضيف كريم، وموسم عظيم، موسم من مواسم التجارة مع الله بالأعمال الصالحة، شهر رمضان: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185].
شهر رمضان الذي فيه تضاعف الحسنات، وترفع الدرجات، وتكفر الخطايا والسيئات، وتغفر الزلات، ويكثر فيه العتق من النار.
إن بلوغ هذا الشهر نعمة من الله على العبد، نعم، إن بلوغه نعمة، كيف وقد حرم هذه النعمة من انقضى أجله، وانتقل بالموت من دار العمل إلى دار الجزاء والحساب، من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة.
عباد الله: كنا بالأمس القريب نرتقب شهر رمضان من العام المنصرم، وحل شهر رمضان وانقضى، ومضت تلك الأيام والليالي، وها نحن في هذا اليوم نترقب لدخول شهر رمضان، وسبحان الله! ما أسرع مرور الليالي والأيام.
نعم، هكذا تمر الليالي والأيام، وهكذا تمر الشهور والأعوام، بل هكذا يتصرم العمر، هكذا ينقضي العمر، تمر أيامه ولياليه سريعًا، وتمضي جميعًا.
وكل يوم يقرب الإنسان من الآخرة، ويبعده عن الدنيا، وكل يوم يمضي ينقص به العمر، ويقترب به الأجل، كما قال الحسن رحمه الله: “يا ابن آدم إنما أنت أيام كلما ذهب يوم، ذهب بعضك”.
ولا بد من لقاء الله مهما طال القدح، فلا بد من نقطة التوقف للقاء الله سبحانه: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ [الانشقاق:6].
وحين تحين ساعة الاحتضار، ساعة النقلة من الدنيا إلى الآخرة، يتمنى الإنسان أن لو رجع إلى الدنيا لكي يعمل صالحًا، ولكن هيهات فالحياة فرصة واحدة غير قابلة للتعويض.
من نجح في هذا الاختبار العظيم الذي نحن فيه، وتزود بزاد التقوى، سعد السعادة الأبدية، السعادة العظيمة: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]، ومن فشل في اختبارها، وتصرم عليه العمر في لهو وفي غفلة، فسيبوء بالحسرات والندامة: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99-100].
شهر رمضان فرصة للتوبة والإنابة
عباد الله: إن شهر رمضان فرصة عظيمة لتوبة التائبين، وللإنابة والرجوع إلى الله ، فرصة عظيمة للوقوف مع النفس ومحاسبتها، ولتدارك ما تبقى من العمر، فرصة عظيمة للتزود بزاد التقوى.
فليحرص المسلم على الاهتمام باغتنام وقته في هذا الشهر، ليحرص على مشارطة نفسه على ألا يمر عليه يوم من أيام هذا الشهر، إلا وقد تزود فيه بزاد التقوى، وقدَّم أعمالًا صالحة يغتبط بها يوم يلقى ربه، وليقدر أنه ربما يكون هذا هو آخر رمضان يصومه مع المسلمين، وربما لا يدرك رمضان من عام قابل.
ثم ليحرص المسلم على التخفف من مشاغل الدنيا التي لا تنقضي، لأجل أن يمنح مزيدًا من الوقت للعبادة، وقد كان النبي إذا دخل شهر رمضان يتضاعف جوده، فكان أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، حتى إذا دخلت العشر الأواخر انقطع تمامًا عن الدنيا، واعتكف في مسجده، وتفرغ للعبادة طلبًا لليلة القدر.
فينبغي لك أخي المسلم مع دخول هذا الشهر أن يزيد نشاطك في العبادة والأعمال الصالحة، وأن تكون حالك في رمضان خيرًا من حالك قبل رمضان، وأن تكون كلما تقدم بك العمر إلى الله أقرب، فإنك لا تدري ربما لا تدرك مثل هذا الموسم من عام قابل.
ولنتذكر من كانوا معنا العام الماضي يستقبلون هذا الشهر، وانقضت آجالهم، فهم الآن في قبورهم مرتهنون بأعمالهم لا يستطيعون زيادة في الحسنات، ولا نقصًا من السيئات.
