عناصر المادة
الحمد لله الكريم الوهاب، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، ذي الطَّول لا إله إلا هو إليه أدعو وإليه متاب، أحمده تعالى وأشكره، حمدًا وشكرًا كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسلمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[آل عمران: 102]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[الأحزاب: 70، 71].
قصة قاتل المائة
عباد الله:
نقف في هذه الخطبة وقفاتٍ يسيرةٍ، مع حديثٍ عظيمٍ من مشكاة النبوة، قصَّه النبي من قَصَص السابقين؛ لأجل أن نأخذ العبر والعظات منه، حديثٌ عظيمٌ في قصةٍ عجيبةٍ، هذه القصة وهذا الحديث، أخرجه البخاري ومسلمٌ في “صحيحيهما” عن أبي سعيدٍ ، أن رسول الله قال: كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ فَأَتَاهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: أَتَقْتُل تِسْعَة وَتِسْعِينَ نَفْسًا وَتَسْأَل: هَلْ لَكَ مِنْ تَوْبَة! لَا، لَيْسَ لَكَ تَوْبَةٌ. فَقَتَلَهُ وكَمَّلَ بِهِ المِائَةً. ثُمَّ إنه سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ هَذَا الْعَالِم: نَعَمْ، وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟! وَلَكِنَّكَ بِأَرْض سُوءٍ، انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا؛ فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ تَعَالَى، فَاعْبُدِ اللَّهَ مَعَهُمْ، وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ؛ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ. فَانْطَلَقَ هذا الرَّجل حَتَّى إِذَا كَانَ فِي مُنتَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، فَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلًا بِقَلْبِهِ إِلَى اللَّهِ، وَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ: إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ. فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ –أي: حَكَمًا- فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ، فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ، فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَلَمْ يَعَمَل خَيْرًا قَط . قال قتادةُ: قال الحسَنُ: ذُكِرَ لنا: أنه لمَّا أتاه الموتُ نأَى بصدره [1].
وفي روايةٍ: فَكَانَ إِلَى الْقَرْيَة الصَّالِحَةِ أَقْرَب بِشِبْر، فَجُعِلَ مِنْ أَهْلِهَا [2].
وفي روايةٍ: فَأَوْحَى الله إِلَى هَذِهِ أَنْ تَبَعَّدِي، وَإِلَى هَذِهِ أنْ تَقَرَّبِي، وَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَهُمَا، فَوَجَدُوهُ إِلَى هَذِهِ أَقْرَبَ بِشِبْر، فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَة الرَّحْمَة [3].
دروس مستفادة من قصة قاتل المائة
عباد الله:
هذه قصةٌ عجيبةٌ، فيها فوائد عظيمةٌ، ودروسٌ كبيرةٌ.
هذه القصة تفتح بابًا عظيمًا من الأمل لكل عاصٍ ومذنبٍ، مهما كانت معصيته، ومهما كَبُرَ ذنبه وجُرْمُه، إنها قصة رجلٍ أسرف على نفسه بالمعاصي والذنوب الكبار، ثم رجع إلى الله تعالى بعدما وجد ذُل المعصية، وأحس بوحشتها، وأظلمت عليه، وأنَّبه ضميره، لقد قتل تسعةً وتسعين نفسًا معصومةً، ظلمًا وعدوانًا.
والقتل العمد العدوان من أعظم الذنوب، ومن أعظم الجرائم، وهو محرمٌ في جميع الشرائع السماوية؛ كما قال الله تعالى: مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا[المائدة: 32].
وقرنها بجريمة الشرك الذي هو أعظم الذنوب، فقال: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَنْ تَابَ..[الفرقان: 68-70].
ويقول سبحانه: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا[النساء: 93].
وجاء في “صحيح البخاري” من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي قال: لَا يَزَالُ الـمُؤْمِن فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِه مَا لَمْ يُصِب دَمًا حَرَامًا [4]. وهذا في جريمة قتلٍ واحدةٍ، فكيف بمن قتل مائة نفسٍ؟!
إن الجُرم أعظم، والإثم آكد، ولكن رحمة الله واسعةٌ، والله تعالى يتوب على من تاب.
هذا الرجل تاه وضل وعاش في مستنقعٍ من الجرائم، وقتل نفوسًا معصومةً، ولكن لا يزال في قلبه وفي نفسه بذرةٌ من خيرٍ، بذرةٌ من إيمانٍ أنَّبَتْه وجعلته يبحث عن الخير وعن الحق، ويسأل عن أعلم أهل الأرض؛ لكي يدله على الطريق الصحيح.
