عناصر المادة
الحمد لله المحمود على كل حالٍ، الموصوف بصفات الجلال والكمال، والمعروف بمزيد الإنعام والإفضال، أحمده سبحانه وهو المحمود على كل حالٍ وفي كل حالٍ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو العظمة والجلال، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخليله الصادق المقال، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمدٍ وعلى آله وأصحابه خير أصحابٍ وآلٍ، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله حق التقوى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[آل عمران: 102]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[الأحزاب: 70، 71].
نعمة الصحة والعافية
عباد الله:
إن نعم الله على عباده كثيرةٌ جدًّا، بل إنها من كثرتها لا تعد ولا تحصى؛ كما قال الله سبحانه: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا[إبراهيم: 34].
وإنَّ من أعظم هذه النعم -بعد نعمة الهداية والإيمان- نعمةً لا تقدر بثمنٍ، نعمةً هي أعظم من نعمة المال مهما بلغ: إنها نعمة الصحة والعافية والسلامة من الأمراض، هذه النعمة من أعظم ما ينعم الله تعالى به على الإنسان، وهي أعظم من نعمة المال؛ يدل لذلك: أن الإنسان إذا أصابه مرضٌ فإنه ينفق ويبذل من ماله الكثير؛ طلبًا للصحة والعافية، يبذل ولا يسأل مهما بلغت النفقة؛ وهذا يدل على عظيم قَدْر هذه النعمة، يقول النبي : نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ [1].
سؤال الله العافية والاستعاذة به من الأسقام
عباد الله:
الصحة كما يقال: تاجٌ على رؤوس الأصحاء، لا يعرف قدرها إلا المرضى، وقد كان النبي يسأل الله العافية، ويستعيذ بالله من سيئ الأسقام، ففي “سنن أبي داود” بسندٍ صحيحٍ، عن أنسٍ أن النبي كان يدعو ويقول: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبَرَصِ وَالجُنُونِ وَالجُذَامِ، وَسَيِّئِ الْأَسْقَامِ [2]، فكان عليه الصَّلاة والسَّلام، يستعيذ بالله من أمراضٍ سماها، ثم يختم هذا الدعاء بالاستعاذة بالله من سيئ الأسقام، وهي: الأمراض الشديدة التي تعيق الإنسان.
وكان عليه الصَّلاة والسَّلام يسأل الله العافية، ويُكْثِر من هذا الدعاء، ويجعله مع أذكار الصباح والمساء، فقد جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: “لم يكن رسول الله يَدَعُ هذه الدعوات حين يمسي وحين يصبح: اللَّهُمّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْألُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ؛ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ، وَأَهْلِي وَمَالِي، اللَّهُمَّ اسْتُر عَوْرَاتِي، وَآمِنْ رَوْعَاتِي، وَاحْفَظنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي، وَعَن يَمِيني، وَعَنْ شِمَالِي، وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَال مِنْ تَحْتِي [3].
وفي “صحيح مسلمٍ” عن أنسٍ : “أن النبي عاد رجلًا من المسلمين قد خَفَتَ وصار مثل الفرخ من شدة المرض، فقال له النبي : هَل كُنْتَ تَدْعُو بِشَيءٍ، أَوْ تَسْأَلُ اللهَ شَيْئًا؟ قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله في الدنيا، فقال النبي : سُبْحَانَ اللهِ! سُبْحَان اللهِ! لَا تُطِيقُه، هَلَّا قُلْتَ: اللَّهُمَّ آتِنِي فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنِي عَذَابَ النَّارِ. قال: فدعا اللهَ تعالى له فشفاه الله” [4].
قال أهل العلم: وفي هذا الحديث: النهي عن تعجيل العقوبة؛ وبذلك يُعْلَم خطأ بعض الناس عندما يقول: “يا الله عذاب الدنيا ولا عذاب الآخرة”؛ فإن هذا خطأٌ؛ لأن الإنسان قد لا يحتمل عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة، والذي ينبغي تجنبه هذه الألفاظ، وأن يقول المسلم ما أرشد إليه النبي ؛ يقول: اللَّهُمَّ آتِنِي فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنِي عَذَابَ النَّارِ.
ودلت هذه القصة على كراهة تمني البلاء؛ فإن الإنسان ما دام في العافية فهو في سلامةٍ، فلا يتمنى البلاء، ولا يتمنى المرض، ولا يتعرض له، ولا يتشوف له.
