عناصر المادة
الحمد لله جامع الناس ليوم لا ريب فيه، إن الله على كل شيء قدير، ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وهو اللطيف الخبير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله البشير النذير، والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله حق التقوى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا [الطلاق:5].
محاسبة الله تعالى للعباد يوم القيامة
عباد الله: أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله : ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، ولا حجاب يحجبه، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدّم من عمله، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدّم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة [1]، هذا الحديث العظيم حديث جليل النفع، عظيم القدر، كثير الفائدة، ينبغي لكل مسلم أن يستحضر معناه، بيّن فيه النبي أنه ما من أحد من البشر إلا سيقف بين يدي الرب يوم القيامة، فيحاسبه على أعماله في الدنيا، خيرها وشرها، دقيقها وجليلها، سابقها ولاحقها، ما علمه العبد وما نسيه منها، يحاسبه الرب سبحانه بدون واسطة، بل يتولى الرب ذلك بنفسه، فينظر العبد أيمن منه فلا يرى إلا ما قدّم، وينظر أشأم منه أي عن شماله فلا يرى إلا ما قدّم، أي أن أعماله تكون حاضرة عن يمينه وعن شماله، فالحسنات عن يمينه، والسيئات عن شماله، لا يغادره في ذلك الموقف شيء منها.
قال بعض أهل العلم: إنه ينظر عن يمينه وشماله كحالة الذي دهمه أمر عظيم، فهو يتلفت يطلب النجاة، ويطلب الغوث، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، وذلك أن النار في ذلك الموقف العظيم تكون حائلة بين الناس وبين الجنة، فلا بد من ورودها، ولا بد من عبور الصراط لكل أحد؛ كما قال ربنا سبحانه: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا [مريم:71]، والورود هو المرور والعبور على الصراط: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم:72]، قيل لعلي بن أبي طالب : كيف يحاسب الله الخلائق جميعا في ساعة واحدة؟ قال: “كما يرزقهم في ساعة واحدة”.
فهو جل وعلا لعظمته وكبريائه وقدرته العظيمة كما يخلقهم ويرزقهم في ساعة واحدة، ويبعثهم في ساعة واحدة، فإنه يحاسبهم جميعًا في ساعة واحدة، فتبارك من له العظمة والمجد والملك العظيم والجلال، وهو على كل شيء قدير.
ستر الله على المؤمن في الدنيا والآخرة
وفي هذه الحال التي يحاسبهم فيها ليس مع العبد أنصار ولا أعوان ولا أولاد ولا أموال ولا أهل، بل جاءه فردًا كما خلقه الله أول مرة، قد أحاطت به أعماله كلها خيرها وشرها عن يمينه وعن شماله، جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : إن الله يُدني المؤمن فيضع عليه كنفه أي ستره ويستره فيقرره بذنوبه ويقول: أتعرف ذنب كذا وكذا؟ أتعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول: أي رب، فيقول: أعملت كذا وكذا يوم كذا وكذا؟ فيقول: نعم، ويقول: عملت كذا وكذا يوم كذا وكذا؟ فيقول: نعم، حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك، قال الله له: إني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم؛ فيعطى كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلائق: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين [2].
الشهود يوم القيامة
وجاء في صحيح مسلم عن أنس قال: كنا عند رسول الله فضحك، فقال: هل تدرون ممَّ أضحك؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: من مخاطبة العبد ربه يقول: يا رب ألم تُجرني من الظلم؟ فيقول: بلى، فيقول: -أي: ابن آدم- فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدًا مني، فيقول الله: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدًا، وبالكرام الكاتبين شهودًا، فيُختم على فيه، ويُقال لأركانه -أي: لجوارحه- انطقي، فتنطق بأعماله، ثم يخلى بينه وبينها الكلام، فيقول لجوارحه: بعدًا لكُنَّ وسحقًا، فعنكن كنت أناضل [3].
فيا أخي المسلم: تأمل في دلالات هذه الأحاديث، ومثل نفسك واقفًا بين يدي ربك ، والله سبحانه يقررك بذنوبك.
قال بعض أهل العلم: إن الله تعالى من إكرامه للمؤمن يضع كنفه عليه ويستره حين السؤال والتقرير، حتى لا يفتضح، وحتى لا يختزي أمام رؤوس الخلائق؛ لأنه حين السؤال والتقرير بذنوبه تتغير حاله، ويصيبه خوف شديد، وهلع عظيم، ويتبين فيه الكرب والشدة فليستحضر المسلم هذا المعنى، وليبادر بالأعمال الصالحة فإنها والله الكنز العظيم، إنها والله الكنز الحقيقي الذي يغتبط به الإنسان، ويُسر به حيًّا وميتًا، هذه الأعمال الصالحة سيجدها الإنسان في ذلك المقام العظيم أحوج ما يكون إليها، وسيفرح بها، ويُسر بها فرحًا عظيمًا، وليُقلع عن الذنوب والمعاصي، فإن الله سبحانه سيقرره بها في ذلك المقام العظيم: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7-8].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة.
اتقوا النار ولو بشق تمرة
عباد الله: وفي آخر هذا الحديث العظيم، يقول النبي : فاتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة [4]، والمقصود من ذلك: تقديم العمل الصالح الذي يكون واقيًا لصاحبه من النار، وأن العمل الصالح وإن قلّ ينفع صاحبه في ذلك المقام العظيم ولو بشق تمره، أي بنصف تمره يتصدق بها على مسكين، ولو بكلمة طيبة، فإن الكلمة الطيبة صدقة، ودل هذا الحديث العظيم على أن من أعظم المنجيات: الإحسان إلى الخلق بالمال وبالأقوال.
أما بالمال فأشار إليه بقوله: فاتقوا النار ولو بشق تمرة، وأما بالأقوال فأشار إليه بقوله: فمن لم يجد فبكلمة طيبة.
فالإحسان إلى الخلق عمومًا من أعظم المنجيات من النار، والعبد ينبغي له ألا يحتقر من المعروف شيئًا، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: ولو بشق تمرة أي ولو أن يتصدق بشيء يسير بشيء زهيد ولو بنصف تمرة.
فمن لم يجد فبكلمة طيبة فلا يحتقر الإنسان صدقة يتصدق بها على فقير أو مسكين وإن قلّت، ولا يحتقر كلمة طيبة فإنها ربما تكون هي السبب في نجاته في ذلك الموقف.
والكلمة الطيبة تشمل النصيحة للخلق بتعليمهم ما يجهلون، وبإرشادهم إلى مصالحهم، وتشمل الكلام المسر للقلوب الشارح للصدور الذي يقارنه البشاشة والبِشر، وتشمل كذلك وهو أعظمها: ذكر الله ، والثناء عليه.
فكل كلام يقرب إلى الله ويحصل به النفع لعباد الله فهو داخل في الكلمة الطيبة: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10]، وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا [الكهف:46].
ألا وأكثروا من الصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير، فقد أمركم الله بذلك، فقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن صحابة نبيك أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أذل الكفر والكافرين،
اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان،
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لتحكيم شرعك، واجعلهم رحمة لرعاياهم.
اللهم وفق إمامنا وولي أمرنا لما تحب وترضى، اللهم وفقه وولي عهده لما فيه صلاح البلاد والعباد، وقرب منهما البطانة الصالحة الناصحة التي تعينهم على الخير، وتدلهم عليه، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم أعنا على ذكرك وعلى شكرك، وعلى حسن عبادتك.
ربنا لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ووفقنا لما تحب وترضى من الأقوال والأعمال، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
نسألك اللهم من الخير كله عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم.
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45].