فلما ذهب إلى ذلك العابد، وليس بعالِمٍ، أغلق في وجهه باب التوبة، فكمَّل به المائة؛ لأنه أصيب باليأس والإحباط، ولكن لا تزال بذرة الخير فيه، ولا يزال ضميره يؤنبه حتى سأل مرةً أخرى عن أعلم أهل الأرض، فدُلَّ على عالمٍ، فقال: ومَنْ يَحُول بِيْنَكَ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟!.
لقد بدأ يبحث عن الطريق الصحيح، وأراد أن يغير حياته بالتوبة، ولكنه استعظم ذنوبه وجرائمه؛ ولذلك جعل يسأل: هل له من توبةٍ؟ حتى وصل لأعلم أهل الأرض، فتاب وأقبل إلى ربه، أقبل إلى ربه تائبًا منيبًا.
ويُقَدِّر الله أن يأتيه الموت في تلك اللحظات، وهو لم يعمل خيرًا قط، لكنه أقبل إلى الله تائبًا، فأشكل أمره على الملائكة.
وهذه من الأمور العجيبة! أن الملائكة يُشكِل عليها أمر رجلٍ من بني آدم، لكن أمر هذا الرجل عجيبٌ وقصته أعجب! فهذا رجلٌ أسرف بالذنوب والمعاصي، قتل مائة نفسٍ، لكنه في آخر لحظةٍ من حياته أقبل إلى الله تائبًا، فملائكة الرحمة تقول: إنه أقبل إلى الله تائبًا، وملائكة العذاب تقول: إنه أسرف على نفسه بهذه الذنوب الكبار، ولم يعمل خيرًا قط، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأرسل الله تعالى مَلَكًا على صورة آدمي، وقال: قيسوا ما بينهما، فوجدوه أقرب إلى القرية التي هاجر إليها بشبرٍ، فقبضته ملائكة الرحمة وهو لم يعمل خيرًا قط.
ما أعظم رحمة الله! وما أعظم جود الله! وما أعظم إحسانه إلى عباده!
أثر التوبة الصادقة
فانظروا، كيف أن لحظاتٍ أقبل فيها هذا الرجل إلى ربه تائبًا منيبًا، رجَحَت بحياةٍ مليئةٍ بالجرائم والمعاصي والذنوب الكبار وقتل النفوس المعصومة، لكنها رحمة الله التي سبقت غضبه! رحمة الله وإحسانه وفضله وعفوه، فسبحانه جلَّ وعلا هو التواب الرحيم! ومن أسمائه: التواب، غافر الذنب وقابل التوب جلَّ وعلا!.
إن التوبة الصادقة تَجُبُّ ما قبلها من الذنوب والمعاصي، والإسلام يهدم ما كان قبله من الفجور والعصيان.
ولما قَدِم عمرو بن العاص إلى النبي يريد الإسلام، وضع يده في يد النبي ليبايعه على الإسلام، ثم إن عَمْرًا قبض يده، فقال له عليه الصَّلاة والسَّلام: مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟. قال: أردت أن أشترط. قال: تَشْتَرِطُ مَاذَا؟. قال: أن يُغفر لي، فقال النبي : أَمَا عَلِمْتَ يَا عَمْرُو أَنَّ الْإسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَه، وأَنَّ الهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا، وأَنَّ الحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَه؟! [5].
التوبة الصادقة من أعظم منازل العبودية التي يرتقي بها العبد في سلم الحسنات، فإلى الآيسين من رحمة الله، القانطين من عفوه وغفرانه، المسرفين على أنفسهم بالذنوب والمعاصي: أقبِلُوا على الله تائبين منيبين، لا تستعظموا الذنوب مهما كانت؛ فإن الله لا يتعاظمه ذنبٌ إلا غفره، يدعو عبادة للتوبة، يحثهم عليها، ويَعِدَهُم بقبولها، يبْسُطُ يدهُ بِاللَّيْلِ ليتُوبَ مُسيءُ النَّهَارِ، وَيبْسطُ يَدهُ بالنَّهَارِ ليَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِن مغْرِبِها [6].
وإذا كان ثلث الليل الآخِر ينزل الرَّب إلى السَّماء الدنيا، نزولًا يليق بجلاله وعظمته، وينادي عباده كل ليلةٍ: هل من مستغفرٍ فأغفرَ له؟ هل من داعٍ فاستجيبَ له؟ هل من سائلٍ فأعطيَه؟
فما أعظم مغفرة الله! وما أعظم إحسانه ورحمته بعباده!
