عناصر المادة
الحمد لله، نصر عبده، وأعزَّ جنده، وهزم الأحزاب وحده، أحمده تعالى وأشكره حمدًا وشكرًا كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأحمده وأشكره عدد خلقه، وزِنَة عرشه، ورضا نفسه، ومِداد كلماته.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتَّقوا الله عباد الله، اتَّقوا الله حقَّ التقوى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًايُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
رمضان شهر القرآن والفرقان
عباد الله: شهر رمضان شهر القرآن والفرقان، قرآنٌ وفرقانٌ يملأ العقول حكمةً، والقلوب طهارةً، والنفوس انشراحًا وبهجةً: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185].
وفي شهر رمضان فرقانٌ من نوعٍ آخر: فرقانٌ بين الحق والباطل، إنه فرقان بدر، المعركة الكبرى: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ [الأنفال:41].
سبب غزوة بدر
هذه الغزوة الفاصلة في تاريخ الإسلام والمسلمين قد تضمَّنتْ دروسًا وعِبَرًا كثيرةً للأمة على مرِّ الأجيال، وقد وقعتْ هذه الغزوة في العشر الأواسط من شهر رمضان، وجمع الله تعالى بين المسلمين وعدوهم، ومن غير ميعادٍ، وذلك أن بلغ رسولَ الله خبرُ العِير المُقبلة من الشام لقريشٍ، فنَدَبَ رسول الله الناس للخروج إليها، واستطاع قائد تلك العِير أبو سفيان النَّجاة بها، ولكن قريشًا أصرَّتْ على الخروج لقتال رسول الله ؛ بطرًا ورئاء الناس، وصدًّا عن سبيل الله، حتى يقول أبو جهلٍ: “والله لا نرجع حتى نبلغ بدرًا، ونُقيم بها ثلاثًا: ننحر الجزور، ونُطْعَم الطعام، ونُسْقَى الخمور، وتسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا أبدًا”.
مشاورة النبي لأصحابه
أعلم النبيُّ أصحابه أن الله وعده إحدى الطائفتين: إما العِير، وإما قريشًا، أي: إما الغنيمة والحصول على العِير من غير قتالٍ، وإما النصر على قريشٍ.
واستشار النبي أصحابه، وكان كثيرًا ما يستشيرهم؛ امتثالًا لأمر ربه: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران:159]، مع أنه أصوبُ الناس عقلًا، وأعظمهم بصيرةً، وأحسنهم رأيًا، ولكنه يُريد أن تتأسَّى به الأمة في الاستشارة.
ولما استشار النبي أصحابه تكلم المُهاجرون فأحسنوا، ثم استشارهم ثانيًا، فتكلم المُهاجرون وأحسنوا، ثم استشارهم ثالثًا، ففهمت الأنصار أنه يَعْنِيهم؛ وذلك لأنهم إنما بايعوه على أن يمنعوه وينصروه في ديارهم، فاستشارهم ليعلم ما عندهم، فقام سعد بن معاذٍ وقال: “كأنك تُعرِّض بنا يا رسول الله، لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقًّا ألَّا تنصرك إلا في ديارها، وإني لأقول عن الأنصار، وأُجيب عن الأنصار: يا رسول الله، صِلْ حَبْلَ مَن شئتَ، واقطع حَبْلَ مَن شئتَ، وخُذْ من أموالنا ما شئتَ، وأعطنا منها ما شئتَ، وما أخذتَ منا كان أحبَّ إلينا مما تركتَ، وما أمرتَ فيه من أمرٍ، فأمرنا تبعٌ لأمرك، فوالله لئن سِرْتَ بنا حتى تبلغ البرك من غمدان -وهو مكانٌ معروفٌ باليمن- والله لنسيرنَّ معك، والله لئن استعرضتَ فيها هذا البحر خُضناه معك، إنَّا لصبرٌ عند اللقاء، صدقٌ عند اللقاء، ولعل الله أن يُريك منا ما تقرّ به عينك”.
ثم قام المقداد بن الأسود فتكلم وقال: “امضِ يا رسول الله بما أمرك الله، فوالله لا نقول كما قالتْ بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24]، ولكن نُقاتل عن يمينك، وعن شمالك، ومن بين يديك، ومن خلفك”، فَسُرَّ رسول الله ، وكان إذا سُرَّ استنار وجهه كأنه بدرٌ، وقال: سِيروا وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، ووالله لكأني أنظر إلى مصارع القوم [1].
مناشدة الرسول ربَّه النصر
سار رسول الله بأصحابه إلى الموقع، واختار المكان الأصلح بعد الاستشارة، فلما طلع المشركون، وتراءى الجمعان قال رسول الله : اللهم هذه قريش قد خرجت بفخرها وخُيلائها، جاءت تُحادَّك وتُكذب رسولك، اللهم نصرك الذي وعدتني، اللهم أَنْجِز لي ما وعدتني، اللهم إني أنشد عهدك ووعدك [2].
