عناصر المادة
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا[الكهف: 1-3]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[آل عمران: 102]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ[الطلاق: 2، 3]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا[الطلاق: 4]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا[الطلاق: 5].
عباد الله:
الكلام يعظم بعظمة قائله، والحديث في هذه الخطبة عن كلام ربنا في كتابه الكريم، الحديث عن عظمة القرآن، ويكفي في ذلك قول الله : لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ[الحشر: 21].
إنها عظمة القرآن! لو نزل على جبلٍ شامخٍ يُناطِح السحاب في علوه وشموخه، تراه خاشعًا متصدعًا من خشية الله!
معجزة القرآن للجن والإنس
هذا القرآن العظيم، تحدى الله به الجن والإنس على أن يأتوا بمثله فعجزوا؛ كما قال ربنا سبحانه: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا[الإسراء: 88].
ثم تحداهم على أن يأتوا بعشر سورٍ مثله، فعجزوا؛ كما قال سبحانه: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ[هود: 13].
ثم تحداهم على أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا؛ كما قال سبحانه: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ[البقرة: 23].
إنه المعجزة الباقية، وشفاءٌ لما في الصدور، نورٌ لا يخبو ضياؤه، وبحرٌ لا يُدرَك غَوْرُه، كل كلمةٍ منه لها عجبٌ، فيه قصصٌ باهرةٌ، وحِكَمٌ زاهرةٌ، ومواعظُ زاجرةٌ، وأدلةٌ ظاهرةٌ: يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[المائدة: 16].
القرآن العظيم أبهر الناس بإعجازه وفصاحته وبراعة إيجازه، فدانت له القلوب، وتأثرت به النفوس، وخضعت له المشاعر، وانقادت لسماعه الأسماع.
وصف الجن للقرآن
الجن عندما سمعوا القرآن تعجبوا منه، تعجبوا منه في عظمته وبلاغته وبيانه وعظيم تأثيره؛ كما قال الله تعالى عنهم: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا[الجن: 1، 2]. فانظر كيف وصفوا القرآن بأنه عجبٌ، عجبٌ غير مألوفٍ يثير الدهشة في القلوب، وهذه صفة القرآن عند من يتلقاه بحسٍّ واعٍ، ومشاعرَ مرهفةٍ، عجبٌ؛ ذو سلطانٍ متسلطٍ، وذو جاذبيةٍ غلَّابةٍ، يلمس المشاعر، ويهز أوتار القلوب.
يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ، وهذه هي الصفة الثانية البارزة كذلك في هذا القرآن، والتي أحسها النفر من الجن حين وجدوا حقيقتها في قلوبهم، فأعلنوا الإسلام مباشرةً: فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا[الجن: 2].
تأثير القرآن على من سمعه
وكان الكافر المعاند من العرب يسمع القرآن، وهم عَرَبٌ أقحاحٌ يفهمون القرآن جيدًا؛ لأنه نزل بلغتهم، وعندما يسمع القرآن يتحوَّل في لحظة من كافرٍ معاندٍ إلى صحابيٍّ جليلٍ يضحي بالغالي والنفيس من أجل القرآن؛ فهذا عمر بن الخطاب كان في الجاهلية خَصْمًا عنيدًا، وعدوًّا لدودًا للإسلام وللنبي ، فما الذي غيَّره؟ ومن الذي حوله؟ إنه القرآن، عندما قُرِئ عليه قول الله : طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى[طه: 1-8]. فتأثر عمر ورقَّ قلبه، ودمعت عيناه، ولان صدره حتى عرف الصحابة تأثير القرآن في وجهه، ثم أسلم متأثرًا بالقرآن، وببركة دعاء النبي له.
وهذا جبير بن مطعمٍ قال: “سمعت النبي يقرأ في المغرب بسور الطور” -ولم يكن قد أسلم يومئذٍ- قال: “فلما بلغ هذه الآية: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ[الطور: 35-37]” قال: “كاد قلبي أن يطير”. ثم أسلم [1].
وهذا النجاشي ملك الحبشة، رجلٌ أعجميٌّ ليس بعربي، لما سمع جعفرًا الطيَّارَ يقرأ عليه أول سورة مريم، بكى حتى اخضلَّت لحيته بدموعه، ثم قال: “إن هذا -أي: القرآن- والذي جاء به عيسى -يعني: الإنجيل- ليخرجان من مشكاةٍ واحدةٍ” [2].
وإن تعجب، فاعجب من أبي جهلٍ وأبي سفيان وغيرهم من صناديد قريش، كانوا يتسللون في ظلمة الليل إلى بيت النبي ؛ ليسمعوه وهو يرتل القرآن ترتيلًا، ولهذا؛ فإنهم عندما تأكدوا أن لسماع القرآن تأثيرًا كبيرًا على النفوس، قالوا: لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ[فصلت: 26].