يقول النبي : لَا تَتَمَنَّوا لِقَاءَ العَدوِّ، وَسَلُوا اللهَ الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهم فَاصْبِرُوا [5] متفقٌ عليه.
ودلت هذه القصة أيضًا على: أن البلاء موكلٌ بالمنطق؛ فقد يبتلى الإنسان بمرضٍ أو بغيره من المصائب بسبب كلمةٍ تكلم بها، أو بسبب دعوةٍ دعا بها من غير أن يتبين فيها، كما حصل لهذا الرجل.
الصبر والاحتساب عند المصائب
عباد الله:
والمطلوب من المسلم عندما يصاب بمرضٍ أو بغيره من مصائب الدنيا: الصبر والاحتساب، وأن يبتعد عن التسخط والتشكي والجزع؛ فإن الابتلاء بالمصائب في هذه الدنيا لا بد منه، ولا يمكن أن تصفو هذه الحياة لأحدٍ من البشر؛ لأن هذا ينافي طبيعتها.
والله يقول: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ[البلد: 4]. أي: في مكابدةٍ لمصاعب ومشاق هذه الحياة، ولو كانت الدنيا تأتي الإنسان على ما يريد، لما تمنى المؤمن الجنة في الآخرة، ولكن من حكمة الله أن الدنيا خلق الله تعالى الإنسان فيها في كبدٍ، يكابد مصاعبها ومتاعبها؛ حتى يشتاق للنعيم العظيم في الدار الآخرة، حتى يشتاق لجنةٍ عرضها السماوات والأرض، ويعمل لها.
وقد أخبر النبي : بأن المؤمن كثير الآلام في بدنه وفي أهله وماله؛ وذلك ليكفر الله تعالى بها من سيئاته، ويرفع من درجاته، ففي “الصحيحين” عن أبي هريرة أن النبي قال: مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الْخَامَةِ مِنَ الزَّرْعِ؛ تُفِيئُهَا الرِّيحُ مَرَّةً، وَتَعْدِلُهَا مَرَّةً، وَمَثَلُ المنَافِقِ كَشَجَرةِ الْأَرْزِ، لَا تَزَالُ حَتَّى يَكُونَ انْجِعَافُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً [6].
فالنبي جعل المؤمن مثلَه كمثل خامة الزرع، وهي الطاقة الطرية اللينة من الزرع أول ما ينبت، تميل بها الريح يمينًا وشمالًا، وأما المنافق والفاجر، فشبهه بشجرة الأَرْز: وهي شجرة الصَّنَوْبَرِ، الشجرة العظيمة التي لا تحركها ولا تزعزعها الريح.
قال النووي رحمه الله: “معنى هذا الحديث: أن المؤمن كثير الآلام في بدنه أو أهله أو ماله، وذلك مكفرٌ لسيئاته، رافعٌ لدرجاته.
وأما الكافر والمنافق، فقليل الآلام والمصائب في الدنيا؛ حتى يأتي بسيئاته كاملةً يوم القيامة”.
المصائب تكفر الذنوب والخطايا
عباد الله:
وإن من رحمة الله تعالى بعباده المؤمنين: أن جعل جميع ما يصيبهم من المصائب في الدنيا -على اختلاف أنواعها- جعلها مكفِّرةً لذنوبهم ولخطاياهم، حتى الشوكة يشاكها يكفر الله تعالى عنه بها من سيئاته، بل حتى الهم يصيبه يكفر الله تعالى عنه به من سيئاته، جاء في “الصحيحين” عن أبي هريرة وأبي سعيدٍ رضي الله عنهما، أن رسول الله قال: مَا يُصِيبُ المسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ، وَلَا هَمٍّ ولَا حَزَنٍ، وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلَّا كَفَّر اللهُ بِهَا مِنْ خطَايَاه [7].
وفي لفظٍ لمسلمٍ: مَا يُصِيبُ المؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلَا سَقَمٍ وَلَا حَزَنٍ، حَتَّى الْهَمِّ يُهِمُّه، إِلَّا كَفَّر اللهُ تَعَالَى بِهَا مِنْ سَيِّئَاتِه [8].
ففي هذا الحديث العظيم: بشارةٌ للمسلم إذا كان مجرد الشوكة يشاكها والهم يهمه، يكفر الله تعالى عنه به من خطاياه، فكيف بما هو أعظم من ذلك؟!