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ[الزمر: 53].
ويقول الله تعالى في الحديث القدسي: يَا ابْنَ آَدَمَ، إِنَّكَ مَا دَعَوتَنِيْ وَرَجَوتَنِيْ غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ وَلا أُبَالِي، يَا ابْنَ آَدَمَ، لَو بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ، ثُمَّ استَغْفَرْتَنِيْ غَفَرْتُ لَكَ وَلا أُبَالِي، يَا ابْنَ آَدَمَ لَو أَتَيْتَنِي بِقِرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا، ثُمَّ لقِيْتَنِي لا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا، لأَتَيْتُكَ بِقِرَابِهَا مَغفِرَةً [7].
فما أعظم كرم الرحمن جلَّ وعلا! وما أعظم إحسانه وجوده بعباده! ما أجل فضله! يعصونه بالليل والنهار فيحلُم عليهم، ويعافيهم ويمهلهم ويرزقهم ويتودد إليهم، يدعوهم إلى التوبة والغفران، وهو الغني عنهم، هو الغني الحميد، وهو العزيز الحكيم، وهو ذو البطش الشديد، لكنه رحمنٌ رحيمٌ بعباده جلَّ وعلا.
باب التوبة مفتوح
عباد الله:
ومن أعظم فوائد هذه القصة: أن باب التوبة مفتوحٌ للعصاة والمذنبين، مهما كانت ذنوبهم وخطاياهم، فمن تاب تاب الله عليه، لا يحول بين المذنب وبين أن يتوب إلى الله تعالى حائلٌ، ولا يصده مانعٌ، باب التوبة مفتوحٌ، ما دام حيًّا ولم تبلغِ الروحُ الحلقوم، أو تطلع الشمس من مغربها، فإذا بلغت الروح الحلقوم أُغلِق في وجه الإنسان باب التوبة؛ لأنه انتقل من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، ورأى الملائكة أمامه، حينئذٍ لا ينفع الإيمان، ولا تنفع التوبة.
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ[النساء: 18].
وهكذا، إذا طلعت الشمس من مغربها، إذا رأى الناس هذه الآية الكونية العظيمة تابوا أجمعون، ولكن يُغلَق باب التوبة، فلا تُقبَل حينئذٍ، وما عدا ذلك؛ ما لم تبلغ الروح الحلقوم، وما لم تطلع الشمس من مغربها، فباب التوبة مفتوحٌ، ولا أحد يحول بين العباد وبين التوبة.
ومن أسماء الله : التوَّاب، ومن أسمائه: الغفور، الغفار، العفو، وهو جلَّ وعلا واسع المغفرة.
بل أخبر النبي ، وهو الصادق المصدوق، بأن الله سبحانه يفرح بتوبة عبده فرحًا عظيمًا، مع غناه عنه، لكنه يحب الإحسان لعباده جلَّ وعلا، فعن أنسٍ أن النبي قال: لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ -حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ- مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا –أي: ينتظر الموت وجَلَسَ تحت ظل شجرةٍ- فَأَيِسَ مِنْهَا فأتى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا -أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ يَنْتَظِر الْمَوْت- فَبَيْنَما هُوَ كَذَلِكَ، إِذَا هِيَ بِهَا قَائِمَةٌ عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، وقَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ. أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ [8].
فانظروا إلى عظيم فرح الله بتوبة عبده! أشد فرحًا من توبة هذا الإنسان، ما ظنك بإنسان في صحراء، في برِّيَّةٍ، وعلى جَمَلٍ أو على بعيرٍ، وعليها طعامه وشرابه، فانفلتت منه هذه الراحلة، وبقي تحت ظل شجرةٍ يائسًا ينتظر الموت، فبينما هو كذلك، نام ثم استيقظ، فإذا براحلته عنده عليها طعامه وشرابه، ما ظنك بفرحه؟
إنها فرحة من رأى الموت ثم رأى الحياة، فرحٌ عظيمٌ لا يوصف، الله أشد فرحًا بتوبة عبده من هذا الإنسان.
وهذا يدل على عظيم إحسان الله لعباده، وعلى محبته لتوبة عباده إذا تابوا إليه، يفرح جلَّ وعلا بذلك فرحًا شديدًا، مع أنه سبحانه غنيٌّ عن عباده جلَّ وعلا؛ كما قال في الحديث القدسي: يا عِبَادِي! لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا علَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ مِنكُمْ، ما زَادَ ذلكَ في مُلْكِي شيئًا [9]، لكنه سبحانه كريمٌ جوادٌ، رحمنٌ رحيم، يحب من عباده أن يتوبوا، وأن يُقْبِلُوا إليه.
