عناصر المادة
الحمد لله الذي خلق كل شيء فقدره تقديرًا، وجرت الأمور على ما يشاء حكمة وتدبيرًا، دبَّر عباده على ما تقتضيه حكمته وكان لطيفًا خبيرًا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وكان على كل شيء قديرًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله حق التقوى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
وجوب الإيمان بالقدر
عباد الله: الحديث في هذه الخطبة عن ركن من أركان الإيمان، وعن أساس من أسس العقيدة؛ إنه الإيمان بالقدر، جاء في الحديث الصحيح عن عمر بن الخطاب في حديث جبريل المشهور، وفيه حينما سأل جبريل عليه السلام رسول الله عن الإيمان، فقال عليه الصلاة والسلام: الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وأن تؤمن بالقدر خيره وشره [1]، رواه مسلم.
ويقول عليه الصلاة والسلام: لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه [2]، رواه الترمذي.
والقضاء والقدر إنْ أفرد أحدهما عن الآخر فهما بمعنى واحد، وإن قُرنا جميعًا في السياق فالقدر هو تقدير الله في الأزل، والقضاء حكم الله بالشيء، وقضاؤه به عند وقوعه.
فإذا قدَّر الله تعالى أن يكون الشيء المعين في وقته فهذا هو القدر، فإذا جاء الوقت الذي يكون فيه هذا الشيء فإنه يكون؛ وهذا هو القضاء.
مراتب الإيمان بالقدر
عباد الله: وللإيمان بالقضاء والقدر أربع مراتب:
- مرتبة العلم.
- مرتبة الكتابة.
- مرتبة المشيئة.
- مرتبة الخلق.
ولا يتم إيمان العبد بالقدر حتى يؤمن بهذه الأربع.
مرتبة العلم
أما مرتبة العلم فيؤمن بعلم الله تعالى المحيط بكل شيء، فإنه سبحانه بكل شيء عليم، عليم بالأمور كلها دقيقها وجليلها، سرها وعلنها، فلا يخفى على الله شيء في الأرض ولا في السماء.
مرتبة الكتابة
وأما المرتبة الثانية، وهي: الكتابة، فيؤمن بأن الله قد كتب في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء إلى قيام الساعة، قبل أن يخلق السماوات والأرض؛ كما قال النبي : إن الله كتب مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة [3]، رواه مسلم.
وأخرج أبو داود وغيره بسند صحيح، عن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله يقول: إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: يا رب وماذا اكتب؟ قال: اكتب مقاديرك كل شيء حتى تقوم الساعة، فجرى القلم بكتابة كل شيء إلى قيام الساعة [4]، فما كُتِبَ على الإنسان لم يكن ليخطئه، وما لم يكتب عليه لم يكن ليصيبه، جفت الأقلام، وطويت الصحف.
أخرج الترمذي وغيره بسند صحيح، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت رديف النبي فقال: يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه عليك، رُفعت الأقلام، وجفت الصحف، وفي رواية: واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك [5]، وقد قال الله تعالى في بيان هذه المرتبة: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج:70]، ويقول: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا أي من قبل أن نخلق المخلوقات إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد:22].
فأخبر سبحانه بأن ما يجري من المصائب في الأرض والأنفس بأنه قد قدره، وأنه قد كتب في اللوح المحفوظ قبل وقوعه، ثم بين الحكمة في هذا، فقال: لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [الحديد:23] أي لأجل أن تطمئن نفوسكم، فلا تجزع ولا تأسف عند المصائب، ولا تفرح عند حصول النعم، فرحًا ينسيها العواقب، فرحًا مصحوبًا بالبطر، تأمن به من مكر الله ، بل الواجب الصبر عند الشدائد والضراء، والشكر عند الرخاء والسراء.
مرتبة المشيئة
المرتبة الثالثة من مراتب الإيمان بالقدر: الإيمان بمشيئة الله تعالى، فإن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فمشيئة الله فوق كل مشيئة، وقدرته فوق كل قدرة: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:29]، إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [الحج:14].