وفي “صحيح البخاري” عن ابن مسعودٍ أن النبي قال: مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُه أَذًى؛ شَوْكَةٌ فَمَا فَوْقَها، إِلَّا كَفَّر اللهُ تَعَالَى بِهَا مِنْ سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا [9].
فهذا من حكمة ابتلاء الله للمؤمن: أن ذلك يكون مكفرًا لسيئاته وخطاياه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمدٍ ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعةٌ.
الوقاية خير من العلاج
عباد الله:
وكما أن المسلم مطلوبٌ منه الصبر على الأمراض بعد وقوعها، فينبغي له أن يسعى لاتقائها قبل وقوعها ما استطاع؛ فقد كان النبي يستعيذ بالله من بعض الأمراض، كان يقول: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبَرَصِ وَالجُنُونِ وَالجُذَامِ، وَسَيِّئِ الْأَسْقَامِ [10]. ويسأل الله العافية.
هذا الدعاء من الأدعية العظيمة التي يغفل عنها كثيرٌ من الناس، فاحرص يا أخي الكريم على هذا الدعاء، وادعُ الله تعالى به كل يومٍ، أن تستعيذ بالله تعالى من سيئ الأسقام، وأن تسمي ما شئت من الأمراض، كما سمى النبي هذه الأمراض المذكورة في الحديث: البرص والجنون والجذام، ولك أن تزيد وتسمي ما تشاء من الأمراض، ثم تختم هذا الدعاء بأن تقول: “ومن سيئ الأسقام”. فهذا من الأدعية العظيمة التي يغفل عنها كثيرٌ من الناس.
ومن ذلك: اتقاء أسباب العدوى، التي قد تكون سببًا لانتقال بعض الأمراض، وفي الظروف الحالية التي يشهد فيها العالم موجةً ثانيةً لانتشار وباء (كورونا)، ينبغي الحرص على اتخاذ الإجراءات الوقائية التي يوصي بها المختصون في هذا الشأن؛ كالبعد عن التجمعات والمخالطة ما أمكن، والحرص على لبس الكمامة ونحو ذلك، وقد قال النبي : فِرَّ مِنَ المجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الأَسَدِ [11].
ومن ذلك: أخذ اللقاحات الطبية للوقاية من الأمراض الموسمية، ويتأكد ذلك في الظروف التي نعيشها.
ألا وأكثروا من الصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير؛ فقد أمركم الله بذلك، فقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن صحابة نبيك أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أذل الكفر والكافرين.
اللهم أبرم لأمة الإسلام أمرًا رشَدًا، يعز فيه أهل طاعتك، ويهدى فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، وترفع فيه السنة وتقمع فيه البدعة، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لتحكيم شرعك، واجعلهم رحمةً لرعاياهم، ووفق إمامنا وولي أمرنا لما تحب وترضى، ولما فيه صلاح البلاد والعباد، وارزقه البطانة الصالحة الناصحة التي تدله على الخير وتعينه عليه، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك.
اللهم إنا نعوذ بك من البرص والجنون والجذام، و(الكورونا) وسيئ الأسقام.
اللهم إنا نعوذ بك من سيئ الأسقام.
اللهم نسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إنا نسألك العفو والعافية في ديننا ودنيانا، وأهلنا وأموالنا.
اللهم استر عوارتنا، وآمن روعاتنا، واحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، وعن أيماننا وعن شمائلنا، ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها؛ دِقَّها وجِلَّها، وأولها وآخرها، وعلانيتها وسرها.
ربنا هَبْ لنا من لدنك رحمةً إنك أنت الوهاب.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: 201] .
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات:180-182].
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 6412. |
---|---|
^2 | رواه أبو داود: 1554. |
^3 | رواه أبو داود: 5074. |
^4 | رواه مسلم: 2688. |
^5 | رواه البخاري: 2965، 2966، ومسلم: 1742. |
^6 | رواه البخاري: 5644، ومسلم: 2810. |
^7 | رواه البخاري: 5641، ومسلم: 2573. |
^8 | رواه مسلم: 2573. |
^9 | رواه البخاري: 5648. |
^10 | رواه أبو داود: 1554، والنسائي: 5508. |
^11 | رواه البخاري تعليقًا: 5707، وأحمد: 9722. |