عناصر المادة
الحمد لله الغني الحميد، المبدئ المعيد، ذي العرش المجيد، الفعال لما يريد، أحاط بكل شيء علمًا، وهو على كل شيء شهيد، أحمده سبحانه على ما أولاه من الإنعام والإكرام والتسديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العزيز الحميد، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل من دعا إلى الإيمان والتوحيد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله حق التقوى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
سلامة الصدر واللسان
عباد الله: أخرج أحمد وابن ماجه بسند صحيح عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أنه قيل للنبي : “يا رسول الله أين الناس أفضل؟ قال: كل مخموم القلب، صدوق اللسان قالوا: يا رسول الله صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: هو التقي النقي، لا إثم فيه، ولا بغي، ولا غل، ولا حسد [1]، هذا هو مخموم القلب، هو سليم الصدر الذي لا بغي، ولا غل، ولا حسد، تقي نقي، هذا هو أفضل الناس إذا اجتمع مع ذلك صدق اللسان.
إن من سمات المؤمنين العظيمة وصفاتهم الكريمة الدالة على كمال إيمانهم: سلامة صدورهم وألسنتهم تجاه إخوانهم المؤمنين، فليس في قلوبهم حسد أو غل أو بغضاء أو ضغينة، وليس في ألسنتهم غيبة أو نميمة أو وقيعة؛ بل لا يحملون في قلوبهم إلا المحبة والخير والرحمة والإحسان والعطف والإكرام، ولا يتلفظون بألسنتهم إلا بالكلمات النافعة والأقوال المفيدة والدعوات الصادقة، ينتقون الطيب من القول، هم الذين قال الله فيهم: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10]، فنعتهم ربهم بخصلتين عظيمتين:
- إحداهما: تتعلق باللسان، فليس في ألسنتهم تجاه إخوانهم المؤمنين إلا النصح والدعاء: يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ.
- والخصلة الثانية: متعلقة بالقلب، فقلوبهم سليمة تجاه إخوانهم من غل أو حسد أو حقد أو ضغينة، أو نحو ذلك، وإذا كان الله أثنى عليهم لكونهم دعوا فقالوا: وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا [الحشر:10]، فكيف بمن لا يحمل الغل للذين آمنوا أصلًا فهو أولى بالحمد، وأولى بالثناء؟
سلامة الصدر عند السلف
إن سلامة الصدر واللسان هما من أوضح الدلائل وأصدق البراهين على تمام الإيمان وكماله، وقد كان السلف الصالح رحمهم الله يعدون الأفضل فيهم من كان سليم الصدر، سليم اللسان، قال إياس بن معاوية بن قرة رحمه الله: “كان أفضلهم عندهم -أي عند السلف- أسلمهم صدورًا، وأقلهم غيبة”.
وقال سفيان بن دينار رحمه الله: “قلت لأبي بشر: أخبرني عن أعمال من كان قبلنا؟ قال: كانوا يعملون يسيرًا، ويؤجرون كثيرًا، قلت: ولم ذاك؟ قال: لسلامة صدورهم”.
ولما دُخل على أبي دجانة وهو مريض كان وجهه يتهلل، فقيل: ما شأنك؟ قال: ما من عمل أوثق عندي من اثنتين: كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، والأخرى فقد كان قلبي للمسلمين سليمًا”.
نعم، إن سلامة الصدر هي من أخلاق العظماء، وكما قيل: لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب.
هذا الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله إمام أهل السنة والجماعة في زمنه قد أوذي وسجن، وعذب عذابًا شديدًا، ويعفو ويصفح عن جميع من أساء إليه، ويقول: كل من ذكرني أي بوشاية فهو في حل إلا مبتدع.
وقال ذات مرة: اكتبوا عن فلان فإنه رجل صالح، قيل: فإنه يتكلم فيك، يقول كذا وكذا، قال: وماذا أقول؟ هذا رجل صالح قد ابتلي بي، فماذا أعمل؟
وهذا الإمام ابن تيمية رحمه الله لما فرج عنه وخرج من السجن، قال: أحللت كل من كذب علي وظلمني، يقول عنه تلميذه ابن القيم: “ما رأيت أجمع لخصال الصفح والعفو، وسلامة الصدر منه، وإن أحد تلاميذه يومًا بشره بموت أكبر أعدائه الذين آذوه، فنهره واسترجع، وقام مسرعًا من فوره، وعزى أهل الميت، وقال لهم: إني لكم مكانه”.
إن سلامة الصدر هي من أخلاق أولياء الله ، وأخلاق المؤمنين الصادقين الذين امتدحهم الله في كتابه، فينبغي للمسلم أن يحرص على الاقتداء بهم، وأن يكون سليم الصدر لإخوانه المسلمين، بعيدًا عن الأحقاد والشحناء والبغضاء.
مما يعين على سلامة الصدر
وإن مما يعين المسلم على ذلك: اللجوء إلى الله ، وأن يسأله بصدق وإخلاص بألا يجعل في قلبه غلًّا للذين آمنوا، وأن ينظر للعواقب الحميدة لسلامة الصدر في الدنيا والآخرة.
ومن الأدعية العظيمة النافعة في هذا الباب: ما جاء عن أبي هريرة قال: قال أبو بكر الصديق : يا رسول الله مرني بشيء أقوله إذا أصبحت، وإذا أمسيت؟ قال: قل: اللهم عالم الغيب والشهادة فاطر السماوات والأرض رب كل شيء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر الشيطان وشركه، وأن أقترف على نفسي سوءًا أو أجره إلى مسلم، قلْه إذا أصبحت، وإذا أمسيت، وإذا أخذت مضجعك [2]، فتضمن هذا الحديث العظيم الاستعاذة بالله تعالى من الشر وأسبابه وغايته، فإن الشر كله إما أن يصدر من النفس أو من الشيطان، فاستعاذ بالله منهما في قوله: أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر الشيطان وشركه، وغاية الشر: إما أن تعود على العامل نفسه، أو على المسلم، وفي هذا الحديث: الاستعاذة من ذلك: وإن أقترف على نفسي سوءًا، أو أجره إلى مسلم، فتضمن هذا الحديث الاستعاذة من مصدري الشر اللذين يرجع عنهما، وغايتيه اللتين يصل إليهما، ولذلك فقد أرشد النبي إلى الدعاء به في الصباح والمساء وعند النوم، وهو من أذكار الصباح والمساء، ومن الأذكار التي تقال قبل النوم.
مفاسد الحسد ومآسيه
عباد الله: وفي المقابل من الناس من جعل صدره مستودعًا للأحقاد والغل والحسد، فهذا الإنسان من أشقى الناس عيشًا، ومن أضيقهم صدرًا، وأحزنهم قلبًا، وتظهر عليه آثار هذه الأحقاد في أمراض النفوس من الغيبة، والوقوع في أعراض الناس، فإن من أعظم أسباب الوقوع في الغيبة: الحقد والحسد؛ لأن من حسد أحدًا وقع في عرضه بما يكره لأجل أن ينفس عن نفسه، ولأجل أن يتنقص هذا الذي قد حسده، وأن يقلل من شأنه.
ويقع كذلك بسبب الحسد في النميمة، فإن من أعظم أسباب البواعث عليها: الحقد والحسد، وربما وقع كذلك في قطيعة الرحم، فإن من أسباب القطيعة أن بعض الأرحام يحسد قريبه على ما آتاه الله من فضله، فيفتعل أي مشكلة لمقاطعته، ولو كان قلبه سليمًا على قريبه لما قاطعه، بل قد يحمل الحقد والحسد قد يحمل الإنسان إلى عقوقه لوالديه؛ كما حصل من إخوة يوسف حيث فعلوا ما فعلوا بأخيهم يوسف مما قصه الله تعالى علينا في سورة يوسف، فعلوا ما فعلوا حسدًا على محبة أبيهم العظيمة لأخيهم يوسف، فأحرقوا بذلك قلب أبيهم، حتى ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم، فوقعوا في عقوق أبيهم بسبب الحسد.
ثم إن من يحمل الحقد والحسد يعيش في توتر وقلق وغم وهم، وكما قيل: لله در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله.
والحسد جرح لا يبرأ.
ألا قل لمن ظل لي حاسدًا | أتدري على من أسأت الأدب |
أسأت على الله في حكمه | إذ لم ترض لي ما وهب |
فالحاسد لسان حاله أنه يعترض على قضاء الله وقدره لماذا أعطى فلانًا هذه العطايا ولم يعطني مثله؟ فهو بلسان الحال يعترض على ربه ، ولهذا كانت هذه الخصلة خصلة ذميمة؛ أول من اتصف بها إبليس اللعين الذي حسد أبانا آدم لما فضله الله تعالى وأظهر شرفه وأمر الملائكة بالسجود له، فحسده وقال: أأسجد لمن خلقت طينًا؟ فلعنه الله تعالى وطرده.
واتصف به شرار البشر اتصف به اليهود، واتصف به شرار الناس، فالحسد خصلة ذميمة مشؤومة لا يتصف بها إنسان إلا ونزع منه الخير والبركة.
