عناصر المادة
الحمد لله الذي شرَّف قَدْرَ الرسول الكريم، وأمرنا بالصلاة والسلام عليه في القرآن الحكيم، ومَنَّ علينا باتباع هذا النبي الرحيم.
أحمده تعالى وأشكره حمدًا وشكرًا كما يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأحمده وأشكره حمدًا وشكرًا عددَ خلقِه، وزِنَةَ عرشه، ورضا نفسه، ومداد كلماته.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين، البشير النذير، والسراج المنير، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد ربه مخلصًا له الدين حتى أتاه اليقين. فصلوات الله وسلامُه عليه، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، فإن التقوى هي وصية الله للأولين والآخرين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
عباد الله:
القسم بحياة النبي
إن الله تعالى قد اصطفى نبينا محمدًا لأداء الرسالة، وتبليغ الشريعة، وجعله الله تعالى خاتم النبيين، وسيد المرسلين، بل جعله سيد ولد آدم، وأقسم الله تعالى بحياة هذا النبي الكريم، كما في قول الله سبحانه: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [الحجر:72].
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في “تفسيره”: “أقسم الله تعالى بحياة نبيه صلوات الله وسلامه عليه، وفي هذا تشريف عظيم”. لَعَمْرُكَ؛ أي: لعمر هذا النبي، فأقسم الله تعالى بحياة نبيه صلوات الله وسلامه عليه. “وفي هذا تشريف عظيم، ومقام رفيع، وجاه عريض”.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفسًا أكرم عليه من محمد ، وما سمعتُ الله أقسم بحياة أحد غيره.
عباد الله:
وإظهارًا لفضل هذا النبي العظيم، وعظيم شرفه؛ ورفعًا لذِكره الذي امتنَّ الله تعالى به عليه في قوله: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح:4]؛ فقد أمر الله تعالى المؤمنين بالصلاة والسلام عليه، فقال : إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
قال الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية: “المقصود من هذه الآية أن الله سبحانه أخبر عباده بمنزلة عبده ونبيه عنده في الملأ الأعلى، بأنه يصلي عليه؛ أي: يثني عليه عند الملائكة المقربين، وأن الملائكة تصلي عليه؛ أي: تُثْني عليه. ثم أمر تعالى أهل العالم السفلي بالصلاة والتسليم عليه؛ ليجتمع له بذلك الثناءُ عليه من العالَمَين: العلوي والسفلي جميعًا.
قال أبو العالية رحمه الله: صلاة الله على نبيه: ثناؤه عليه عند الملائكة، وكذا صلاة الملائكة عليه؛ أي: ثناؤهم عليه، وأما صلاة المؤمنين عليه التي أمر الله تعالى بها؛ فهي سؤالهم أن الله يثني عليه عند الملائكة.
الأمر بالصلاة والسلام على النبي
وينبغي أن تُقرَن الصلاة على النبي بالسلام عليه؛ فإن الله أمر بهما جميعًا، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
قال النووي رحمه الله: نص العلماء على كراهة الاقتصار على الصلاة على النبي من غير تسليم؛ لأن الله قد أمرنا بهما جميعًا.
وتأمَّل كيف أن الله تعالى قد خص آية من القرآن العظيم، خص آية من كتابه الكريم للأمر بالصلاة والسلام على نبيه؛ وهذا يقتضي أن الصلاة والسلام على النبي عبادة عظيمة، وقربة جليلة، ويظهر ذلك من وجوه:
- الوجه الأول: أن الله تعالى خص آية من كتابه الكريم للأمر بهذه العبادة.
- الوجه الثاني: أن الله تعالى أخبر بأنه يصلي على نبيه، ثم أمر المؤمنين بالصلاة عليه؛ وهذا يقتضي عظيم شرف هذه العبادة.
- الوجه الثالث: أن الله تعالى أخبر بأن ملائكته يصلون على النبي، ثم أمر المؤمنين بالصلاة عليه. وأمرٌ تُؤمَر به الملائكة ويؤمر به المؤمنون أمرٌ عظيم.
