عناصر المادة
الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملًا، وهو العزيز الغفور، أحمده تعالى وأشكره حمدًا وشكرًا كما يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأحمده وأشكره حمدًا وشكرًا كما يُحب ربنا ويرضى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه، وسراجًا مُنيرًا، فبلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه، ومَن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتَّقوا الله أيها المسلمون، اتَّقوا الله حقَّ التقوى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًايُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
الغفلة عن تذكر الموت
عباد الله: يقول أحد السلف: “ما رأيتُ يقينًا لا شكَّ فيه أشبه بشكٍّ لا يقينَ فيه من الموت”.
نعم، إن مَن يرى حال الناس وانكبابهم على الدنيا، وغفلتهم عن الآخرة، واستبعادهم لوقوع الموت، وطول أَمَلِهم في الدنيا؛ ليعجب، فكأن الموت الذي مُلاقيه كل إنسانٍ في هذه الدنيا كأنه شكٌّ لا يقينَ فيه، مع أن الموت هو الحقيقة اليقينية التي لا يشك فيها الناس على اختلاف أديانهم ومِلَلهم.
يعيش الإنسان في هذه الحياة الدنيا غافلًا، لاهيًا، تمر به الليالي والأيام، والشهور والأعوام إلى أن تأتي تلك الساعة: ساعة النَّقلة من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة، فيرى الدنيا حينئذٍ على حقيقتها، ويندم ندمًا عظيمًا، ويتحسر حسراتٍ على تفريطه باغتنام ساعات عمره فيما ينفعه بعد مماته.
يكفي أن تتفكر في تلك الساعة: ساعة النَّقلة من الدنيا إلى الآخرة، ساعة الاحتضار، يكفي أن يتأمل الإنسان وأن يتفكر فيها.
إن ساعة الاحتضار وخروج الروح ومُفارقتها البدن ساعةٌ مهيبةٌ، ساعةٌ عظيمةٌ، سوف تمر بكل واحدٍ منا: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، وإن التَّفكر في تلك الساعة كفيلٌ بأن يهزَّ مشاعر الإنسان، وأن يُوقظه من الغفلة.
يقول ابن الجوزي رحمه الله: إن المُحْتَضَر في هذه الساعة “ينتبه انتباهًا لا يُوصف، ويقلق قلقًا لا يُحَدُّ، ويتلهف على زمانه الماضي، ويودُّ لو تُرِكَ كي يتدارك ما فاته، ويصدق في توبته على مقدار يقينه بالموت، ويكاد يقتل نفسه قبل موتها بالأسف، ولو وُجدتْ ذرةٌ من تلك الأحوال في أوان العافية حصل كل مقصودٍ من العمل بالتقوى، فالعاقل مَن مثَّل تلك الساعة، وعمل بمُقتضى ذلك”.
تطمين وتبشير الملائكة للمؤمنين عند الموت
عباد الله: إن ساعة الاحتضار ساعةٌ فاصلةٌ في حياة الإنسان، ينتقل فيها الإنسان من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة، ومَن مات فقد قامت قيامته.
في تلك الساعة المهيبة يُصاب الإنسان بفزعٍ وخوفٍ عظيمٍ؛ لأنه مُقبلٌ على أمورٍ عظيمةٍ، كما أنه يُصاب بحزنٍ شديدٍ على مُفارقته لأهله وماله، ولكن الله من رحمته ولُطفه بالمؤمنين أنه ينزل الملائكة على المؤمنين في تلك الساعة تُطمئنهم وتُبشرهم، كما قال ربنا : إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أي: عند الموت، في ساعة الاحتضار أَلَّا تَخَافُوا أي: تقول لهم الملائكة عند الموت: لا تخافوا مما تُقدمون عليه، وَلَا تَحْزَنُوا أي: على ما خلَّفتُموه من أمر الدنيا من ولدٍ وأهلٍ ومالٍ، ثم تُبشرهم البشارة العظيمة وتقول لهم: وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30].
فيُبشرونهم بذهاب الشَّر، وحصول الخير، فيا لها من بشارةٍ عظيمةٍ!
