عناصر المادة
الحمد لله المتوحِّد بالعظمة والجلال، المتفرِّد بالبقاء والكمال، أحمده سبحانه وأشكره على جزيل الإنعام والإفضال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكبير المتعال، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله المنقذ بإذن ربه من الضلال، والداعي إلى كريم السجايا وشريف الخصال، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه خير صحبٍ وآلٍ، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[آل عمران: 102]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ[الطلاق: 2، 3]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا[الطلاق: 4]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا[الطلاق: 5].
أبرز قضايا سورة (ق)
عباد الله:
وقفات تدبُّرٍ واتعاظٍ واعتبارٍ، مع سورةٍ من أعظم سور القرآن موعظةً، وأوجزها بيانًا وبلاغًا، سورةٌ كان النبي كثيرًا ما يخطب بها في خطبة الجمعة؛ فعن أم هشامٍ بنت حارثة بن النُعمان رضي الله عنها قالت: “ما أخذتُ سورةَ ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ[ق: 1] إلَّا عَنْ لسانِ رسولِ اللَّهِ يَقْرَؤُهَا كُلَّ جُمُعَةٍ على المِنْبَرِ إذَا خَطَبَ النَّاسَ” [1].
هذه السورة اشتملت على: ابتداء الخلق، والبعث والنشور، والمعاد والحساب، والترغيب والترهيب، والجنة والنار.
الرد على المكذبين بالبعث والنشور
بدأت بقضيةٍ من أعظم القضايا وأكبرها في حياة الأمم، بدأت بقضية التكذيب بالبعث والنشور؛ حين يُنكر أولئك المكذبون من الكفار إعادة الخلق، ويستبعدون يوم الحساب، يقول الله : ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ[ق: 1-11]. فجاءت هذه السورة العظيمة لتُقرِّر هذه القضية الكبرى التي جادلت الأمم رسلها فيها كثيرًا، وتعجَّبوا منها وأنكروها وكفروا بها، وقد واجهت هذه السورة قلوب المشركين المنحرفة؛ لتردَّها إلى الحق، وتوقفها على الحقائق الكبيرة في هذا الوجود؛ لكي تتفكر وتتدبر في هذا الكون العظيم من حولها؛ في سمائه وأرضه، وفجاجه العظيمة، وسبله الواسعة، وتُقرِّر لهم أن الخلق يموتون فيصيرون ترابًا تذروه الرياح.
ثم يُبعثون وليس بعثهم من بعد موتهم بأعجب ولا بأصعب من إيجادهم من العدم، وما في هذا الكون من ثباتٍ واستقرارٍ، وبديع صنعٍ وإيجادٍ، وزينةٍ وجمالٍ وبهجةٍ، تبصرةٌ تكشف الحُجُب، وتُنير البصائر، وتفتح القلوب.
عاقبة المكذبين
ثم تعرض هذه السورة إلى مشهدٍ آخر قريبٍ من المشهد السابق؛ فتنطق بمآل المكذِّبين الذين جادلوا ومارَوا في هذه القضية؛ كما كان المشركون يُمارُون النبي ، فحقَّ عليهم الوعيد، وأخذهم العذاب، يقول الله سبحانه: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ[ق: 12-14]. وهذه الآيات لم تأتِ لتفصيل أمر هذه الأمم الماضية، وإنما تُلفت النظر إلى مصيرهم حين كذَّبوا الرسل وأنكروا البعث والجزاء.
التذكير بخلق الإنسان ورقابته
ثم تعود هذه السورة لتعالج القضية الكبرى، قضية البعث من جديدٍ، في مشهدٍ عظيمٍ يُذكِّر الإنسان بخلق الله تعالى له من التراب، وإيجاده من العدم، ورقابته له وقربه منه، وعلمه به وبأحواله وسكناته ووساوسه وخلجات ضميره؛ فيقول الله سبحانه: أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ[ق: 15-18].
فالله خلق الإنسان وأوكل بكل إنسانٍ ملَكين، يكتبان ويُحصيان عليه أقواله وأعماله في كتابٍ لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها، يلقى هذا الكتاب يوم القيامة منشورًا؛ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا[الإسراء: 14].
وتأمل قول الله عن الملَك الموكَّل بكتابة أعمال وأقوال ابن آدم: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ[ق: 18]. فوصفه الله تعالى بوصفين:
الأول: رقيبٌ أي: يُراقب ما يتكلم به الإنسان ويفعله.
الثاني: عتيدٌ أي: معَدٌّ ومسخَّرٌ لذلك.