- الوجه الرابع: أن الله تعالى نادى المؤمنين بوصف الإيمان؛ وهذا إنما يكون للتنبيه على أهمية ما يعقب هذا النداء.
- الوجه الخامس: أن الله تعالى أمر بالصلاة والسلام على نبيه أمرًا صريحًا، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وأقل ما يفيده الأمر الاستحباب.
فضل الصلاة على النبي
فالصلاة على النبي عبادة وقربة عظيمة؛ ويؤكد هذا المعنى قوله النبي في الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم في “صحيحه”: مَن صلَّى عليَّ صلاةً واحدة، صلى الله عليه بها عشرًا[1].
ومعنى صلاة الله على الإنسان: أنَّ اللهَ يُثني عليه في الملأ الأعلى؛ أي: أنك إذا صلَّيْتَ على النبي مرةً واحدة أثنى اللهُ عليك عشر مرات بسبب ذلك.
ولو لم يَرِدْ في فضل الصلاة على النبي إلا هذا الحديث لَكَفى، إذا قلتَ: “اللهم صلِّ وسلِّم على نبيك محمدٍ”؛ أثنى اللهُ عليك عشرَ مراتٍ في الملأ الأعلى.
وعن أنس : أن رسول الله قال: مَن صلى عليَّ صلاةً واحدة، صلى الله عليه عشر صلوات، وحَطَّ عنه عشر خطيئات، ورُفعت له عشر درجات[2].
والصلاة على النبي من أسباب مغفرة الذنوب، وزوال الهموم؛ ويدل لذلك حديث أُبي بن كعب قال: قلتُ: يا رسول الله، إني أُكثِر من الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال: ما شئتَ قلت: الربع؟ قال: ما شئتَ، وإن زدت فهو خيرٌ لك قلت: النصف؟ قال: ما شئت، وإن زدت فهو خير لك قلت: الثلثين؟ قال: ما شئت، وإن زدت فهو خير لك قلت: أجعل لك صلاتي كلها. قال: إذن؛ تُكفَى هَمَّك، ويُغفر لك ذنبُكَ[3]
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله معلقًا على هذا الحديث: كان لأبي بن كعبٍ دعاءٌ يدعو به لنفسه، فسأل النبي : هل يجعل له منه ربعَه صلاةً عليه ، أو نصفه أو الثلثين، إلى أن قال: أجعل لك صلاتي كلها؛ أي: أجعل دعائي كلَّه صلاةً عليك؟ فقال : إذن؛ تُكفَى همك، ويغفر لك ذنبك؛ لأنه مَن صلى على النبيِّ صلاةً صلى الله عليه بها عشرًا، ومَن صلى الله عليه كفاه همه، وغفر له ذنبه.
فأُبَيُّ بن كعبٍ كان قد خصَّص وقتًا للدعاءِ كلَّ يوم، فأرشده النبي إلى أن يجعل هذا الوقت كله للصلاة على النبي .
وقوله: إذن؛ تُكفَى همَّك، ويغفر ذنبك في هاتين الخصلتين جماع الدنيا والآخرة؛ فإنَّ مَن كفاه الله همَّه سَلِم من مِحَن الدنيا وعوارضها؛ لأن كل محنة لا بد لها من تأثير الهمِّ وإن كانت يسيرة، ومَن غفر الله له ذنبه سَلِم من محن الآخرة؛ لأنه لا يُوبِق العبدَ فيها إلا ذنوبُه.
وكثرة الصلاة على النبي تستلزم كثرة ورود ذِكره على القلب، فيزداد المسلم بذلك إيمانًا بالنبي ، ومحبة له، وتمسكًا بسنته.
صفة الصلاة على النبي
وأما صفة الصلاة على النبي في أثناء الصلاة، فقد سأل الصحابةُ النبيَّ فقالوا: يا رسول الله، عرفنا كيف نُسلِّم عليك -أي: في قول المصلي: السلام عليك أيها النبي، ورحمة الله وبركاته- فكيف نصلي عليك؟ قال: قولوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد[4].
وأما خارج الصلاة؛ فيقول مَن يريد الصلاة والسلام عليه: اللهم صلِّ وسلِّم على رسولك محمد.