دلائل عظمة القرآن
ولِعظمةِ القرآن؛ كانت الليلة التي أنزل فيها خيرًا من ألف شهرٍ؛ كما قال ربنا سبحانه: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ[القدر: 13].
القرآن الكريم له تأثيرٌ كبيرٌ في النفوس، وله هيبةٌ كبيرةٌ في القلوب، تنشرح الصدور بسماعه، وتقشعر جلود المؤمنين بالاستماع إليه؛ كما قال ربنا سبحانه: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ[الزمر: 23].
القرآن العظيم فيه نبأ من قبلنا، وخبر ما بعدنا، وحكم ما بيننا، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبارٍ قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، هو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يَخلَق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، من قال به صدق، ومن عَمِلَ به أُجِر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هُدِيَ إلى صراطٍ مستقيمٍ.
عباد الله:
إن من عظمة القرآن قوة تأثيره على النفوس لمن قرأه بتدبر؛ ولذلك فإن تلاوته والاستماع إليه من أعظم أسباب الثبات، خاصةً في زمننا هذا الذي تلاطمت فيه أمواج الفتن، فتن الشبهات وفتن الشهوات، بما نراه من انفتاح العالم بعضه على بعضه، فنشأت هذه الفتن، فالمسلم بحاجةٍ إلى الثبات.
ومن أعظم أسباب الثبات: أن يرتبط بهذا القرآن العظيم، بل إن الارتباط بهذا القرآن من أعظم أسباب زيادة الإيمان؛ كما قال الله سبحانه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ[الأنفال: 2].
فتأمل قول الله: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا. يزيد إيمانهم بالاستماع إلى القرآن، وبتلاوة القرآن من باب أولى.
ومن عظمة القرآن: أن الله يسره للذكر؛ كما قال سبحانه: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ[القمر: 17]؛ ترى الأعجمي الذي لا يعرف من اللغة العربية كلمةً واحدةً، يقرأ القرآن بإتقانٍ وأداءٍ عجيبٍ كما يقرأه العربي.
ومن عظمة القرآن: حفظ الله تعالى له، فلم يتغير منه حرفٌ واحد، نقرأه غضًّا طريًّا كما نزل؛ لأن الله قد تكفل بحفظه، فقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[الحجر: 9]. بينما الكتب السماوية الأخرى كالتوراة والإنجيل، دخلها التحريف؛ لأن الله لم يتكفل بحفظها، بل أوكل حفظها للبشر، فلم يحفظوها؛ كما قال سبحانه: بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ[المائدة: 44].
ورغم ما تعرضت له الأمة الإسلامية من هجماتٍ وحروبٍ عسكريةٍ وفكريةٍ شرسةٍ، على مدار القرون الماضية، إلا أن هذا القرآن بقي محفوظًا بحفظ الله ، لم يتغير منه حرفٌ واحدٌ، وسيبقى محفوظًا بحفظ الله إلى قيام الساعة: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا[الإسراء: 9، 10].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ[الفاتحة: 2-4]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصاحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام المتقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمدٍ ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعةٌ.
أحوال الناس في تلاوة القرآن
عباد الله:
إن عظمة القرآن من عظمة المتكلم به وهو الله ، وهو كتابٌ عظيمٌ مباركٌ، وعظمة المسلم إنما تكون بارتباطه بهذا القرآن العظيم.
فعلى المسلم أولًا: أن يُعظِّم هذا القرآن غاية التعظيم، وعليه: أن يرتبط به، ويُعنى به، ومن ذلك أن يتلوه حق تلاوته.
وإذا نظرنا إلى واقع الناس في تلاوة القرآن الكريم، نجد أن أحوال الناس متفاوتةٌ في هذا تفاوتًا كبيرًا:
فمن الناس: من لا يكاد يقرأ القرآن الكريم في غير الصلوات إلا نادرًا، وهذا يصدق عليه هجر القرآن، وأنه قد هجر كتاب الله سبحانه: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا[الفرقان: 30].
ومنهم: من لا يقرأه إلا في رمضان.
ومنهم: من جعل تلاوة القرآن على الهامش؛ إن وجد وقت فراغٍ، أو أتى المسجد مبكرًا قرأ القرآن، وإلا فقد تمضي عليه مددٌ طويلة لم يقرأ فيها شيئًا من كتاب الله .
وهؤلاء المقصرون في الارتباط بكتاب الله .