والمطلوب من المسلم أن يجاهد نفسه على أن يكون صدره سليمًا لإخوانه المسلمين، بعيدًا عن الأحقاد والأضغان.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله المحمود على كل حال، الموصوف بصفات الجلال والكمال، المعروف بمزيد الإنعام والإفضال، أحمده تعالى وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة.
ثمرات سلامة الصدر
عباد الله: وكما أن الحسد يسبب للإنسان القلق والتوتر، ويعيش الإنسان في ضيق وفي نكد وفي توتر فإنه في المقابل سلامة الصدر يعيش الإنسان معها في راحة عظيمة، فهي نعمة من أجل النعم، ولذلك فإن الله تعالى امتن على أهل الجنة بأن جعل صدورهم سليمة، ونزع من قلوبهم الغل، فقال سبحانه: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47]، فأهل الجنة لا اختلاف بينهم، ولا تباغض، قلوبهم قلب واحد، يسبحون الله بكرة وعشيًّا، فذكر الله تعالى من النعيم الذي أعطاه لأهل الجنة: سلامة صدورهم وأن الله نزع من قلوبهم الغل والحسد والحقد، وهذا يدل على أن سلامة الصدر أنها نعمة من الله على الإنسان.
فينبغي أن يسعى الإنسان إلى تحقيق هذه الخصلة العظيمة الشريفة التي تسبب له الراحة والطمأنينة، وتبعده عن القلق والتوتر.
ما أجمل أن يأوي الإنسان إلى المبيت وهو سليم الصدر لإخوانه المسلمين، ليس في قلبه غش أو حسد أو بغضاء لأحد من المسلمين، ليس بينه وبين أحد من المسلمين قطيعة أو هجران، يحب لإخوانه المسلمين ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه.
ما أجمل أن يصل الإنسان إلى تلك المرحلة ليس بينه وبين أحد من المسلمين قطيعة ولا هجران، ويحمل الخير والمحبة لإخوانه المسلمين، بعيدًا عن البغضاء، بعيدًا عن الأحقاد، بعيدًا عن الشحناء، تلك والله خصلة عظيمة يرتاح معها الإنسان وينعم، ويريح غيره، وينال بذلك الأجر والثواب من الله ، تلك الخصلة أعني سلامة الصدر خصلة عظيمة لا تكون إلا للعظماء الذين آثروا الآخرة على الدنيا، واستحضروا أن هذه الدنيا لا تستحق من الإنسان كل هذا العناء والنصب والهجر والقطيعة والتحاسد والتدابر.
أين من كان قبلنا ممن عاش على هذه الأرض؟ وحصل من بعضهم ما حصل من شحناء وقطيعة وتناحر وتدابر وحروب وقتال: أين هم الآن؟ هم الآن في باطن الأرض يتمنون أن لم يحصل ذلك كله، وأنهم كانوا على جانب من سلامة الصدر لإخوانهم المسلمين، وأنهم سلموا من تبعات ذلك في الدنيا والآخرة.
هذه الدنيا هي دار ممر وعبور، فليجاهد المسلم نفسه على أن تستقيم نفسه على طاعة الله ، وأن يسلم صدره من الغل والبغضاء والشحناء لإخوانه المسلمين، وليحرص على أن يسأل الله تعالى ويدعوه بهذا الدعاء الذي أثنى الله تعالى على من يدعو به، وهو أن يقول: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10]، هذا الدعاء دعاء عظيم ينبغي أن يدعو به المسلم كل يوم، وأن يحرص عليه وعلى تحقيقه، فإن مجرد الدعاء به منقبة وفضيلة، فكيف إذا تحقق ما دعا به وكان لا يحمل في صدره الغل للذين آمنوا.
اللهم ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلًّا للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم.
اللهم أصلح أحوالنا وأحوال المسلمين في كل مكان، اللهم وأعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، وانصر من نصر دين الإسلام في كل مكان، واخذل من خذل دين الإسلام في كل مكان، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم أدم علينا نعمة الأمن والاستقرار والرخاء ورغد العيش، واجعلها عونًا لنا على طاعتك ومرضاتك، واجعلنا لنعمك وآلائك شاكرين.
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لتحكيم شرعك، واجعلهم رحمة لرعاياهم.
اللهم وفق إمامنا وولي أمرنا لما تحب وترضى، وقرب منه البطانة الصالحة الناصحة التي تعينه إذا ذكر، وتذكره إذا نسي، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].
نسألك اللهم من الخير كله عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات:180-182].