إن الإنسان إذا كان في موقفٍ عصيبٍ، وأتاه أحدٌ من الناس وبشَّره بأمرٍ عظيمٍ يُحبه؛ زالت عنه الهموم والغموم، فما بالك بمَن يُعالج سكرات الموت وخروج الروح، وهو في فزعٍ وخوفٍ وحزنٍ، ثم تأتيه البشارة من الله بالجنة، وتقول له الملائكة: أبشر بالجنة التي كنت تُوعد؟
فيا لها من بشارةٍ عظيمةٍ تأتي المؤمن في هذا الوقت العصيب!
حال الظالم لنفسه بالمعاصي والمُوبقات عند الموت
في المقابل الظالمون لأنفسهم بالمعاصي والمُوبقات عند ساعة الاحتضار تفزع نفوسهم فزعًا عظيمًا، وتحاول أن ترتدَّ الأرواح في أجسادها، ولكن الملائكة تنتزعها انتزاعًا؛ كما قال ربنا : وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ [الأنعام:93] أي: بالضرب كما قال المُفسرون، وكما قال الله تعالى: وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا [النازعات:1]، فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم، تضربهم الملائكة وهي تقول لهم: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام:93].
فقارنوا رحمكم الله بين مَن يُبَشَّر برضوان الله تعالى وجنته، ويُقال لهم: أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ، وبين مَن يُبَشَّر بسخط الله تعالى وعذاب الجحيم، ويُقال لهم: الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ.
إن الإنسان في ساعة الاحتضار يعرف مصيره: هل هو من أهل الجنة، أو هو من أهل النار؟ كما دلَّت لذلك النصوص، فالسعيد مَن استعدَّ لتلك الساعة وما بعدها، وتدارك ما تبقى من عمره.
وصف النبي لساعة الاحتضار
عباد الله: يصف النبي تفاصيل تلك الساعة، وتفاصيل نزع الملائكة للروح، واستخراجها لروح المؤمن، ونزعها لروح غيره، يصف النبي هذا المشهد وصفًا مُفصلًا فيقول: إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاعٍ من الدنيا، وإقبالٍ من الآخرة، نزل إليه ملائكةٌ من السماء بِيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفنٌ من أكفان الجنة، وحَنُوطٌ من حَنُوط الجنة، حتى يجلسوا منه مدَّ البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الطيبة، اخرجي إلى مغفرةٍ من الله ورضوانٍ، فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من فِي السِّقاء، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عينٍ حتى يأخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفن، وفي ذلك الحَنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسكٍ وُجدتْ على وجه الأرض.
قال: فيصعدون بها، فلا يمرون على مَلَإٍ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون: فلان ابن فلان، بأحسن أسمائه التي كانوا يُسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له، فيُفتح لهم، فيُشيعه من كل سماءٍ مُقربوها إلى السماء التي تليها، حتى يُنتهى به إلى السماء السابعة، فيقول الله : اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض؛ فإني منها خلقتهم، وفيها أُعيدهم، ومنها أُخرجهم تارةً أخرى. فتُعاد روحه في جسده.
وإنه ليسمع قَرْع نِعال أصحابه، أي: بعد دفنهم وانصرافهم، فيأتيه ملكان فيُجلسانه، فيقولان له: مَن ربك؟ فيقول: ربي الله. فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام. فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بُعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله هو محمدٌ رسول الله ، فيُنادي مُنادٍ في السماء: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة. فيأتيه من روحها وطِيبها، ويُفسح له في قبره مدَّ بصره.
قال: ويأتيه رجلٌ حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أَبْشِر بالذي يَسُرُّك، هذا يومك الذي كنت تُوعد. فيقول له: مَن أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير. فيقول: أنا عملك الصالح. فيقول: ربِّ، أقم الساعة؛ حتى أرجع إلى أهلي ومالي.
قال: وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاعٍ من الدنيا، وإقبالٍ من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكةٌ سود الوجوه، معهم المُسُوح، فيجلسون منه مدَّ البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخطٍ من الله وغضبٍ.
