عناصر المادة
الحمد لله الكريم الجواد، خلق الإنسان من نطفة وجعل له السمع والبصر والفؤاد، خلق سبع سماواتٍ طباقًا بغير عمادٍ، ومَدَّ الأرض وأرسى فيها الجبال كالأوتاد، الفعال لما يريد، ولا يقع في مُلكه إلا ما أراد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، المنزه عن الأشباه والأنداد، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ خير من دعا وهدى وبالخير العظيم جاد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله حق التقوى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[الأحزاب: 70، 71]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ[الطلاق: 2، 3]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا[الطلاق: 4]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا[الطلاق: 5].
عباد الله:
نقف في هذه الخطبة وقفاتٍ يسيرةً مع سورةٍ عظيمةٍ من كتاب ربنا، مع سورةٍ تتضمن المعانيَ الجليلة، والفوائد الكثيرة، بأوجز لفظٍ وأقصر عبارةٍ، سورةٍ مكونةٍ من ثلاث آياتٍ، لكنها تمثل المنهج الكامل للحياة البشرية، إنها سورة (العصر) التي قال عنها الإمام الشافعي: “لو ما أنزل الله تعالى حُجَّةً على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم [1].
وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر: 1-3].
المراد بالعصر
فأقسم الله تعالى في هذه السورة بالعصر.
والعصر: هو الدهر الذي هو ميدان العاملين، ومضمار المتسابقين، الدهر الذي يختلف الناس في استهلاكه اختلافًا كبيرًا.
فمنهم: من يمضيه في طاعة ربه تبارك وتعالى، وفيما يقربه إلى الله سبحانه، وهؤلاء هم الرابحون.
ومنهم: من يذهب عليه هذا الوقت وهو في غفلةٍ.
ومنهم: من يمضيه في المعاصي، وفيما يسخط الله تعالى.
وكلا الفريقين خاسرٌ.
أهمية الوقت
عباد الله:
واللهُ تعالى إذا أقسم في كتابه الكريم بشيءٍ؛ فإن ذلك يدل على عظمة ذلك الشيء، وعلى أهميته وشرفه، وقد أقسم الله تعالى في هذه الآية بالعصر الذي هو الدهر، أي الزمن، على قول أكثر المفسرين.
قال الحافظ ابن كثيرٍ رحمه الله في تفسيره: “العَصْرُ: هو الزمان الذي يقع فيه حركات بني آدم من خيرٍ وشرٍّ” وفي هذا دلالةٌ على أهمية الوقت، وأهمية اغتنامه.
ومما يدل لذلك: أن الله تعالى قد أقسم به في هذه الآية جملةً، وأقسم به في آياتٍ أخرى بأجزاءٍ منه؛ كما قال سبحانه: وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ[الفجر: 1، 2]، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى[الليل: 1، 2]، وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى[الضحى: 1، 2].
ومما يؤكد أهمية الوقت: أن الإنسان لا تزول قدماه يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع أسئلةٍ؛ سؤالان منها خاصان بالوقت، فعن معاذٍ عن النبي قال: لنْ تَزُولَ قَدَما عبدٍ يوم القيامةِ حتى يُسْأَلَ عن أَرْبَعة: عن عُمُرِهِ فيمَ أَفْنَاهُ؟ وعَنْ شَبَابِه فيمَ أَبْلاهُ؟ وعَنْ مالِهِ من أين اكْتَسَبَهُ وفيمَ أنْفَقَهُ؟ وعَنْ علمِهِ ماذا عمِلَ فيهِ؟ [2].
فانظروا -رحمكم الله- إلى أن نصف هذه الأسئلة -سؤالان من أربعة أسئلة- عن وقت الإنسان، فيمَ أمضاه؟ عن عُمُرِهِ فيمَ أَفْناهُ؟ وعَنْ شَبابِه فيمَ أَبْلاهُ؟، فيسأل الإنسان يوم القيامة عن عمره عامةً، ويُخَص الشباب بسؤالٍ؛ لأن سن الشباب هو سن القوة والحيوية والعزيمة، ثم يسأل عن ماله سؤالين: من أين اكْتَسَبَهُ؟ وفيمَ أنْفَقَهُ؟، ويُسأل عن علمه ماذا عمِلَ فيهِ؟.
خصائص الوقت
عباد الله:
إن إدراك قيمة الوقت، يتوقف ابتداءً على معرفة الإنسان بالغاية التي لأجلها خُلِق، وكما قيل: (إذا اكتمل عقل الإنسان اكتمل اغتنام الزمان).
هذا الوقت له خصائص تخصه لا توجد في غيره، ومن أبرزها: أنه أنفس ما يملك الإنسان، فهو أنفس من الذهب والفضة وسائر الأموال؛ لأن هذه الأموال يمكن تعويضها، بينما الوقت إذا ذهب لا يمكن تعويضه.
ومنها: سرعة انقضائه، فالوقت يمر سريعًا، وتذهب لحظاته جميعًا، انظر إلى ما مضى من عمرك كيف تراه الآن؟ واعلم بأن ما تبقى من عمرك سيمر بنفس السرعة التي مر بها ما مضى.
ومن خصائص الوقت: أن ما مضى منه لا يعود أبدًا إلى يوم القيامة.
