عناصر المادة
الحمد لله الذي منَّ علينا بشريعة الإسلام، وشرع لنا ما يقرب إليه من صالح الأعمال، الحمد لله الذي من علينا بمواسم الخيرات، ووفق من شاء لفعل الطاعات، أحمده تعالى وأشكره حمدًا وشكرًا، عدد خلقه، وزنة عرشه، ورضا نفسه، ومداد كلماته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله حق التقوى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا [الطلاق:5].
الحث على اغتنام أيام رمضان
عباد الله: مضت العشر الأول من رمضان وها نحن في بداية العشر الأواسط منه، وهكذا ستمر أيام وليالي هذا الشهر المبارك ستمر سريعًا، وتمضي جميعًا، وكما وصفها ربنا تبارك وتعالى بقوله: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [البقرة:184]، فعلينا أن نغتنم ما تبقى من أيام وليالي هذا الشهر.
تلاوة القرآن في رمضان
عباد الله: طرق الخير كثيرة وأبوابه متنوعة، وهي وإن كانت بحمد الله مشروعة في كل وقت إلا أنها تتأكد في هذا الشهر المبارك شهر مضاعفة الحسنات ورفعة الدرجات، ومن تلك القربات تلاوة القرآن الكريم، فإنها عمل صالح عظيم، وقد وردت النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة مرغبة فيها ومبينة عظيم ثوابها وأجرها عند الله تعالى، يقول الله : إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:29-30].
وفي صحيح مسلم عن أبي أُمامة أن النبي قال: اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه [1]، وفي صحيح مسلم عن عقبة بن عامر أن النبي قال يومًا لأصحابه: أيحب أحدكم أن يغدو إلى بطحان أو إلى العقيق وهما موضعان بالمدينة فيأتي منه بناقتين كوماوين أي عظيمتي السنام في غير إثم ولا قطيعة رحم قالوا: كلنا يحب ذلك يا رسول الله؟ قال: أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلم أو فيقرأ آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين، وثلاث خير من ثلاث، وأربع خير من أربع، ومن أعدادهن من الإبل [2].
فسبحان الله! يا له من أجر عظيم، وثواب جزيل، مرتب على عمل يسير، آيتان يقرأهما المسلم خير له من ناقتين كوماوين عظيمتي السنام، وثلاث خير من ثلاث، وأربع خير من أربع.
وإنما مثل النبي بالإبل؛ لأنها كانت أنفس الأموال عند العرب التي كانوا يعتزون بها، ويتفاخرون بها.
ولا يستغرب ما رتب من أجر عظيم على عمل يسير ففضل الله واسع وهو أكرم الأكرمين.
وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله : من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: ألف لام ميم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف [3]، رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
وقد حسب بعض السلف عدد حروف القرآن كما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما فضرب عدد حروف القرآن في عشرة، فكانت النتيجة أن من ختم القرآن يرجى أن يحصل على أكثر من ثلاثة ملايين حسنة، وذلك فضل الله، وفضل الله يؤتيه من يشاء.
وفي الصحيحين عن أبي موسى أن رسول الله قال: مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر [4].
فينبغي لك أخي المسلم أن تحرص على تلاوة القرآن، خاصة في هذا الشهر، وأن يكون لك على الأقل ختمة للقرآن في هذا الشهر، لا يليق بالمسلم أن يمر عليه هذا الموسم العظيم ولا يختم فيه كتاب الله .
صلاة التراويح والقيام في رمضان
عباد الله: ومن القربات التي يتأكد فعلها في هذا الشهر: قيام رمضان، لا سيما صلاة التراويح، فإنها سُنة سَنَّها رسول الله ثم ترك صلاتها في المسجد خشية أن تفرض على أمته، وبعد وفاته وانقطاع الوحي أحياها الصحابة في المسجد، ولا يزال عمل المسلمين عليها، فهي سُنة مؤكدة، يقول النبي في شأنها: من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه [5]، وقال: من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة [6]، ومعنى ذلك: أن من قام جميع ليالي هذا الشهر مع الإمام حتى ينصرف يكون قد قام رمضان كاملًا، فإذا كان ذلك عن إيمان واحتساب فهو موعود بأن تغفر له ذنوبه.
ومعنى إيمانًا أي: إيمانًا بالله، وبما أعد من الثواب للقائمين.
واحتسابًا أي: طلبًا للثواب، لم يحمله على ذلك رياء أو سمعة، أو نحو ذلك.
وينبغي أن يحرص من صلى صلاة التراويح ألا ينصرف حتى ينصرف الإمام من آخر ركعة، حتى يكتب له أجر قيام ليلة.
الإنفاق والبذل في سبيل الله
ومن القربات التي يتأكد فعلها في هذا الشهر: الإنفاق والبذل في سبيل الله ، والتصدق ابتغاء مرضات الله؛ كما قال ربنا سبحانه: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:245]، ويقول: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261]، وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ [البقرة:272]، وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39].
جاء في صحيح البخاري عن ابن مسعود أن رسول الله قال: أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: يا رسول الله، ما منا أحد إلا وماله أحب إليه؟ قال: فإن ماله ما قدم، ومال وارثه ما أخَّر [7].
وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي قال: ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان، يقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعطِ ممسكًا تلفًا [8].
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن النبي قال: بينما رجل يمشي بفلاة من الأرض فسمع صوتًا في سحابة: اسقِ حديقة فلان، فتنحى ذلك السحاب، فأفرغ ماءه في حرة فإذا شرجة أي مسيل ماء من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله، فتتبع الماء، فإذا رجل قائم في حديقته يحول الماء بمسحاته فقال له: يا عبد الله، ما اسمك؟ قال: فلان للاسم الذي سمع في السحابة، قال له: يا عبد الله لِمَ تسألني عن اسمي؟ قال: إني سمعتُ صوتًا في السحاب الذي هذا ماؤه، يقول: اسقِ حديقة فلان، باسمك، فما تصنع فيها؟ قال: أما إذا قلت هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثًا، وأرد فيه ثلثًا [9]، والنصوص الواردة في فضل الإنفاق في سبيل الله كثيرة جدًّا.
فجودوا بالإنفاق في سبيل الله، واقتدوا برسول الله الذي كان أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة.
العمرة في رمضان
عباد الله: ومن القربات التي تتأكد في هذا الشهر المبارك العمرة فإن العمرة في رمضان ثوابها وأجرها مثل ثواب الحج.
ففي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله قال: عمرة في رمضان تعدل حجة أو قال: حجة معي [10].
قال ابن العربي رحمه الله: “حديث العمرة هذا حديث صحيح، وهو فضل من الله ونعمة، فقد أدركت العمرة منزلة الحج بانضمام رمضان إليها”.
وينبغي لمن أراد أن يعتمر هذه الأيام أن يحرص على أخذ تصريح العمرة، وأن يلتزم بالإجراءات الوقائية التي وضعت لتحقيق المصلحة العامة.
الحذر من المعصية في شهر رمضان
عباد الله: وينبغي للصائم أن يحرص على أن لا يجرح صومه بمعصية، فإن كل معصية تقع من الصائم تنقص من أجر الصائم، وهذا أعني اجتناب المعاصي وإن كان مطلوبًا في كل وقت إلا أنه يتأكد في حق الصائم، يقول النبي : من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه [11]، أي: أن من كثرت منه المعاصي القولية التي عبَّر عنها عليه الصلاة والسلام بقوله: قول الزور، والفعلية، والتي عبر عنها بقوله: والعمل به، فقد يصل إلى هذه المرحلة التي ذكرها النبي في هذا الحديث، وهي: أن الله ليس له حاجة في أن يدع طعامه وشرابه، أي لا يؤجر ولا يثاب على هذا الصيام؛ لأن الصيام ليس إمساكًا عن المفطرات الحسية فحسب، بل هو كذلك إمساك عن المعاصي، فالذي لا يتأدب بآداب الصوم، ويقع في المعاصي القولية والفعلية، فكل معصية تنقص من أجر الصائم، وتجرح صومه، وربما إذا كثرت هذه المعاصي منه يصل إلى المرحلة المذكورة في الحديث، وهي: أنه لا يؤجر ولا يثاب على هذا الصيام؛ ليس لله حاجة في هذا الصيام الذي لم يتأدب فيه الصائم بآداب الصيام، ليس لله حاجة في هذا: فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه.
فعلى المسلم أن يستحضر هذا المعنى، وأن يحرص على اجتناب المعاصي، حتى لو أخطأ عليك أحد ينبغي ألا تقابل الخطأ بمثله، وأن تقول له: إني صائم: فإن سابَّه أحد أو قاتله، فليقل: إني امرؤ صائم [12].
قال جابر : “إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء”.
ألا وأكثروا من الصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير، فقد أمركم الله بذلك، فقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن صحابته أجمعين وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أذل الكفر والكافرين.
اللهم أبرم لأمة الإسلام أمرًا رشدًا يعز فيه أهل طاعتك، ويهدى أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
اللهم بارك لنا فيما تبقى من أيام وليالي هذا الشهر، اللهم وفقنا فيه للصيام والقيام، وصالح الأعمال، واجعلنا ممن يصومه ويقومه إيمانًا واحتسابًا، واجعلنا من عتقائك من النار، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لتحكيم شرعك، واجعلهم رحمة لرعاياهم، ووفق إمامنا وولي أمرنا لما تحب وترضى، ولما فيه صلاح البلاد والعباد، وقرب منه البطانة الصالحة الناصحة التي تعينه إذا ذكر، وتذكره إذا نسي، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10].
الحاشية السفلية
^1 | رواه مسلم: 804. |
---|---|
^2 | رواه مسلم: 803. |
^3 | رواه الترمذي: 2910. |
^4 | رواه البخاري: 5059، ومسلم: 797. |
^5 | رواه البخاري: 1901، ومسلم: 760. |
^6 | رواه الترمذي: 806. |
^7 | رواه البخاري: 6442. |
^8 | رواه البخاري: 1442، ومسلم: 1010. |
^9 | رواه مسلم: 2984. |
^10 | رواه مسلم: 1256. |
^11 | رواه البخاري: 1903. |
^12 | رواه البخاري: 1904. |