ونجد في مقابلة هؤلاء، نجد في مجتمعنا قومًا مَنَّ الله تعالى عليهم بالارتباط بالقرآن الكريم، فنجد من الناس من رتَّب من وقته نصيبًا، نصيبًا من الوقت لتلاوة القرآن الكريم، ورتب على ذلك أن يختم القرآن الكريم في وقتِ معينٍ، فمن الناس من يختمه في الشهر مرةً، ومنهم من يختمه في كل عشرة أيامٍ مرةً، ومنهم من يختمه في كل أسبوعٍ مرةً، ومنهم من يختمه في كل ثلاثة أيامٍ مرةً، بل قد وُجِد من يختمه في أقل من ذلك، فهؤلاء ما أعظم أجرهم وثوابهم عند الله ! إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ[فاطر: 29، 30].
فانظر يا أخي المسلم، إلى حالك مع القرآن الكريم، فإن وجدت تقصيرًا في ذلك فابدأ من الآن، واجعل لك قدرًا معينًا لا تنقص عنه، قد تزيد عليه، لكن لا تنقص عنه، تقرأه كل يوم، لا يمضي هذا اليوم إلا وقد قرأت فيه هذا القدر، وإن قُدِّر أنه عرض لك عارضٌ، فتقضيه من اليوم الآخر، وقد قال النبي : مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبِه -يعنى: عن النصيب الذي قدَّر لتلاوة القرآن- مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِ، فَقَرَأَهُ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الفَجْرِ وَصَلَاةِ الظُّهْرِ كُتِبَ كَأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنَ اللَّيْلِ [3].
الحلقات القرآنية نعمة
عباد الله:
وإن من نعم الله تعالى علينا في هذه البلاد: وجود حلقات تحفيظ القرآن الكريم، فلا تكاد تجد مسجدًا إلا وفيه حلقةٌ أو حلقاتٌ لتحفيظ القرآن الكريم، وهذه الحلقات قد نفع الله تعالى بها نفعًا عظيمًا، ورأينا ثمارها يانعة، فمعظم أئمة الحرمين، ومعظم أئمة المساجد هم من خريجي هذه الحلقات، هذه الحلقات يجتمع فيها ثُلةٌ من أبنائنا يتدارسون كتاب الله ، وأحسَب أنه ينطبق عليهم قول النبي : ..ما اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بَيُوتِ اللهِ -أي: في المسجد- يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَيَتَدَارَسُونَه بَيْنَهُم-هذا ينطبق على هذه الحلقات؛ فإنهم يتدارسون القرآن- إِلَّا نَزَلَت عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيتَهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتهُمُ الملَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَن عِنْدَه [4].
فانظر إلى هذا الشرف، وهذا الفضل العظيم لهؤلاء الذي يجتمعون في المسجد لتدارس كتاب الله ، ثم هم من خير الناس؛ كما قال عليه الصَّلاة والسَّلام: خَيْرُكُم مَنْ تَعَلَّم القُرْآنَ وَعَلَّمَه [5].
ربط الأبناء بحلقات القرآن
ومن أعظم أسباب صلاح الأبناء واستقامتهم: ربطَهم بهذه الحلقات؛ فإن الأب عندما يربط ابنه بهذه الحلقات يُحسن إليه إحسانًا عظيمًا، وهذا من أعظم أسباب الثبات، ومن أعظم أسباب صلاح هذا الابن واستقامته، وسيجدُ أثر بركة القرآن على هذا الابن.
وهذه الحلقات تَلقَى -ولله الحمد- الدعم من ولاة الأمر وفقهم الله، وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين حفظه الله، فقد كان هو الرئيس الشرفي لجمعية تحفيظ القرآن الكريم بمنطقة الرياض لسنواتٍ طويلةٍ، ويدعمها دعمًا كبيرًا، وأهيب بدعم هذه الحلقات دعمًا ماديًّا حسب الأنظمة المتبعة، ودعمًا معنويًّا بتشجيع القائمين عليها، فإنها من المظاهر المشرقة في المجتمع.
اللهم اجعلنا من أهل القرآن، اللهم انفعنا وارفعنا بالقرآن العظيم، اللهم إنا نسألك بكل اسمٍ هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء همومنا وأحزاننا وغمومنا، اللهم اجعله حجةً لنا يوم نلقاك، وانفعنا وارفعنا بهذا القرآن العظيم.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أذل الشرك والمشركين، وانصر من نصر دين الإسلام في كل مكانٍ، واخذل من خذل دين الإسلام في كل مكانٍ، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، اللهم أبرم لأمة الإسلام أمرًا رشَدًا يُعز فيه أهل طاعتك، ويُهدى فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفُجَاءة نقمتك، وجميع سخطك.
اللهم إنا نسألك أن تستعملنا في طاعتك.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ووفقنا لما تحب وترضى من الأقوال والأعمال، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[الحشر: 10].
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
اللهم صلِّ على عبدك ورسولك محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم.