عناصر المادة
- تنوع العبر والآيات في قصة يوسف
- أهم الدروس والعبر من قصة يوسف عليه السلام
- أهمية العدل بين الأبناء
- حقارة الحياة الدنيا
- الحذر من شؤم الذنوب
- كلام الحسود لا يسمع
- لطف الله بعباده الصالحين
- الحذر من الخلوة بالنساء
- ثمرة الصدق مع الله
- الهرب من المعصية والفتنة
- الالتجاء إلى الله
- اغتنام الفرص في الدعوة إلى الله
- مرارة اتهام البريء
- فضيلة العلم
- الغيرة على المرأة
- العين حق
- محنة يعقوب عليه السلام
- حسن ظن يعقوب عليه السلام بربه
- أن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا
- فضيلة التقوى والصبر
- الاعتراف بنعم الله تعالى وشكرها
- تهيئة الله الأسباب لتفريج الكرب
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا [الكهف:1-2]، أحمده وأشكره حمدًا وشكرًا كما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه، وأحمده وأشكره كما يحب ربنا ويرضى، وأحمده وأشكره حمدًا وشكرًا عدد خلقه، وزنة عرشه، ورضا نفسه، ومداد كلماته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله حق التقوى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
تنوع العبر والآيات في قصة يوسف
عباد الله: نقف في هذه الخطبة وقفات قصيرة مع قصة من قصص كتاب ربنا مع قصة حَوَت التوحيد والأحكام والسير، وتدبير المعاش، وعلاقات الناس، وضمت دروسًا وعبرًا يصلح بها أمر الدين والدنيا، اشتملت على صنوف المحن والبلايا، وابتلاءات الضراء، وابتلاءات السراء، تلكم هي قصة الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، قصة يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، إن فيها لآيات للسائلين، فيها أنواع من الدلائل على قدرة الله تعالى وأقداره، وعلى حكمته وأحكامه، وعلى لطفه وتدبيره.
وقد قص الله هذه القصة قصة هذا النبي الكريم، قصها في كتابه؛ لنعتبر بأحداثها ولنستفيد من دروسها البالغة وقد حوت هذه القصة سورة كاملة من كتاب الله عدد آياتها مئة وإحدى عشرة آية، وقد جاءت بأسلوب واضح، سهل مفصل، وحسبنا أن نقف في هذه الخطبة مع بعض الدروس والفوائد المستنبطة منها، وقد ذكر بعض أهل العلم أن فيها أكثر من ألف فائدة، فمنها: أن هذه القصة من أحسن القصص وأوضحها وأبينها لما فيها من أنواع التنقلات من حال إلى حال، ومن محنة إلى محنة، ومن محنة إلى منحة، ومن ذل إلى عز، ومن رق إلى ملك، ومن فرقة وشتات إلى اجتماع وائتلاف، ومن حزن إلى سرور، ومن رخاء إلى جدب، ومن جدب إلى رخاء، ومن ضيق إلى سعة، فتبارك من قصها فأحسنها ووضحها وبينها.
أهم الدروس والعبر من قصة يوسف عليه السلام
ومن دروس هذه القصة:
أهمية العدل بين الأبناء
- أن العدل مطلوب في الأمور كلها، حتى في معاملة الوالد لأولاده في المحبة والإيثار وغيره، وأن في الإخلال بذلك فساد للأحوال، ولذلك لما قدم يعقوب يوسف عليه السلام على إخوته في المحبة، وآثره عليهم، جرى منهم ما جرى على أنفسهم وعلى أبيهم وعلى أخيهم، بل كان ذلك حاملًا لهم إلى أن هموا بقتله: إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ [يوسف:8-9].
فانظروا كيف كان السبب في فعلة إخوة يوسف عليه السلام أن والدهم فضله عليهم في المحبة.
حقارة الحياة الدنيا
- ومنها: حقارة الدنيا، وإلا فإن يوسف عليه السلام هو نبي الله وهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، فهو نبي وأبوه نبي وجده نبي وأبو جده نبي، ومع ذلك يُلقى في الجب، ثم يُسترق فيباع على أنه عبد رقيق، ثم يسجن ويتهم ويحصل ما حصل من الأمور التي ذكرها الله تعالى لنا في هذه السورة، وهذا يدل على حقارة هذه الدنيا، والصحيح: أن إخوة يوسف أنهم ليسوا بأنبياء، كما قال الحافظ ابن كثير وغيره في تفسيره، وسياق السورة يدل لذلك، وأن الأسباط ليسوا هم إخوة يوسف، وإنما هم أنبياء من أنبياء بني إسرائيل.
الحذر من شؤم الذنوب
- ومنها: الحذر من شؤم الذنوب، وأن الذنب الواحد يستتبع ذنوبًا متعددة، ولا يتم لفاعله إلا بعد جرائم، فإخوة يوسف عليه السلام لما أرادوا التفريق بينه وبين أبيه احتالوا لذلك بأنواع من الحيل، وكذبوا عدة مرات، وزوروا على أبيهم القميص والدم الذي فيه، وفي إتيانهم عشاء يبكون، وهذا من شؤم الذنب.
كلام الحسود لا يسمع
- ومنها: أن كلام الحسود لا يسمع، ولذلك قال إخوة يوسف عليه السلام قالوا لأبيهم: أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [يوسف:12]، وقبل ذلك إبليس لما أتى آدم وزوجه قاسمهما، يعني أقسم لهما بالله إني لكما لمن الناصحين، فالحسود والعدو كلامه غير مقبول لا يقبل ولا يسمع.
لطف الله بعباده الصالحين
- ومنها: أن الله تعالى قد يبتلي بعض عباده لكنه يلطف، فالله تعالى لطيف لما يشاء، فلما حصل من إخوة يوسف لما أخذوه وألقوه في غيابة الجب، كان من لطف الله تعالى به، أن أوحى إليه: وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ أي فيما بعد هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [يوسف:15] بذلك الوحي، فكان في هذا الوحي إليه وهو في غيابة الجب، كان في ذلك تطمين له وجبر لقلبه.
الحذر من الخلوة بالنساء
- ومنها: الحذر من الخلوة بالنساء، اللاتي يخشى منهن الفتنة والحذر من المحبة التي يخشى ضررها فإن امرأة العزيز جرى منها ما جرى بسبب حبها الشديد ليوسف قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا ثم انفرادها وخلوتها به حتى راودته تلك المراودة وتهيأت له وهمت به: وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ [يوسف:24]، وبرهان ربه هو خشية الله ومخافته، فلما قابل يوسف عليه السلام بين قضاء وطره من هذه الشهوة المحرمة، وبين مخافة الله وخشيته ومحبة ربه غلب جانب محبة الله وخشيته، فهرب من هذه المرأة حتى قدت قميصه من دبر، وبرأه الله تعالى فيما بعد، فكان في ذلك رفعة لدرجاته، ولذلك قال بعض أهل العلم: ماذا لو أنه استجاب لتلك المرأة؟ انظر كيف أنه لم يستجب لمراودتها وهرب من الوقوع في الفاحشة فخلد الله هذا الأمر منه وجعله يُقرأ في المصاحف والمحاريب؛ منقبة له وثناء عليه، ولهذا كان من السبعة الذين يظلهم الله تعالى تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله، وذكر منهم رجلًا دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله.
ثمرة الصدق مع الله
- ومنها: أن من كان صادقًا مع الله مخلصًا لله تعالى في جميع أموره فإن الله تعالى يدفع عنه ببرهان إيمانه وصدق إخلاصه يدفع عنه من السوء والفحشاء وأسباب المعاصي ما هو جزاء لإيمانه وإخلاصه؛ كما قال ربنا سبحانه: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24]، وفي قراءة أخرى: «المخلِصين»، فمن أخلص لله أخلصه الله تعالى وخلص عنه الشرور وعصمه من السوء والفحشاء؛ كما قال النبي : احفظ الله يحفظك [1]، فمن حفظ الله، وكان صادقًا مع الله، حفظ الله تعالى عليه دينه ودنياه.
الهرب من المعصية والفتنة
- ومنها: أنه ينبغي للعبد إذا رأى محلًا فيه فتنة وأسباب معصية أن يفر منه ويهرب غاية ما يمكنه؛ ليتمكن من الخلاص من المعصية فإن يوسف عليه السلام لما راودته التي هو في بيتها فر هاربًا يطلب الباب ليتخلص من هذه الفتنة العظيمة.
- ومنها: أن يوسف عليه السلام اختار السجن على المعصية، وهكذا ينبغي للعبد إذا ابتلي بين أمرين: إما فعل معصية، وإما عقوبة دنيوية، أن يختار العقوبة الدنيوية على مواقعة الذنب الموجب للعقوبة في الدنيا والآخرة.
ولهذا كان من علامة الإيمان أن يكره العبد أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار.
الالتجاء إلى الله
- ومنها: أنه ينبغي للعبد أن يلتجئ إلى الله، وأن يحتمي بحماه عند وجود أسباب المعصية، وأن يتبرأ من حوله وقوته، فإن يوسف عليه السلام لما راودته سيدته التي هو في بيتها، واستمرت المراودة ثم اجتمع معها النسوة، وأصبحن يراودنه وتهدده سيدة القصر بالسجن، إن لم يفعل فلجأ إلى الله وسأل الله تعالى أن يصرف عنه كيدهن، وقال: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [يوسف:33-34].
اغتنام الفرص في الدعوة إلى الله
- ومنها: أنه ينبغي للمسلم أن يغتنم كل فرصة تسنح له للدعوة إلى الله فإن يوسف عليه السلام اغتنم مكثه بالسجن في دعوة من في السجن إلى الله ، وإلى تحقيق التوحيد، وإخلاص الدين لله سبحانه.
مرارة اتهام البريء
- ومنها: أن مرارة الاتهام للبريء شديدة على النفس، فيوسف عليه السلام ألقاه إخوته في الجب وحرموه من أبويه واسترق، وعاش في الغربة والسجن وهو صابر، لكن لما اتهموه بالسرقة وهو منها بريء: قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ يقصدون بذلك يوسف شعر بشدة الألم ومرارة البهتان؛ فقال: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُون [يوسف:77].
ولكنه عليه السلام من عظيم أدبه وكريم خلقه أسرها في نفسه أسر في نفسه هذه الكلمة ولم يبدها لهم.
فضيلة العلم
- ومنها: فضيلة العلم علم الأحكام الشرعية، وعلم تعبير الرؤى، وأنه أفضل من الصورة الظاهرة ولو بلغت في الجمال والحسن جمال يوسف، فإن يوسف عليه السلام حصل له بسبب جماله تلك المحن، وبسبب علمه حصل له العز والتمكين في الأرض، فدل ذلك على أن الجمال الحقيقي إنما هو الجمال الباطن، وأن جمال العلم أفضل من جمال الصورة الظاهرة: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف:111].
بارك الله لي ولكم القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة.
عباد الله: ومن فوائد قصة يوسف:
الغيرة على المرأة
- أن ضعف غيرة الزوج على زوجته يجرئها على الوقوع في الفاحشة، فإن العزيز لما وجد يوسف عليه السلام وقَد قُدَّ قميصه من دبر، ثم شهد شاهد من أهلها وتبين له بالقرائن وبالأدلة والبراهين أن زوجته هي التي راودت يوسف عن نفسه وأنه قد رآها وهي متزينة متهيئة ومع ذلك كان موقفه: وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ [يوسف:29] فقط، قال: استغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين، وقال ليوسف عليه السلام: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ [يوسف:29]، فلما رأت من زوجها هذا الضعف الشديد تجرأت على مراودة يوسف عليه السلام على الفاحشة مرة أخرى، وأصبحت تراوده وتراوده ثم تعلن ذلك أمام النسوة حتى لجأ يوسف إلى ربه في أن يصرف عنه كيدهن، فصرف الله كيدهن عن يوسف عليه السلام.
فانظروا إلى ضعف الغيرة عند العزيز، كيف أنها كانت سببًا لجرأة زوجته على أن حصل منها ما حصل.
والغيرة على الزوجة والمحارم من الأمور المحمودة، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: أتعجبون من غيرة سعد؟ يعني سعد بن معاذ والله إني لأشد غيرة منه، والله أغير من عباده [2]، أو كما قال عليه الصلاة والسلام على الوجه اللائق بالله .
ولكن ينبغي أن تكون هذه الغيرة أن تكون غيرة محمودة لا تصل إلى الوساوس وإلى الشكوك، التي لا أساس لها.
العين حق
- ومن فوائد قصة يوسف عليه السلام: إثبات أن العين حق، وأن استعمال الأسباب الدافعة للعين، وغيرها من المكاره، أو الرافعة بعد نزولها أنه أمر جائز، وإن كان لا يقع شيء إلا بقضاء الله وقدره؛ فإن يعقوب عليه السلام كان بنوه أحد عشر ابنًا، وكانوا في غاية الجمال والحسن، فلما ذهبوا إلى مصر خشي عليهم من العين إذا رآهم الناس أحد عشر ابنًا مجتمعين، وفي غاية الحسن والجمال خشي عليهم من العين، فقال: يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ [يوسف:67].
محنة يعقوب عليه السلام
- ومنها: هذه المحنة العظيمة التي امتحن الله تعالى بها نبيه يعقوب عليه السلام ، حيث قضى بالتفريق بينه وبين ابنه يوسف عليه السلام الذي أحبه محبة شديدة، بل تعلق به، بل إنه لا يقدر على فراقه ساعة واحدة، قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ [يوسف:13]، مجرد أن يذهبوا به يحزن والده عليه، ومع ذلك حصل له هذا الفراق العظيم وحصل له هذا البلاء الذي أدى به إلى أن ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم، حزن حزنًا عظيمًا أدى به إلى العمى، وأن تبيض عيناه من الحزن فهو كظيم، ثم ازداد الأمر شدة حتى صار الفراق بينه، وبين ابنه الثاني بنيامين، شقيق يوسف عليه السلام، وهو صابر لأمر الله، محتسب، ثم فقد ابنه الثالث وهو أكبر الأبناء فصبر وقال: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُون [يوسف:18].