سبحان الله! لو أُوكِل بواحدٍ منا واحدٌ من البشر، وفُرِّغ له تفريغًا كاملًا؛ لأجل أن يُلازمه، وأن يُسجِّل جميع حركاته وأقواله وأفعاله، فما ظنُّك بهذا الإنسان المراقَب، وما ظنُّك باحترازه من أن يتكلَّم بكلامٍ غير مناسبٍ، أو يتصرَّف بتصرفاتٍ غير مناسبةٍ، فكيف وقد وكَّل الله بكل إنسانٍ هذين الملكين الذين ليس لهما عملٌ سوى مراقبة هذا الإنسان، وكتابة جميع أقواله وأعماله، رَقِيبٌ عَتِيدٌ[ق: 18]، كلٌّ منهما معدٌّ ومتفرِّغٌ لمراقبة ما تتكلَّم به وما تعمله فيكتبه، ثم تُحاسب عليه يوم القيامة.
إذا استحضر الإنسان ذلك؛ فإن هذا كفيلٌ بأن يجعل الإنسان متيقِّظًا حذرًا من أن يُكتب عليه كلامٌ غير مناسبٍ ويُحاسب عليه يوم القيامة، أو أن يتصرَّف بتصرفاتٍ غير مناسبةٍ ويُحاسب عليها يوم القيامة.
الموت وأهواله وسكراته
ثم يأتي المشهد الرابع من هذه السورة، ليُفصِّل في الموت وأهواله وسكراته وشدائده، وهول الحشر وهول الحساب، فيقول ربنا سبحانه: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ[ق: 19-26].
إن لحظة الموت هي أشدُّ ما يحاول الإنسان أن يروغ منها ويحيد: ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ[ق: 19]؛ فالموت أعظم فاضحٍ لهذه الدنيا، ومنغِّصٍ لنعيمها، ومكدِّرٍ لصفوها، وهو حقٌّ لا مفرَّ منه ولا مهرب، الموت طالبٌ لا يملُّ الطلب، ولا يُبطئ الخُطى، لا يُخلف الميعاد، عند سكرة الموت يرى الإنسان الحق كاملًا بلا حجابٍ، يرى هذه الدنيا على حقيقتها، يرى أن هذه الدنيا لا تستحق من الإنسان كل هذا العناء، وكل هذا الصخب، وكل هذا النصب.
عند سكرات الموت، ينكمش عمر الإنسان الذي عاشه في هذه الدنيا، ينكمش إلى لحظات، ولا يتمنَّى الإنسان في ذلك الوقت شيئًا من أمور الدنيا، وإنما يتمنَّى أن لو اغتنم ذلك العمر القصير فيما ينفعه بعد مماته، ويتمنى لو أُخِّر لكي يعمل صالحًا: قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ[المؤمنون: 99، 100].
الحساب والخصام يوم القيامة
وما بعد الموت أشد وأقسى، حين يُنفخ في الصور، وتأتي كل نفسٍ تُقاد إلى الحساب الموعود على رؤوس الأشهاد، ومعها سائقٌ يسوقها، وشاهدٌ يشهد عليها بما عملت، وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ[ق: 21]، في موقفٍ عصيبٍ كان الإنسان في غفلةٍ عنه، فكُشف عنه الغطاء لينظر إليه ببصرٍ حديدٍ، لا يحجبه عنه حجابٌ، لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ[ق: 22]، قويٌّ لا يحجبه حجابٌ، هذا هو الموعد الذي غفلت عنه، هذا هو الموقف الذي لم تحسب حسابه، هذه هي النهاية التي لم تتوقع أن تكون هكذا، فالآن فانظر فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ[ق: 22].
فيتقدَّم قرينه الذي كان يكتب ما يلفظه من قولٍ وفعلٍ؛ ليشهد عليه شهادةً عظيمةً، فيقول: يا ربِّ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ[ق: 23]، هذه هي أقواله يا رب، وهذه هي أفعاله، هذه هي أعماله: هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ[ق: 23].
فيأمر الله تعالى ملائكته بإلقائه في العذاب الشديد في جهنَّم، وهو يُجادل ويُدافع عن نفسه، وأن الشيطان هو الذي أهواه وأغواه عن الاستعداد ليوم الوعيد، فيتبرأ منه الشيطان ويصفه بالضلال المبين: قَالَ قَرِينُهُ[ق: 23] أي: شيطانه: رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ[ق: 27].
فيجيء الفصل المبين من الرب ليُنهي مشهد الخصام، ويُقرِّر الحساب الرهيب، فالمقام ليس مقام اختصامٍ؛ فقد سبق الوعيد، وتوالت النُذُر، وثبت العمل: قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ[ق: 28، 29].