الأعمال بالخواتيم
عباد الله:
ومن فوائد هذه القصة: أن الأعمال بالخواتيم، لقد عاش هذا الرجل حياته مسرفًا، حياةً كلها أوحالٌ في المعاصي، أسرف على نفسه بالخطايا، قتل مائة نفسٍ ظلمًا وعدوانًا، لكن الله أراد له حسن الخاتمة، فقبضته ملائكة الرحمة، يقول النبي : إنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ حتَّى ما يَكونُ بيْنَهُ وبيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عليه الكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وإنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، حتَّى ما يَكونُ بيْنَهُ وبيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عليه الكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا [10].
والمراد بذلك عند أهل العلم: فيما يبدو للناس، وإلا، من كان محسنًا فحصل منه زلةٌ في آخر حياته؛ فإن الله عدلٌ لا يدخل النار بسبب تلك الزلة، لكن هذا فيما يبدو للناس، إنسانٌ مراءٍ فيظهر للناس كأنه من أهل الجنة، فيُختم له بعمل أهل النار فيدخلها، وإنسانٌ آخر يظهر للناس أنه مسرفٌ على نفسه في الذنوب والمعاصي، لكن عنده إقبالٌ وإنابةٌ وتوبةٌ إلى الله، ثم يُختَم له بالخاتمة الحسنة فيدخل الجنة.
وهذا يدل على أنه ينبغي للمسلم أن يسأل الله تعالى حسن الخاتمة.
إن ساعة التوبة لأسعد لحظات المسلم وأيامه؛ لأنها تخرجه من ظلمات المعاصي إلى نور الطاعة والإيمان، وتحيي لديه معاني الإيمان، وتفتح له آفاقًا من الحياة، والنعيم، والسعادة والراحة لا يجدها إلا من تاب إلى ربه وأناب.
بل يقول بعضهم: إن تلك اللحظة لحظة التوبة الصادقة كأنها أعظم لحظة فرحٍ تمر على الإنسان، كما قال الصحابي الجليل كعب بن مالكٍ، حين تخلف عن رسول الله في غزوة تبوك، وأنزل الله توبته، وانطلق الناس يهنؤونه بتوبة الله عليه، وقال له النبي : لِتَهْنِكَ تَوْبَة اللهِ عليك، أبْشِرْ بخَيْرِ يَومٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ ولَدَتْكَ أُمُّكَ [11]؛ لأنه هذا اليوم الذي تاب الله تعالى فيه عليه، فهي لحظاتٌ عظيمةٌ في حياة الإنسان.
فضل العالم
ومن فوائد هذه القصة: بيان فضل العالم على العابد، فانظروا كيف أن هذا العالم وجَّه هذا الرجل التوجيه الصحيح، بينما العابد أخطأ في ذلك، وضيَّق على هذا الرجل، فالعلماء الربانيون الذين يصدرون في أقوالهم وفتاواهم عن العلم والفقه، هم ورثة الأنبياء، يهدي الله تعالى بهم من الضلال، ويبصِّر بهم من العمى، هم مثلهم كمثل النجوم يهتدى بها في ظلمات البر والبحر.
فإذا ألمَّ بالمسلم نازلةٌ، أو أشكل عليه شيءٌ، عليه أن يسأل أهل العلم الأثباتَ الناصحين، الذين يدلونه على الحق ويرشدونه إليه، لا كما يفعله بعض الناس حينما تُشْكل عليه مسألةٌ يسأل من يعرف ومن لا يعرف في أمور دينه ودنياه، فربما دُلَّ بأمرٍ غير مناسبٍ، كما أن هذا الرجل لما ذهب لذلك الراهب، أغلق في وجهه باب التوبة، وقال: ليس لك توبةٌ، لكنه لما ذهب إلى ذلك العالم، فتح له آفاق التوبة، وأرشده لأن يغير بيئته، فكان ذلك سببًا من الأسباب التي جعلته يُقبِل إلى الله تعالى تائبًا منيبًا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمدٍ ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعةٌ.