والأفضل أن يشمل ذلك الآل والأصحاب، فيقول: اللهم صلِّ وسلم على رسولك محمد، وعلى آله وصحبه. هذا هو الأكمل في صيغة الصلاة والسلام عليه: اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة.
المواضع التي تتأكد فيها الصلاة على النبي
عباد الله:
الصلاة على النبي قربة وعبادة في كل وقت، ولكنها تتأكد في مواضع، منها: يوم الجمعة، فقد صحَّ عن النبي أنه قال: إنَّ مِن أفضل أيامكم يومَ الجمعة؛ فأَكثِروا عليَّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي قالوا: يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ أي: بليت قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء[5].
ومن المواضع: افتتاح الخطب والكلمات، فيستحب افتتاحها بحمد الله وتمجيده، ثم بالصلاة والسلام على رسوله.
ومنها: الدعاء؛ فعن فَضَالة بن عُبَيد قال: سمع رسول الله رجلًا يدعو في صلاته لم يُمجِّد الله ولم يُصلِّ على النبي ، فقال: عَجِل هذا، ثم قال: إذا صلَّى أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه، ثم ليصل على النبي ، ثم يدعو بعد ذلك بما شاء[6].
فمن آداب الدعاء: أنك تقدم بين يدي الدعاءِ الثناءَ على الله تعالى وتمجيدَه، ثم تصلي على النبي ، ثم تدعو بعد ذلك.
ومنها: بعد فراغ المؤذن، فيُشرع للمؤذن ولمن يتابعه أن يصلي بعده على النبي ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: إذا سمعتم المؤذن، فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليَّ؛ فإنه مَن صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشرًا، ثم سلوا الله لي الوسيلة[7].
فإذا فرغ المؤذن من الأذان؛ يشرع للمؤذن ولمن يتابعه أن يقول بعد فراغ المؤذن: اللهم صلِّ وسلم على رسولك محمد. ثم يأتي بعد ذلك بالدعاء: اللهم رب الدعوة التامة… إلخ الدعاء.
ومنها: عند ذكره ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: البخيل مَن ذُكِرْتُ عنده فلم يصلِّ عليَّ[8].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهَدْيه واتَّبَع سنته.
اللهم ارزقنا محبته، اللهم اسقنا من حوضه، ووَفِّقنا لاتباع سنته وهديه.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، ما تعاقب الليل والنهار، وما ذكره الذاكرون الأبرار. اللهم وارض عن صحابته أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهم ارض عنا معهم بعفوك وكرمك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أذل الكفر والكافرين.
اللهم أَبْرِم لأمة الإسلام أَمْرَ رُشْدٍ يُعَزُّ فيه أهل طاعتك، ويُهدى فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، وتُرفع فيه السُّنة، وتُقمع فيه البدعة. يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أصلِح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلِح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كلِّ خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم وفِّق ولاة أمور المسلمين لتحكيم شرعك، واجعلهم رحمة لرعاياهم، ووفق إمامنا وولي أمرنا وولي عهده لما تحب وترضى، ولما فيه صلاح البلاد والعباد، ولما فيه عز الإسلام والمسلمين. اللهم قرِّب منهم البطانة الصالحة الناصحة التي تُعينهم إذا ذَكَروا، وتُذكِّرهم إذا نَسُوا. يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم إنا نعوذ بك مِن زوالِ نعمتك، وتحوُّلِ عافيتك، وفُجَاءةِ نِقْمتِك، وجميعِ سَخَطِك.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أَنزِل علينا الغيثَ، ولا تجعلنا من القانطين. اللهم اسقِنا وأغثنا، اللهم اسقِنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا.
اللهم أنزل لنا من بركات السماء، اللهم أخرج لنا من بركات الأرض، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارًا، اللهم فأرسل السماء علينا مدرارًا.
اللهم إنا خَلْقٌ من خلقك، فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك. اللهم اسْقِنا سُقْيَا رحمةٍ لا سقيا بلاء ولا عذابٍ ولا هدم ولا غرق. اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
ربنا آتِنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات:180-182].