إهانة الكافرين وتكريم المتقين
وفي مشهدٍ من أعظم مشاهد يوم القيامة في هذه السورة وأشدِّها، يعرض الله تعالى فيه من أهوال النار وشدَّتها على العُصاة، وتحرُّقها وهي تتلهف وتسعى في الغلظة إلى المزيد: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ[ق: 30].
وأخرج البخاري في “صحيحه” عن أنسٍ أن النبي قال: يُلْقَى فِي النَّارِ وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ حتَّى يَضَعَ رَبُّ العِزَّةِ قَدَمَهُ فيهَا فتقول: قَطْ قَطْ [2] أي: حسبي حسبي.
وفي المقابل: مشهدٌ عظيمٌ من مشاهد تكريم الله لعباده المتقين، وما أعدَّ لهم من النعيم المقيم، والتكريم العظيم على رؤوس الأشهاد في جنَّة النعيم: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ[ق: 31-35].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم لما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ[الفاتحة: 2-4]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وليُّ الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام المتقين، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإنَّ خير الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمدٍ ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعةٌ.
مصير الأمم السابقة
عباد الله:
وفي عطفٍ بيانيٍّ بديعٍ، يعود في آخر السورة على تأكيد جميع ما سبق من المشاهد والقضايا؛ من البعث والخلق، ومصير الخلائق الماضية والقرون السالفة، وبعض أهوال يوم القيامة، ليُذكِّر هؤلاء المشركين بما أهلك من قبلهم من القرون، فيقول: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ[ق: 36، 37].
ثم يُقرِّر سبحانه حقيقةً كبرى: وهي أنه خلق السموات والأرض وما بينهما من خلقٍ هائلٍ بيُسرٍ وسهولةٍ، ما مسَّه من تعبٍ وإعياءٍ؛ فكيف بإحياء الموتى؟! وهو بالقياس إلى خلق السموات والأرض، أمرٌ هيِّنٌ، وكانت اليهود تقول: خلق الله السماوات والأرض في ستة أيامٍ بدأها بالأحد، ثم استراح يوم السبت، اليوم السابع، فأنزل الله تكذيبهم فقال: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ[ق: 38]. أي: من تعبٍ ولا نصبٍ ولا إعياءٍ.
ويأتي التوجيه الإلهي للنبي عليه الصَّلاة والسَّلام، بالصبر على أذى المشركين، والأمر بالصلاة والتسبيح والأذكار: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ[ق: 39، 40].
من مشاهد البعث والنشور
ثم تختتم هذه السورة بالحديث عن جملةٍ من مشاهد البعث والنشور، حين تتشقق الأرض عما فيها من الخلائق التي غبرت في تاريخ الحياة كلها إلى نهايتها؛ قبورٌ لا تُحصى، تعاقب فيها من الموتى ما لا يعلمه إلا الله، وكلها تتشقق في لحظةٍ واحدةٍ في مشهدٍ عجيبٍ لا يقدر عليه إلا الله : وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ[ق: 41-44].
قال الحافظ ابن كثيرٍ رحمه الله في “تفسيره”: “ذلك؛ أن الله يُنزل مطرًا من السماء، تنبت به أجساد الخلائق من قبورها، كما ينبت الحب في الثرى بالماء، فإذا تكاملت الأجساد أمر الله إسرافيل فينفخ في الصور، وقد أودعت الأرواح في ثقب الصور، فإذا نفخ إسرافيل فيه خرجت الأرواح تتوهج بين السماء والأرض، فيقول الرب : وعزتي وجلالي! لترجعن كل روح إلى الجسد الذي كانت فيه. فتدبُّ فيه كما يدبُّ السم في اللديغ، وتنشق الأرض عنهم فيقومون إلى موقف الحساب سراعًا، مبادرين إلى أمر الله : مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ[القمر: 8] [3].
وفي خِضَمِّ الحديث عن هذه المشاهد العظام من أهوال القيامة والجزاء، يأتي التوجيه للنبي تجاه جدل المشركين وتكذيبهم، على أنه ليس عليه إلا التذكير والبلاغ: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ[ق: 45].
والقرآن العظيم، يهزُّ القلوب المؤمنة ومن يخاف وعيد الله : لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ[الحشر: 21].
ألا وأكثروا من الصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير؛ فقد أمركم الله بذلك فقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن صحابته أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا رب العالمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أذلَّ الكفر والكافرين، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكانٍ.
اللهم وفِّق ولاة أمور المسلمين لتحكيم شرعك، واجعلهم رحمةً لرعاياهم، ووفِّق إمامنا وولي أمرنا لما تحب وترضى، وخُذْ بناصيته للبرِّ والتقوى.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلًّا للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوفٌ رحيمٌ.
نسألك اللهم من الخير كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الصافات: 180-182].