قال: فتفرق في جسده، فينتزعها كما يُنْتَزع السَّفُّود من الصوف المبلول، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عينٍ حتى يجعلوها في تلك المُسُوح، ويخرج منها كأنتن ريح جيفةٍ وُجدتْ على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على مَلَإٍ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: فلان ابن فلان، بأقبح أسمائه التي كان يُسمَّى بها في الدنيا، حتى يُنتهى به إلى السماء الدنيا، فيُستفتح له، فلا يُفتح له.
ثم قرأ رسول الله : لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40].
فيقول الله : اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السُّفلى. فتُطرح روحه طرحًا، ثم قرأ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31]، فتُعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان، فيُجلسانه، فيقولان له: مَن ربك؟ فيقول: هاه! هاه! لا أدري. فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه! هاه! لا أدري. فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بُعث فيكم؟ فيقول: هاه! هاه! لا أدري. فيُنادي مُنادٍ من السماء: أن كذب، وفي روايةٍ: فيضربونه بمِرْزَبَّةٍ من حديدٍ، فيصيح صيحةً يسمعه جميع مَن في الأرض إلا الثقلين أي: إلا الجن والإنس.
فيُنادي مُنادٍ من السماء: أن كذب، فافرشوا له من النار، وافتحوا له بابًا إلى النار. فيأتيه من حرِّها وسَمومها، ويُضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجلٌ قبيح الوجه، قبيح الثياب، مُنتن الريح، فيقول: أَبْشِر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت تُوعد. فيقول: مَن أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالشر. فيقول: أنا عملك الخبيث. فيقول: ربِّ، لا تُقم الساعة [1]، وإنما يقول: ربِّ، لا تُقم الساعة مع أنه في عذاب القبر، إلا أنه يعلم بأنه إذا قامت الساعة سينتقل إلى عذابٍ أشدّ منه.
فاتَّقوا الله أيها المسلمون، وتداركوا ما تبقى من العمر، فلعل ما تبقى من العمر يكون قليلًا، ولعل تلك الساعة قريبةٌ من الإنسان وهو لا يشعر، فكم من إنسانٍ أصبح صحيحًا، مُعافًى، لم يخطر بباله الموت، وأمسى بين أهل القبور؟!
اللهم وفقنا لتدارك ما تبقى من أعمارنا في طاعتك.
اللهم أعنَّا على ذكرك وشُكرك وحُسن عبادتك.
اللهم ارزقنا التوبة النَّصوح.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همِّنا، ولا مبلغ علمنا.
اللهم وفقنا لأن نعبدك كما تُحب وترضى.
اللهم استعملنا في طاعتك، يا حي، يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ ، وشرَّ الأمور مُحدثاتها، وكل مُحدثةٍ بدعةٌ.
إذا مات العبد عُرِضَ عليه مقعده من الجنة أو النار
عباد الله: إن الإنسان إذا كان في فترة البرزخ يُعرض عليه مقعده من الجنة، ومقعده من النار؛ يقول النبي في الحديث المتفق على صحته: إذا مات الرجل عُرض عليه مقعده بالغَدَاة والعَشِي، إن كان من أهل الجنة فالجنة، وإن كان من أهل النار فالنار، ثم يُقال: هذا مقعدك الذي تُبعث إليه يوم القيامة [2].
كم بيننا وبين هذا الموقف الذي يُعرض فيه على الإنسان مقعده من الجنة والنار؟
يُعرض عليه في اليوم مرتين:
المرة الأولى: في الغداة، أي: في أول النهار.
والمرة الثانية: بالعشي، أي: في آخر النهار.
يُعرض عليه مقعده من الجنة والنار إلى أن يُبْعث يوم القيامة، ويُعْرَض عليه مرتين: غدوةً وعشيًّا.
فأما مَن كان من أهل الجنة فإنه يُسَرُّ ويَغْتَبِط، ويشكر الله ، ويقول: ربِّ، أقم الساعة؛ حتى يكون في مقعده ذلك في الجنة.
وأما مَن كان من أهل النار فيزداد حسرةً وألمًا، وكل يومٍ يرى مقعده غدوةً وعشيًّا إلى يوم القيامة، ويُقال: هذا هو مقعدك من النار الذي تُبْعَث إليه يوم القيامة. فيقول مُتحسرًا: يا ربّ، لا تُقم الساعة. مع ما هو فيه من العذاب إلا أنه يرى أنه إذا قامت الساعة فسينتقل إلى عذابٍ أشدّ.