التخطيط لاغتنام شهر رمضان
عباد الله: وإذا كان أرباب التجارة والأموال عند قرب حلول المواسم يخططون كيف يستثمرون الموسم بأكبر قدر من الأرباح، فحري بالمسلم ونحن الآن على باب موسم من مواسم التجارة مع الله أن يخطط كيف يغتنم هذا الموسم فيما يقربه إلى الله ، وفيما ينفعه بعد مماته، فيضع له خطة في هذا الشهر ويلتزم بها.
فعلى سبيل المثال يقرر: أنه يصلي صلاة التراويح جميع ليالي شهر رمضان، ولا يتخلف عن ركعة واحدة من ركعات صلاة التراويح، ويخطط لتلاوة القرآن وختمه عدة مرات، وهكذا بالنسبة لسائر الطاعات، فإن الاهتمام بالتخطيط، وحسن إدارة الوقت يعين الإنسان على اغتنام وقته.
وقد كان السلف يسمون التخطيط للوقت يسمونه: مشارطة للنفس، فكانوا يحرصون على ذلك، أو يسمى بلغة العصر: التخطيط للوقت، وهو مهم جدًّا في حسن إدارة المسلم لوقته.
أما إذا كان الإنسان يعمل الطاعات كيفما اتفق، إذا وجد عنده وقت فراغ عمل طاعة، وإذا لم يوجد انشغل بغيره، فسيجد أنه متحمسًا في أول رمضان، ثم بعد ذلك يفتر شيئًا فشيئًا، فيفوت على نفسه أوقاتًا عظيمة فاضلة، ربما لا يدركها فيما بعد، ولا يمكن تعويضها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة.
شهر رمضان فرصة للتزود بالأعمال الصالحة
عباد الله: إذا كان الزارع يتعب نفسه في الحرث والبذر أملًا بيوم الحصاد، فإن الدنيا مزرعة للآخرة، فازرعوا فيها من الأعمال الصالحة، لتحصدوا ثمراتها حسنات يوم أن تلقوا ربكم.
وإن شهر رمضان فرصة للتزود بالأعمال الصالحة التي تتضاعف في هذا الشهر الكريم، فإن العبادة في رمضان خير من العبادة في غيره، والعبادة كما تشرف ويعظم أجرها بشرف المكان، فإنها تشرف ويعظم أجرها بشرف الزمان.
فاجتهدوا في هذا الموسم، وهذا الشهر المبارك، وأروا الله من أنفسكم خيرًا، وليتفقد المسلم نفسه في جميع أموره، يحاسب نفسه عما مضى من العمر، ويعقد العزم على أن يتدارك ما تبقى من العمر، فإنه لا يدري ربما يكون المتبقي قليلًا وهو لا يشعر.
عباد الله: وإن الناس يتفاوتون في نظرتهم لهذا الشهر، فمن الناس من يجعل شهر رمضان وقتًا للغفلة وللهو، ولإمضاء كثير من أوقاته وساعاته إما على مشاهدة القنوات الفضائية، أو الإنترنت أو غير ذلك.
ومن الناس من إذا دخل شهر رمضان ازداد نشاطه التجاري، وأصبح جل وقته مخصصًا لأمور دنياه، ومن الناس من هو موفق عرف أن هذا الشهر شهر عبادة وطاعة، وأنه موسم من مواسم التجارة مع الله، وأنه فرصة عظيمة للتزود فيه بالأعمال الصالحة، فحرص على اغتنام هذا الشهر بالأعمال الصالحة، وجدّ فيه واجتهد، وتزود بزاد التقوى، وهذا والله هو الموفق، وهو الذي ينبغي أن يغبط.
البعد عن المعاصي القولية والفعلية
عباد الله: ينبغي للمسلم أن يستحضر أن الصيام ليس إمساكًا عن المفطرات الحسية فحسب، وإنما هو صيام كذلك عن المعاصي القولية والفعلية، وإلا فإن كل معصية تقع من الصائم تجرح الصوم، وتنقص من أجر الصائم، يقول النبي في الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه: من لم يدع قول الزور، والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه [1]، فمن لم يتأدب بآداب الصوم فهذا الصوم لا حاجة له، ليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه أي: أنه لا يؤجر ولا يثاب على هذا الصيام الذي لم يتأدب فيه بآداب الصائم.
فينبغي للصائم أن يحرص على ألا تقع منه معصية قولية ولا فعلية ما دام صائمًا، وإن كان هذا مطلوبًا في كل وقت، إلا أنه يتأكد وقت الصيام؛ لأن المعاصي تنقص من أجر الصائم، حتى لو أخطأ عليك أحد ينبغي احترامًا للصوم ألا ترد عليه بمثل الخطأ، وإن كان ذلك في غير الصوم جائزًا، فإن.. وكما قال عليه الصلاة والسلام: المستبان ما قالا، فعلى البادئ، أي: إذا استبا اثنان فالإثم كله على المبتدئ بالسباب ما لم يعتد المظلوم [2]، ولكن احترامًا للصوم إذا كنت صائمًا ينبغي ألا ترد على المخطئ بمثل خطئه، وإنما تقول له: إني صائم، يقول النبي : فإن سابه أحد أو قاتله، فليقل: إني امرؤ صائم [3]، وقد كان كثير من السلف الصالح إذا صاموا جلسوا في المساجد يذكرون الله ، ويقولون: نحفظ صومنا، ولا نغتاب أحدًا.
فاحرصوا رحمكم الله على اغتنام أيام وليالي هذا الشهر، فإن الله وصف أيام هذا الشهر بأنها أيام معدودات، وإذا كانت أيامًا معدودات فسرعان ما تنقضي، إذا كانت أيامًا معدودات فسرعان ما تنقضي وتطوى صحائفها.
فينبغي أن تملأ هذه الصحائف بما ينفعنا، وما نسر به بعد مماتنا، وإن آكد ما ينبغي المحافظة عليه الفرائض؛ كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: ما تقرب إليَّ عبدي بأحب مما افترضت عليه، ثم بعد الفرائض ينبغي أن يستكثر المسلم من النوافل، فإن الاستكثار منها من أسباب نيل محبة الله ، كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه [4].
اللهم بلغنا شهر رمضان، اللهم بلغنا شهر رمضان، اللهم بلغنا شهر رمضان.
اللهم أهل علينا شهر رمضان بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والتوفيق لما تحب وترضى يا منان.
اللهم وفقنا لصيامه وقيامه إيمانًا واحتسابًا، واجعلنا ممن تغفر لهم في هذا الشهر، واجعلنا من عتقائك من النار.
اللهم وأعنا فيه على طاعتك، وأعنا فيه على شكرك وذكرك وحسن عبادتك، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم واغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أذل الكفر والكافرين.
اللهم أبرم لأمة الإسلام أمرًا رشدًا يعز فيه أهل طاعتك، ويهدى فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لتحكيم شرعك، واجعلهم رحمة لرعاياهم، ووفق إمامنا وولي أمرنا وولي عهده لما تحب وترضى، ولما فيه صلاح البلاد والعباد، ولما فيه عز الإسلام والمسلمين، اللهم قرب منهم البطانة الصالحة الناصحة، التي تعينهم إذا ذكروا، وتذكرهم إذا نسوا، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أدم علينا نعمة الأمن والأمان والاطمئنان، والرخاء ورغد العيش، واجعلها عونًا لنا على طاعتك ومرضاتك، واجعلنا لنعمك وآلائك شاكرين.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث، ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا.
اللهم أنزل لنا من بركات السماء، اللهم أخرج لنا من بركات الأرض، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارًا، اللهم فأرسل السماء علينا مدرارًا.
اللهم إنا خلق من خلقك، فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك، اللهم عاملنا برحمتك وعفوك، وأنزل علينا الغيث يا كريم يا منان.
اللهم أغث قلوبنا بالإيمان، وأغث بلادنا بالغيث النافع المبارك، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، ربنا اسقنا الغيث، ولا تجعلنا من القانطين.
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلًّا للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم.
اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.