logo
الرئيسية/خطب/عظمة الرحمن في خلق الإنسان

عظمة الرحمن في خلق الإنسان

مشاهدة من الموقع

تأملات في قدرة الله في خلق جسم الإنسان

… على ضيق طرقها واختلاف مجالها إلى أن ساقها إلى مستقرها، فجعلها في قرار مكين لا يناله هواء يفسده، ولا برد يجمده، ولا عارض يصل إليه، ولا آفة تتسلط عليه، ثم قَلَب تلك النطفة البيضاء إلى علقة حمراء، ثم جعلها مضغة لحم مخالفة للعلقة في لونها، وفي حقيقتها وشكلها، ثم جعلها عِظامًا مجردة لا كسوة عليها مباينة للمضغة في شكلها وهيئتها، وانظر كيف قسم تلك الأجزاء المتشابهة المتساوية إلى الأعصاب والعظام والعروق والأوتار، تثم كيف ربط بعضها ببعض أقوى رباط وأشده وأبعده عن الانحلال.

ثم كساها لحمًا ركّبه عليها، وجعله وعاء لها، وركب الأعضاء الباطنة من القلب والمعدة والكبد والطحال والرئة والرحم والمثانة والأمعاء، وبقية أجهزة الجسم كل واحد منها له قدر يخصه ومنفعة تخصه.

ثم انظر إلى الحكمة البالغة في تركيب العظام قوامًا للبدن، وعمادًا له، وكيف قدرها ربها وخالقها بتقادير مختلفة، وأشكال مختلفة، فمنها الصغير والكبير، والطويل والقصير، والمنحني والمستدير، والدقيق والعريض، والمصمت والمجوف، كيف خلق الله تعالى هذه العظام، وكيف ركب بعضها في بعض، وجعل بينها مفاصل حتى تتيسر بها الحركة.

وتأمل في كيفية خلق الرأس وما فيه من العظام حتى قيل: إنها خمسة وخمسون عظمًا مختلفة الأشكال والمقادير والمنافع كيف ركبه على البدن، وجعله عاليًا، وجعل فيه الحواس الخمس وآلات الإدراك من السمع والبصر والشم والذوق واللمس، وجعل فيه العينين، وحسن شكل العينين وهيأتها، وجمّل العينين بالأجفان وجعلهما غطاء لها وسترًا وحفظًا وزينة.

وانظر إلى عجيب صنع الله تعالى في العينين شحمة يبصر بها الإنسان! لم يستطع الطب الحديث أن يحيط بأسرارها وعجائبها، وأطباء العيون كل منهم يتخصص في جزئية دقيقة من العين، فهذا طبيب مختص، هذا طبيب متخصص في الشبكية، وذاك طبيب متخصص في القرنية، وذاك طبيب متخصص في جزء من أجزاء العين، ومع ذلك هذا الطبيب المختص لا يحيط بكل شيء في تخصصه.

وخلق الأذن أحسن خلقة وأبلغها في حصول المقصود، وجعلها مجوفة لتجمع الصوت فتؤديه إلى الصماخ.

ومن العجيب أن الله تعالى جعل ماء الأذن مُرًّا شديد المرارة، وماء العينين مالحًا شديد الملوحة، وماء الفم عذبًا، ثلاثة مياه في الرأس أحدها: مر شديد المرارة، والآخر مالح الشديد الملوحة، والثالث عذب.

أما ماء الأذن فجعله الله تعالى في غاية المرارة، ولله الحكمة في هذا حتى لا يجاوز الأذن الهوام والحيوان، ولا يقطعه داخلًا إلى باطن الأذن، ولغير ذلك من الأسرار.

وجعل ماء العينين مالحًا ليحفظها فإنها شحمة قابلة للفساد، فكانت ملوحة مائها صيانة لها وحفظًا، وجعل ماء الفم عذبًا حلو ليدرك به طعوم الأشياء على ما هي عليه، فتبارك الله أحسن الخالقين.

وشق للإنسان الفم في أحسن موضع وأليقه، وأودع فيه من المنافع، وآلات الذوق والكلام، وآلات الطحن والقطع ما يبهر العقول، فأودعه اللسان الذي هو أحد آياته الدالة عليه، وجعله ترجمانًا لملك أعضاء القلب مبينًا مؤيدًا عنه كما جعل الأذن رسولًا مؤديًا مبلغًا إليه.

ثم زين سبحانه الفم بما فيه من الأسنان التي هي جمال له وزينة وبها قوام العبد وغذاؤه، وجعل بعضها أرحاء للطحن، وبعضها آلة للقطع، وأحاط سبحانه على ذلك حائطين، وأودعهما من المنافع والحكم ما أودعهما، وهما: الشفتان.

وخلق للإنسان يدين هما آلة العبد وسلاحه، وجعل فيهما الأصابع الخمس، وقسّم كل أصبع بثلاث أنامل، والإبهام اثنتين، وركّب الأظفار على رؤوسها زينة لها وعمادًا ووقاية، يلتقط بها الأشياء الدقيقة التي لا ينالها جسم الأصابع.

ثم انظر إلى الحكمة البالغة في جعل عظام أسفل البدن غليظة قوية؛ لأنها أساس له، وعظام أعاليه دونها في الثخانة والصلابة؛ لأنها محمولة.

وانظر كيف كسى العظام العريضة كعظام الظهر والرأس كسوة من اللحم تناسبها، والعظام الدقيقة كسوة تناسبها كالأصابع والمتوسطة كذلك كعظام الذراعين والعضدين، فالإنسان مركب من ثلاثمائة وستون عظمًا، ومائتان وثمانية وأربعون مفصلًا، وباقيها صغار حشيت خلال المفاصل.

ولو زادت عظام الإنسان عظمًا واحدًا لكانت مضرة عليه يحتاج إلى قلعة.

ولو نقصت عظام الإنسان عظمًا واحدًا لكان نقصانًا يحتاج إلى جبره، فسبحان الله العظيم!

ومن عجائب خلق الله في الإنسان ما فيه من الأمور الباطنة التي لا تُشاهد؛ كالقلب، والكبد، والطحال، والرئة، والكُلية، والأمعاء، والمثانة، وسائر ما في بطنه من الآلات العجيبة، والقوى المتعددة المختلفة المنافع.

وانظر كيف أن الله تعالى جعل هذه الأجهزة الباطنة تعمل بغير اختيار الإنسان، وهذا من رحمة الله تعالى به، فلو أن القلب يخضع عمله لإرادة الإنسان فكيف سينام؟ وكيف سيعمل؟ وهكذا بقية الأجهزة الباطنة من المعدة، والكبد، والطحال، والأمعاء، والكليتين، وسائر الأجهزة.

والمقصود التنبيه على أقل القليل من وجوه الحكمة في خلق الإنسان، والأمر أضعاف أضعاف ما يخطر بالبال، أو يجري فيه المقال، ويكفي العبد أن ينظر إلى غذائه فقط في مدخله ومستقره ومخرجه، فإنه يرى فيه العجب العجاب كيف جعل له آلة يتناول بها، ثم باب يدخل منه، ثم آلة تقطعه صغارًا، ثم طاحون يطحنه، ثم أعين بماء يعجنه، ثم جعل له مجرى وطريقًا إلى جانب النفس ينزل هذا، ويصعد هذا، فلا يلتقيان مع غاية القرب، ولو التقيا لشرق الإنسان، ثم جعله له حوايا وطرقًا توصله إلى المعدة، فهي خزانته، وموضع اجتماعه، ولها بابان: باب أعلى يدخل منه الطعام، وباب أسفل يخرج منه.

والباب الأعلى أوسع من الأسفل، فإذا انتهى الهضم فإن ذلك الباب ينفتح إلى انقضاء الدفع، ويحيط بالمعدة من داخلها وخارجها حرارة نارية لأجل أن ينضج بها الطعام كما ينضج الطعام في القدر بالنار المحيطة به.

ويكون الغذاء داخلًا المعدة من طرق ومجار، وخارجًا منها إلى الأعضاء من طرق ومجار؛ هذا داخل، وهذا وارد إليها، بحكمة بالغة.

والكبد تمتص الطعام، تمتص أشرف ما في ذلك وهو الدم، ثم تبعثه إلى جميع البدن من عرق واحد ينقسم على مجار كثيرة يوصل إلى كل واحد من الشعور والأعصاب والعظام والعروق، وما يكون به قوامه.

سبحان الله! يأكل الإنسان الطعام ثم بعد ذلك تتولى هذه الأجهزة هضم الطعام، وامتصاص النافع منه، وإخراج الفضلات، تفعل ذلك بإتقان عجيب، وتناسق بديع، سبحان الله قطع لحم ما الذي ألهمها؛ لأن تفعل ذلك ما الذي ألهم هذه المعدة لئن تهضم الطعام بهذه الطريقة؟ ما الذي ألهم الكبد لئن تفعل ذلك؟ ما الذي ألهم الطحال والبنكرياس والأمعاء وهذه الأجهزة أن تعمل بهذا الإتقان البديع العجيب، وبهذا التنسيق فيما بينها وتمتص أحسن ما في الغذاء؟ ثم تطرد الفضلات؟

إنها قدرة العزيز الحكيم، فسبحان الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي تفرد بالخلق والتدبير، وتصرف بالحكمة البالغة وبديع التقدير، لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء وهو اللطيف الخبير، أحمده تعالى وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

عباد الله: إن خلق الإنسان فيه عجائب وعبر، فينبغي للإنسان أن يتبصر، وأن يعتبر، وانظر إلى مبتدأ خلق الإنسان من نطفة من ماء مهين، وتأمل حالها أولًا، وما صارت إليه ثانيًا، وأنه لو اجتمع الإنس والجن على أن يخلقوا لهذه النطفة سمعًا أو بصرًا، أو عقلًا أو قدرة، أو علمًا أو روحًا، بل عظمًا واحدًا من أصغر عظامها، بل عرقًا من أدق عروقها، بل شعرة واحدة لعجزوا عن ذلك كله.