عباد الله: كم بيننا وبين هذا الموقف الذي يُعرض على الإنسان فيه مقعده كل يومٍ مرتين: غدوةً وعشيًّا؟
ما بيننا وبينه إلا الموت، والموت مغيبٌ عنا: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان:34]، وإذا كانت لا تدري بأي أرضٍ تموت، فإنها لا تدري بأي زمنٍ تموت من باب أولى.
الاستعداد للموت وما بعده
عباد الله: نعيش في هذه الحياة الدنيا، ونقطع كل يومٍ مرحلةً من مراحلها، وكل يومٍ يمضي تغرب شمسه يُقربنا إلى الموت وما بعده، نقطع به مرحلةً إلى الدار الآخرة، ونبتعد به عن الدنيا.
كل يومٍ ينقص به العمر، ويقترب به الأجل، كما قال بعض السلف: “يا ابن آدم، إنما أنت أيامٌ، إذا ذهب يومٌ ذهب بعضك”.
والعجيب أن الإنسان يرى الموت يتخطف الناس من حوله من غير أن يُفرق بين صغيرٍ وكبيرٍ، وصحيحٍ ومريضٍ، وغنيٍّ وفقيرٍ.
وأعجب من ذلك: أن الإنسان يُشيع جنائز هؤلاء الموتى، ولا يُحْدِث ذلك في نفسه أثرًا كبيرًا؛ لأنه يستبعد الموت، ويُمَنِّيه الشيطان ويَعِدُه بأن يعيش عمرًا طويلًا، ولا يَعْتَبر بمَن كانت حاله كذلك: يعيش في صحةٍ وعافيةٍ، قد علَّق الآمال، وخطط للمشاريع، وخطط لأعمالٍ يريد القيام بها، ثم إذا به يفجأه الموت؛ فينتقل في لحظاتٍ يسيرةٍ من دار العمل إلى دار الجزاء والحساب، قد ترك الدنيا وراءه ظِهْريًّا: ترك المال، وترك الأهل، وترك البنين، ولم يبقَ له إلا ما قدَّم من عملٍ صالحٍ.
فالعاقل مَن يَعْتَبر ويستعد لتلك الأهوال العظيمة، يستعد للموت وما بعده، فإن الحياة -أيها الإخوة- فرصةٌ واحدةٌ غير قابلةٍ للتعويض، مَن نجح في هذا الاختبار العظيم الذي نعيش فيه الآن فقد سعد السعادة العظيمة، والسعادة الأبدية، ومَن فشل في هذا الاختبار الذي نعيشه الآن فقد خسر الخسارة العظيمة، خسر كل شيءٍ حتى نفسه: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [المؤمنون:102-103]، خسروا كل شيءٍ حتى أنفسهم: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِلَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99-100].
ألا وأكثروا من الصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المُنير، فقد أمركم الله بذلك فقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمدٍ.
اللهم ارضَ عن صحابة نبيك أجمعين، وعن التابعين، ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا ربَّ العالمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أذلَّ الكفر والكافرين.
اللهم انصر مَن نصر دين الإسلام في كل مكانٍ.
اللهم اخذل مَن خذل دين الإسلام في كل مكانٍ، يا حي، يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أَبْرِم لأمة الإسلام أمرًا رشدًا يُعَزُّ فيه أهل طاعتك، ويُهْدَى فيه أهل معصيتك، ويُؤْمَر فيه بالمعروف، ويُنْهى فيه عن المنكر، يا حي، يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خيرٍ، واجعل الموت راحةً لنا من كل شرٍّ.
اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكانٍ.
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لتحكيم شرعك، والعمل بكتابك وسنة نبيك محمدٍ ، واجعلهم رحمةً لرعاياهم.
اللهم وفق إمامنا وولي أمرنا ونائبه لما تُحب وترضى، وخُذْ بنواصيهم للبرِّ والتقوى، وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة التي تدلُّهم على الحق، وتُعينهم عليه، يا حي، يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
نسألك اللهم من الخير كله: عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم.
ونعوذ بك من الشر كله: عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم.
وأقم الصلاة إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45].