حسن ظن يعقوب عليه السلام بربه
- ومنها: عظيم حسن ظن يعقوب عليه السلام بربه، فقد حزن على فقد يوسف عليه السلام حزنًا عظيمًا، ثم فقد على شيخوخته وكبر سنه ابنه الثاني، ثم فقد أكبر أبنائه، ومع ذلك صبر، وأحسن الظن بربه، فقال: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم [يوسف:83].
فكان رجاؤه بربه عظيمًا مع شدة الألم وشدة الحدث، لكن كان يرجو ربه، ويأمل أن يعطيه الله تعالى ما كان يرجوه، وكان غاية أمله أن يأتي أبناؤه الثلاثة إليه في بداوته وشظف عيشه، وقد أعطاه الله تعالى فوق ما كان يرجو ويؤمل، فدخل عليهم وهم في الملك والعز، ورفع يوسف أبويه على العرش.
أن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا
- ومنها: أن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا لما طال الحزن على يعقوب، واشتد الأمر مما حصل، واشتد الاضطرار لآل يعقوب ومسهم الضر، أذن الله تعالى بالفرج حصل التلاقي أحوج ما يكون إليه فتم بذلك الأجر، وحصل السرور، وعلم من ذلك أن الله تعالى يبتلي أولياءه بالشدة والرخاء، وبالعسر واليسر، ليمتحن صبرهم وشكرهم، ويزداد بذلك إيمانهم ويقينهم.
فضيلة التقوى والصبر
- ومنها: فضيلة التقوى، وأن كل خير في الدنيا والآخرة، فمن آثار التقوى والصبر: قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:90].
الاعتراف بنعم الله تعالى وشكرها
- ومنها: أنه ينبغي لمن أنعم الله عليه بنعمة بعد شدة وفقر، وسوء حال أن يعترف بنعمة الله عليه، وأن لا يزال ذاكرًا حاله الأولى؛ ليحدث لذلك شكرًا كلما ذكرها بقول يوسف عليه السلام: وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [يوسف:100].
وانظروا إلى أدب يوسف وكريم خلقه فعل معه إخوته ما فعلوا ومع ذلك قال: مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي لم يقل: من بعد أن فعل بي إخوتي كذا وكذا، وإنما كان عظيم الأدب فقال: مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي، وقال لهم: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:92].
تهيئة الله الأسباب لتفريج الكرب
- ومنها: أن الله تعالى إذا أراد الفرج للإنسان من كربة من كرب الدنيا هيأ لذلك الأسباب، وقد يكون ذلك بأدنى سبب، فخروج يوسف عليه السلام من السجن وتمكينه في الأرض وإحلاله محل سيده العزيز، يحكم مصر كان سبب ذلك رؤيا رآها الملك، فطلب من يوسف عليه السلام التعبير، وكان ذلك سببًا لمعرفة الملك لأمانة يوسف عليه السلام وعفته وعظيم قدره، قال: ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي [يوسف:54]، وقال: إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِين [يوسف:54] فعرف المكانة العظيمة والعفة الكبيرة والأمانة ليوسف عليه السلام، فاغتنم يوسف عليه السلام الفرصة، وقال: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55]، وهذا يدل على أن مدح الإنسان لنفسه عند وجود الحاجة، أو المصلحة الراجحة، أنه لا بأس به، وأنه لا يدخل ذلك في تزكية النفس المنهي عنها.
والله تعالى إنما قص علينا هذه القصة في كتابه الكريم في سورة كاملة لأجل أن نأخذ منها الدروس والعبر والعظات والفوائد: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف:111].
ألا وأكثروا من الصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير؛ فقد أمركم الله بذلك، فقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، اللهم ارض عن صحابته أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أذل الكفر والكافرين، اللهم أذل النفاق والمنافقين.
اللهم من أرادنا أو أراد الإسلام والمسلمين بسوء اللهم فأشغله في نفسه، اللهم اجعل كيده في نحره، اللهم اجعل تدبيره تدميرًا عليه، يا قوي يا عزيز.
اللهم أبرم لأمة الإسلام أمرًا رشدًا يعز فيه أهل طاعتك، ويهدى في أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لتحكيم شرعك، والعمل بكتابك وسنة نبيك محمد ، واجعلهم رحمة لرعاياهم.
اللهم وفق إمامنا وولي أمرنا وولي عهده، اللهم وفقهما لما فيه صلاح البلاد والعباد، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة الناصحة التي تعينهم إذا ذكروا، وتذكرهم إذا نسوا، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم أنزل لنا من بركات السماء، اللهم أنزل لنا من بركات السماء، اللهم أخرج لنا من بركات الأرض، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارًا، اللهم فأرسل السماء علينا مدرارًا، اللهم إنا خلق من خلقك فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات:180-182].