قدرة الله في خلق السماوات والأرض

سبحان الله! قطرة من ماء مهين خلق الله منها هذا الإنسان فمن هذا صنعه في قطرة ماء فكيف صنعه في ملكوت السماوات والأرض، كيف صنعه في ملكوت السماوات علوها وسعتها واستدارتها وعظيم خلقها، وحسن بنائها، وعجائب شمسها وقمرها، وكواكبها ومقاديرها وأشكالها، فلا ذرة فيها تنفك عن حكمة، بل هي أحكم خلقة، وأتقن صنعًا، وأجمع العجائب من بدن الإنسان، بل لا نسبة لجميع ما في الأرض إلى عجائب السماوات؛ كما قال الله : أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ۝رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ۝وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا [النازعات:27-29].

قدرة الله في خلق الروح

عباد الله: وإذا كنا نعجب من بديع خلق الله تعالى للإنسان من سلالة من ماء مهين، فالعجب الذي لا ينقضي من هذه الروح التي تحل في الجسد منذ أن يكون عمر الجنين أربعة أشهر، يرسل الله تعالى للإنسان المَلَك وهو في بطن أمه، ويؤمر بنفخ روحه في جسده، ويصبح إنسانًا هذه الروح لا نعلم كنهها ولا حقيقتها، وليست من عالم المادة الذي نعرف شيئًا يسيرًا من معالمه، وإنما هي من عالم آخر لا نعرفه.

ولهذا لما سئل النبي عن الروح توقف حتى نزل عليه الوحي في قول الله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85].

والعجيب أن الإنسان لا يرى روحه التي بين جنبيه، ولا أين هي، ولا كيفية سريانها في الجسم، ويستدل على وجودها بآثارها، الروح جسم نوراني علوي خفيف حي متحرك مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس، ينفذ في جوهر الأعضاء، ويسري فيها سريان الماء في النبات، وإن تعجب فاعجب من الملحد الذي لا يؤمن بوجود الله؛ لأنه لم ير الله، بينما يؤمن بوجود روحه التي بين جنبيه وهو لم يرها، يريد أن يرى الله الذي لا تدركه الأبصار في الدنيا، وهو عاجز عن رؤية روحه التي بين جنبيه، ويؤمن بوجود روحه بآثارها، ولا يؤمن بالله الذي له في كل شيء آية تدل على وحدانيته جل وعلا.

عباد الله: ليحرص المسلم على التفكر فإنه مما يزيد الإيمان، ومما يقوي اليقين، التفكر في عظمة خلقه، التفكر في عظمة خلق الله للسماوات والأرض وما فيهما، وما بث فيهما من دابة، هذا التفكر والتأمل يزيد من الخشية، ويزيد من الإيمان، ويزيد من اليقين، ويزيد من استحضار العبد لعظيم قدرة الله ، وبديع صنعته، وعجائب آياته.

ألا وأكثروا من الصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير، فقد أمركم الله بذلك، فقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].

اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، اللهم ارض عن صحابة نبيك أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا رب العالمين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أذل الكفر والكافرين.

اللهم انصر من نصر دين الإسلام في كل مكان، اللهم اخذل من خذل دين الإسلام في كل مكان، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.

اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لتحكيم شرعك واجعلهم رحمة لرعاياهم، ووفق إمامنا وولي أمرنا لما تحب وترضى، وقرب منه البطانة الصالحة الناصحة التي تدله على الخير وتعينه عليه، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.

اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.

ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلًّا للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم.

مواد ذات صلة
  • خطبة عيد الفطر 1443 هـ

    الحمد لله معيد الجمع والأعياد، رافع السبع الشداد عالية بغير عماد، وماد الأرض ومرسيها بالأطواد، جامع الناس ليوم لا ريب…

  • أحكام الزكاة وفضائل الصدقة

    الحمد لله الذي وعد المنفقين أجرًا عظيمًا وخلفًا، وتوعد الممسكين لأموالهم عما أوجب عليهم عطبًا وتلفًا، أحمده تعالى وأشكره، وأشهد…

zh