الصفات المنجية من الخسران
ثم قال سبحانه: إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ[العصر:2] فأقسم سبحانه بهذا العصر على أن كل إنسانٍ من بني آدم فهو في خيبةٍ وخسرٍ، مهما كَثُر ماله وولده، وعظم قدره وشرفه، إلا مَن جمع أربع صفاتٍ:
- الأولى: الإيمان؛ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا..[العصر:3]، ويشمل كل ما يقرب إلى الله من اعتقادٍ صحيحٍ، وعلمٍ نافعٍ.
- الثانية: وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ..[العصر:3]؛ العمل الصالح: وهو كل قولٍ أو فعلٍ يقرب إلى تعالى، ولا بد لصلاح العمل من شرطين، إذا لم يتحققا لم يكن العمل صالحًا:
- الشرط الأول: الإخلاص لله تعالى في ذلك العمل.
- والشرط الثاني: المتابعة فيه لرسول الله .
- الصفة الثالثة: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ..[العصر:3]؛ التواصي بالحق: وهو التواصي على فعل الخير، والحث عليه، والترغيب فيه.
- الصفة الرابعة: وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ[العصر:3]؛ التواصي بالصبر: بأن يوصي بعضهم بعضًا على الصبر على فعل أوامر الله ، وترك محارم الله سبحانه، وتحمل أقدار الله المؤلمة.
وتأمل كيف أن الله قال: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ[العصر:3]. ولم يقل: فعَلُوا الحق وصبروا؛ لأن القيام بذلك صعبٌ على النفس البشرية، ويتطلب القيام والنهوض به التواصي والتناصح من المجتمع، والتعاون فيما بينهم على البر والتقوى، والتذكير والموعظة.
ثم إن التواصي بالحق والتواصي بالصبر، يتضمنان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، اللذين بهما قوام الأمة وصلاحها، وحصول الشرف والفضيلة لها.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمدٍ ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعةٌ.
سورة العصر منهج حياة للبشرية
عباد الله:
إن هذه السورة القصيرة ذات الثلاث الآيات، تمثِّل منهجًا كاملًا للحياة البشرية كما يريدها الإسلام، هذه السورة تقرر الحقيقة الضخمة التي ينبغي أن تكون حاضرةً في ذهن كل مسلمٍ ومسلمةٍ، وهي: أنه على امتداد الزمان في جميع الأعصار، وامتداد الإنسان في جميع الأدهار، ليس هناك سوى منهجٍ واحدٍ رابحٍ، وطريقٍ واحدٍ ناجٍ، وهو طريق الإيمان والعمل الصالح، والذي يعين عليه التواصي بالحق والتواصي بالصبر، وما عدا ذلك فهو ضياعٌ وخسارٌ.
إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ..[العصر:2- 3]، هذه هي الحقيقة العظيمة؛ أن الإنسان مهما حصَّل من أمور الدنيا ومتاعها، فإنه ما لم يكن لديه الإيمان والعمل الصالح فهو في خُسْرٍ، لا قيمة لجميع ما حققه من نجاحاتٍ في هذه الدنيا، ما دام أنه فاشلٌ في علاقته بربه، فيبقى في النهاية خاسرًا، وجميع نجاحاته في الدنيا تتبخر وتذهب كالسراب، يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا[النور:39].
كلُّ يومٍ يمضي من عمرك، إن لم تغتنمه في العمل الصالح المرتبط بالإيمان، فإنه يكون خسارةً عليك: إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ..[العصر:2- 3].
ولعل هذا هو السر في أن الله تعالى بدأ الآية بالقَسَمِ بالعصر وهو الزمن، فقال: وَالْعَصْرِ[العصر:1]، ثم قال: إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ[العصر:2]؛ لأنه قد مضى عليه هذا الزمن من عمره، إلا إذا اغتنمه في طاعة الله ؛ ولهذا قال: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ..[العصر:3]؛ فنجاح الإنسان إنما يكون في العمل الصالح المرتبط بالإيمان، هذا هو الذي يكون به فلاحه، وهو الذي يكون به نجاته، وما عدا ذلك فإن الإنسان في خُسْرٍ.
فتأمل! تأمل هذه السورة العظيمة! كيف تضمنت هذه المعانيَ الجليلة، فلْيجعلْها المسلم نُصْبَ عينيه، فإنه ليس هناك طريقٌ رابحٌ وطريقٌ ناجٍ، إلا هذا الطريق الوحيد الذي ترسمه هذه السورة إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ..[العصر:2- 3].
ألا وأكثروا من الصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير، فقد أمركم الله بذلك، فقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمدٍ، اللهم ارضَ عن صحابته أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أذل الكفر والكافرين.
اللهم أصلح أحوالنا وأحوال المسلمين في كل مكانٍ.
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لتحكيم شرعك، واجعلهم رحمةً لرعاياهم، اللهم وفق إمامنا وولي أمرنا لما تحب وترضى، وقرب منه البطانة الصالحة الناصحة التي تدله على الحق وتعينه عليه، وعلى ما فيه صلاح البلاد والعباد، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[الحشر:10].
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة:201].
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خيرٍ، واجعل الموت راحةً لنا من كل شرٍّ.
نسألك اللهم من الخير كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الصافات:180-182].