وما زال رسول الله يستغيث ويتضرع طوال الليل، حتى إن الجميع في تلك الليلة -في ليلة بدرٍ- كان نائمًا إلا رسول الله قائمًا يدعو ربَّه، ويستغيث، ويتضرع، ويُلِحُّ على الله بالدعاء، حتى سقط رداؤه من على منكبيه، فأخذ أبو بكرٍ رداءه ووضعه على منكبيه، وقال: “يا رسول الله، كفاك مُناشدتك ربَّك، فإنه سيُنْجِز لك ما وعدك” [3]، فأغفى رسول الله إغفاءةً، ثم خرج وهو يقول: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر:45] [4]، وأخذ كفًّا من الحصباء فرمى به وجوه الأعداء، وقال: شَاهَتِ الوجوه [5]، فلم تترك رجلًا منهم إلا ملأت عينيه [6]، وشُغِلوا بالتراب في أعينهم، وشُغِلَ المسلمون بقتلهم: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17].
إبليس ينكص على عقبيه
قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: “لما كان يوم بدرٍ سار إبليس برايته وجنوده مع المشركين، وألقى في قلوب المشركين: أنه لن يغلبكم أحدٌ، وإني جارٌ لكم. وقام الشيطان فيهم واعظًا، فلما التقوا ونظر الشيطان إلى إمداد الله بالملائكة؛ نَكَصَ على عقبيه، وقال: إني بريءٌ منكم، إني أرى ما لا ترون” [7].
تحريض النبي أصحابه
وعظ النبي أصحابه وحثَّهم على القتال بكلماتٍ معدوداتٍ، فقال: والذي نفس محمدٍ بيده، لا يُقاتلهم اليوم رجلٌ فيُقتل صابرًا، مُحتسبًا، مُقبلًا غير مُدبرٍ؛ إلا أدخله الله الجنة [8]، فقام عمير بن الحمام -وكانت بيده تمراتٌ يأكل منهن- وقال: “يا رسول الله، جنةٌ عرضها السماوات والأرض؟ لَئِنْ أنا حَيِيتُ حتى آكُلَ تمراتي هذه إنها لحياةٌ طويلةٌ”، فألقى التمرات التي في يده، وقاتل مع المسلمين حتى قُتِلَ [9].
نتائج غزوة بدر
نصر الله أولياءه، وهُزِمَ المشركون؛ فقُتِل منهم سبعون، وأُسِرَ منهم سبعون، وقُتِلَ أبرز صناديدهم وأبرز زعمائهم: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ [آل عمران:13].
نصر الله عبده، وأعزَّ جنده، وهزم الأحزاب وحده: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران:123].
ودخل رسول الله المدينة مُؤيدًا، منصورًا، قد خافه كل عدوٍّ، وأسلم بشرٌ كثيرٌ من أهل المدينة، فكانت تلك الغزوة فاتحة خيرٍ، ونصرًا عظيمًا للإسلام والمسلمين.
قصة فتح البلد الأمين مكة
عباد الله: كما كان في مثل هذا الشهر -في شهر رمضان- في أواخر العشر الأواسط منه، من السنة الثامنة، كان فيه فتح مكة، البلد الأمين.
لما تمَّ الصلح بين رسول الله وقريش في الحديبية في السنة السادسة من الهجرة، وكان من بنود الصلح: أن مَن أحبَّ أن يدخل في عهد رسول الله فعل، ومَن أحبَّ أن يدخل في عهد قريشٍ فعل، فدخلتْ خُزاعة في عهد النبي ، ودخلتْ بنو بكر في عهد قريش، وكانت بين القبيلتين دماءٌ في الجاهلية، فانتهزت بنو بكرٍ هذه الهُدنة، فأغارتْ على خزاعة وهم آمنون، وأعانتْ قريشٌ حلفاءها بني بكر بالرجال والسلاح سرًّا على خزاعة حلفاء النبي ، فقَدِمَ جماعةٌ من خزاعة إلى النبي وأخبروه بما صنعتْ بنو بكرٍ، وبإعانة قريشٍ لها.
أما قريش فسُقِطَ في أيديهم، ورأوا أنهم بفعلهم هذا قد نَقَضوا عهدهم؛ فأرسلوا زعيمهم أبا سفيان إلى رسول الله ليَشُدَّ العقد ويزيد في المدة، ويريدون أن يعرفوا موقف النبي ، فكلَّم أبو سفيان النبيَّ ، فلم يردّ عليه، ثم كلَّم أبا بكرٍ وعمر؛ ليشفعا له إلى رسول الله ، فلم يُفلح، ثم كلَّم عليًّا فلم يُفلح.