أثر البيئة والصحبة على الإنسان
عباد الله:
ومن أعظم الدروس والفوائد المستفادة من هذه القصة: الفائدة والدرس الذي أشار إليه أعلم أهل الأرض، حينما قال لهذا الرجل: إنَكَ بِأَرْضِ سُوءٍ، فانْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا؛ فَإِنَّ فيها قومًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ . وذلك أن هذه البيئة التي شجعت هذا الرجل على قتل مائة نفسٍ، هي بيئةٌ سيئةٌ فاسدةٌ، وهذا يدل على أثر البيئة، وأثر الصحبة على الإنسان.
فعلى الإنسان إذا أراد التوبة الصادقة، وأراد الإنابة إلى الله ، أن يختار له جلساء صالحين، وإلا فإنه إذا استمر على جلسائه السيئين الذين كانوا سببًا في أن يقع في هذه الذنوب والمعاصي، يزينون له المعاصي، ويثبطونه عن الطاعات، فإنه حتى وإن تاب لن تكون هذه التوبة صادقةً، إذا أراد الصدق في التوبة فعليه أن يغير من جلسائه، وأن يبتعد عن جلساء السوء، وأن يحرص على جلساء الخير الذين يعينونه إذا ذكر، ويذكرونه إذا نسي، يحس كل يومٍ منهم بزيادةٍ في أمر دينه؛ بعلمٍ يتعلمه، بفائدةٍ يسمعها، بأمورٍ مفيدةٍ في أمور دينه ودنياه.
والْـمَرْءُ عَلَى دِين خَلِيلِه، فَلِيَنْظُرْ أَحَدُكُم إِلَى مَنْ يُخَالِلُ [12]، ولهذا فمن كان صادقًا، من أراد أن يتوب إلى الله ، فعليه أن يفارق تلك الأماكن التي تسببت في وقوعه في تلك المعاصي، وأن يحرص على هجران جلساء السوء؛ فإن من علامة صدق التوبة هجران رفقاء السوء، والإقبال على مجالسة أهل الخير.
عباد الله:
ويوم القيامة، الظالم المسرف على نفسه بالذنوب والمعاصي، يعض على يديه؛ كما قال سبحانه: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا[الفرقان: 27].
حياةٌ مليئةٌ بالندم، لكنه لا يذكر إلا أمرًا واحدًا كان هو السبب في أن يقع في هذه الذنوب والمعاصي، وأن يسرف على نفسه، ما هو هذا السبب؟
أشار إليه ربنا في قوله عن هذا الظالم: يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا[الفرقان: 28، 29].
فلم يذكر من هذه الحياة المليئة بالندم إلا ندمه على مصاحبة فلانٍ الذي أضله عن الذكر، والذي تسبب في أن يُسرف على نفسه بالذنوب والمعاصي، لم يذكر من هذه الحياة المليئة بالندم إلا جليس السوء، فيرى عظيم أثره في إضلاله، وعظيم أثره في إغوائه، ولذلك؛ فعلى المسلم أن يحرص على الجلساء الصالحين، وعليه أن ينتقي جلساءه، وأن يبتعد عن جلساء السوء.
ألا وأكثروا من الصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير؛ فقد أمركم الله بذلك فقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمدٍ.
اللهم ارضَ عن صحابة نبيك أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أذل الكفر والكافرين.
اللهم انصر من نصر دين الإسلام في كل مكانٍ، واخذل من خذل دين الإسلام في كل مكانٍ، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادًة لنا في كل خيرٍ، واجعل الموت راحةً لنا من كل شرٍّ.
نعوذ بك اللهم من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفُجَاءة نقمتك، وجميع سخطك.
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لتحكيم شرعك، واجعلهم رحمةً لرعاياهم، ووفق إمامنا وولي أمرنا لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، وقرِّب منه البطانة الصالحة الناصحة، ووفقه وولي عهده لما فيه صلاح البلاد والعباد، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.
نسألك اللهم من الخير كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الصافات: 180-182].
الحاشية السفلية
^1, ^3 | رواه البخاري: 3470، ومسلم: 2766. |
---|---|
^2 | رواه مسلم: 2766. |
^4 | رواه البخاري: 6862. |
^5 | رواه مسلم: 121. |
^6 | رواه مسلم: 2759. |
^7 | رواه الترمذي: 3540، وأحمد: 21472. |
^8 | رواه مسلم: 2747. |
^9 | رواه مسلم: 2577. |
^10 | رواه البخاري: 7454، ومسلم: 2643. |
^11 | رواه البخاري: 4418، ومسلم: 2769. |
^12 | رواه أبو داود: 4833، والترمذي: 2378، وأحمد: 8028. |