وسار النبي بجيشٍ عظيمٍ إلى مكة، سار في نحو عشرة آلاف مُقاتل، وقال: اللهم خُذِ العيون والأخبار عن قريشٍ حتى نَبْغَتها [10].
ثم مضى النبي ، وأمر أن تُركز راياته بالحجون، ودخل مكة فاتحًا، مُؤزرًا، منصورًا، قد طأطأ رأسه؛ تواضعًا لله ، حتى إن جبهته لتكاد تَمَسُّ رَحْلَه من تواضعه، وهو يقرأ: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح:1]، يُرَجِّعها.
ثم مضى رسول الله حتى دخل المسجد الحرام، وكان حول الكعبة ثلاثمئةٍ وستون صنمًا، فجعل يطعنها بقوسٍ معه، وهو يقول: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81]، قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ [سبأ:49] [11]، والأصنام تتساقط على وجوهها.
ثم دخل الكعبة، فإذا بها صورٌ، فأمر بها فمُحِيَتْ، ثم صلَّى فيها، فلما فرغ دار فيها، وكبَّر في نواحيها، ووحَّد الله ، ثم وقف على باب الكعبة، وقريشٌ تحته ينظرون ماذا يفعل؟ فأخذ بعِضَادَتي الباب وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قديرٌ، لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم قال: يا معشر قريش، ما تظنون أني فاعلٌ بكم؟ قالوا: خيرًا، أخٌ كريمٌ، وابن أخٍ كريمٍ. قال: فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:92]، اذهبوا فأنتم الطُّلَقاء [12].
النبي مُنتصرًا
لم يستغلّ لحظة النصر هذه في الانتقام ممن آذاه أشدَّ الأذى سنين طويلةً، آذوه أذًى عظيمًا، حتى ألقوا سَلَى الجزور على ظهره وهو ساجدٌ، ومع ذلك لحظة النصر، لما انتصر عليهم لم يستغلّ تلك اللحظة، وإنما أعلن العفو والصَّفح عنهم.
هذه هي أخلاق الأنبياء، هذه هي أخلاق العظماء، هذه هي أخلاق الكبار، فصلوات الله وسلامه عليه ما تعاقب الليل والنهار، وما ذكره الذاكرون الأبرار.
وبهذا الفتح المُبين تمَّ نصر الله، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، وأصبحتْ مكة بلدًا إسلاميًّا، وصارت الدولة للمسلمين، واندحر الشرك وأهله: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُوَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًافَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَالرَّحْمَنِ الرَّحِيمِمَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:2-4].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، إمام المتقين، وقائد الغُرّ المُحَجَّلين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ ، وشرَّ الأمور مُحدثاتها، وكل مُحدثةٍ بدعةٌ.
استغلال العشر الأواخر من رمضان
عباد الله: قد مضى ما يُقارب النصف من شهر رمضان، ونستقبل بعد أيامٍ قلائل موسمًا عظيمًا من مواسم التجارة مع الله ، هو أفضل مواسم السنة على الإطلاق، نستقبل العشر الأواخر من رمضان، وهذه الليالي -ليالي العشر- أفضل ليالي السنة، والتي فيها ليلةٌ هي خيرٌ من ألف شهرٍ، فيها ليلة القدر التي أنزل الله تعالى فيها قرآنًا يُتلى، بل سورةً كاملةً تتلى إلى قيام الساعة: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِوَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِلَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍتَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍسَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [القدر].
هذه الليلة العظيمة العمل الصالح فيها ليس مُساويًا، بل خيرٌ من العمل في ألف شهرٍ، وألف شهرٍ تُعادل ثلاثًا وثمانين سنةً وأربعة أشهرٍ.
فيا له من خيرٍ عظيمٍ لمَن وُفِّق في هذه الليلة.
وهذه الليلة -ليلة القدر- أخبر النبي بأنها في العشر الأواخر من رمضان، وأخفاها الله تعالى كي يجتهد الناس في العبادة، ولكي يتبين مَن كان جادًّا في طلبها ممن كان كسلان مُتهاونًا.
وينبغي الاجتهاد في جميع ليالي العشر، فإن المسلم إذا اجتهد في جميع الليالي أدرك ليلة القدر لا محالة.
عباد الله: لقد كان النبي يخلط العشرين الأُوَل من رمضان بصلاةٍ ونومٍ، فإذا دخلت العشر شَمَّرَ وشَدَّ المِئْزَر، وأحيا ليله، وأيقظ أهله [13]، وكان إذا دخلت العشر الأواخر من رمضان انقطع عن الدنيا، وانقطع عن الناس، وتفرغ للعبادة تفرغًا كاملًا، فكان يعتكف في مسجده طيلة العشر الأواخر من رمضان، مع أنه عليه الصلاة والسلام هو قائد دولة الإسلام، ومُفتي الأنام، وهو المُوجه، والمُرشد، والرسول، والمرجع للأمة في كل شيءٍ، ومع ذلك كان إذا دخلت هذه العشر انقطع عن الدنيا، وتفرغ للعبادة؛ طلبًا لليلة القدر.
فينبغي أن نقتدي بالنبي ، فمَن تيسر له أن يعتكف في هذه العشر الأواخر فهذا هو السنة، ومَن لم يتيسر له الاعتكاف فليَعْتَكف ولو بعض الليالي، خاصةً ليالي الوتر التي تُرجى فيها ليلة القدر، ومَن لم يتيسر له لا هذا ولا ذاك، فلا أقلَّ من أن يتخفف من مشاغل الدنيا التي لا تنقضي، وأن يزيد من الوقت المُخصص للعبادة، فإنها ليالٍ معدودةٌ، سرعان ما تنقضي، وتُطوى صحائفها، وعمر الإنسان في هذه الدنيا قصيرٌ، وهذا موسمٌ عظيمٌ مُباركٌ، فينبغي أن نجتهد فيه، وأن نغتنمه فيما ينفعنا بعد مماتنا، وفيما يُقربنا من الله .
اللهم بارك لنا فيما تبقى من شهر رمضان، اللهم أعِنَّا على صيامه وقيامه على الوجه الذي يُرضيك.
اللهم وفِّقنا لليلة القدر، واجعلنا ممن يقومها إيمانًا واحتسابًا، وممن يفوز بجزيل الثواب وعظيم الأجر.
اللهم اجعلنا ممن تغفر لهم في هذا الشهر، ومن عُتقائك من النار، يا حيُّ، يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين.
اللهم انصر مَن نصر دين الإسلام في كل مكانٍ، واخذل مَن خذل دين الإسلام في كل مكانٍ.
اللهم أَبْرِمْ لأمة الإسلام أمرًا رشدًا، يُعَزُّ فيه أهل طاعتك، ويُذَلُّ فيه أهل معصيتك، ويُؤْمَر فيه بالمعروف، ويُنْهَى فيه عن المنكر.
اللهم وفِّق ولاة أمر المسلمين لتحكيم شرعك، واجعلهم رحمةً لرعاياهم، ووفِّق إمامنا وولي أمرنا وولي عهده لما تُحب وترضى، وخُذْ بنواصيهم إلى البرِّ والتقوى، اللهم وفِّقهم لما فيه صلاح البلاد والعباد، ولما فيه عِزُّ الإسلام والمسلمين، اللهم قرِّب منهم البطانة الصالحة الناصحة التي تُعينهم إذا ذكروا، وتُذكرهم إذا نسوا، يا حيُّ، يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عِصْمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خيرٍ، واجعل الموت راحةً لنا من كل شرٍّ.
نسألك اللهم الثبات في الأمر، والعزيمة على الرُّشد، ونسألك شُكر نعمتك، وحُسْن عبادتك، ونسألك قلوبًا سليمةً، وألسنةً صادقةً، ونسألك من خير ما تعلم، ونعوذ بك من شرِّ ما تعلم، ونستغفرك لما تعلم ولا نعلم.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم أنزل لنا من بركات السماء، اللهم أخرج لنا من بركات الأرض، اللهم إنَّا نستغفرك إنك كنت غفَّارًا، اللهم فأرسل السماء علينا مِدْرارًا، اللهم اسقنا سُقيا رحمةٍ، لا سُقيا بلاءٍ، ولا عذابٍ، ولا هدمٍ، ولا غرقٍ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم أَغِثْ قلوبنا بالإيمان، وأَغِثْ بلادنا بالغيث النافع المبارك، يا حيُّ، يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10].
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].
اللهم صلِّ على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم.
الحاشية السفلية
^1 | “السيرة النبوية” لابن هشام: 1/ 615، و”دلائل النبوة” للبيهقي: 3/ 34. |
---|---|
^2 | “المغازي” للواقدي: 1/ 59، و”السيرة النبوية” لابن هشام: 1/ 621. |
^3 | رواه مسلم: 1763. |
^4 | رواه البخاري: 2915. |
^5 | رواه الطبراني في “المعجم الكبير”: 3128. |
^6 | “دلائل النبوة” للبيهقي: 3/ 79. |
^7 | رواه الطبري في “تفسيره”: 13/ 9. |
^8 | “السيرة النبوية” لابن هشام: 1/ 627. |
^9 | رواه مسلم: 1901. |
^10 | “السيرة النبوية” لابن هشام: 2/ 397. |
^11 | رواه البخاري: 4720، ومسلم: 1781. |
^12 | “السيرة النبوية” لابن هشام: 2/ 412، و”الشمائل الشريفة” للسيوطي: ص220. |
^13 | رواه البخاري: 2024، ومسلم: 1174. |