والمرتبة الرابعة من مراتب الإيمان بالقدر: مرتبة الخلق، وذلك بأن يؤمن العبد بانفراد الله بإيجاد المخلوقات، فإن الله خالق كل شيء ومدبره، وما في السماوات والأرض من صغير ولا كبير، ولا حركة ولا سكون، إلا بمشيئة الله وخلقه، قال سبحانه: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الزمر:62].
هذه هي مراتب الإيمان بالقدر: العلم، والكتابة، والمشيئة، والخلق.
أنواع التقدير الإلهي
وتقدير الله للأشياء على نوعين:
- النوع الأول: التقدير العام الشامل لكل كائن، وهو المكتوب في اللوح المحفوظ، فقد كتب الله مقادير كل شيء إلى قيام الساعة.
- النوع الثاني: تقدير مفصل لهذا التقدير العام، وهو على أنواع:
- النوع الأول: التقدير العمري، وهو ما يجري على كل إنسان في مدة عمره في هذه الدنيا، فيكتب ذلك للإنسان وهو في بطن أمه، كما قال عليه الصلاة والسلام: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم علقة مثل ذلك، ثم مضغة مثل ذلك، ثم يأتي الملك ويؤمر بنفخ الروح، ويؤمر بأربع كلمات، بكتب رزقه وأجله وعمله، وشقي أو سعيد [6]، متفق عليه.
- النوع الثاني: التقدير الحولي، وهو ما يقدر في ليلة القدر من وقائع العام؛ كما قال سبحانه: فِيهَا أي في ليلة القدر يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان:4] أي يفصل من اللوح المحفوظ إلى الصحف التي بأيدي الملائكة كل أمر حكيم من أوامر الله المحكمة المتقنة التي تقع في ذلك العام إلى ليلة القدر من العام الذي بعده، أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ [الدخان:5] قال ابن عباس رضي الله عنهما: يفصل من أم الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من موت وحياة ورزق ومطر حتى الحجاج، يقال يحج فلان ويحج فلان.
- النوع الثالث: التقدير اليومي، وهو ما يقدر من حوادث اليوم من حياة وموت، وعز وذل، وغير ذلك؛ كما قال ربنا سبحانه: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29].
ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر
عباد الله: إن من أعظم ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر: صحة إيمان العبد؛ لأنه بذلك يكون قد آمن بكل ما يجب الإيمان به، واستكمل أركان الإيمان.
ومن ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر: طمأنينة القلب وارتياحه، وعدم القلق في هذه الحياة الدنيا، خصوصًا عندما يتعرض الإنسان لمشاق الحياة، عندما يتعرض الإنسان للضغوطات في هذه الحياة للمصائب فإنه إذا كان مؤمنًا بقضاء الله تعالى وقدره أورثه ذلك طمأنينة وراحة؛ لأن العبد إذا علم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، فإنه عند ذلك تسكن نفسه، ويطمئن باله، بخلاف من لا يؤمن بالقضاء والقدر عندما تقع المصيبة أو عندما يفوته شيء أو أن إيمانه بالقضاء والقدر ضعيف، فإنه عندما يفوته شيء أو تقع له مصيبة يجزع ويتسخط ويقلق قلقًا عظيمًا، وربما ضاق من حياته، بل ربما وصل الأمر ببعض الناس إلى أن يحاول الخلاص من حياته بالانتحار، وقتل نفسه، وذلك بسبب ضعف إيمانه بالقضاء والقدر، وإلا فالمؤمن الذي يؤمن بقضاء الله وقدره لا يمكن أن يرد هذا التفكير في باله؛ لأنه مؤمن بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
وقد أخبر الله تعالى أن الذي يؤمن بالقضاء والقدر ويثبت عند المصائب والنوازل أن الله تعالى يهدي قلبه، فتكون مصيبته خيرًا له وتكون عاقبته حميدة، يقول ربنا سبحانه: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [التغابن:11]، قال علقمة رحمه الله في تفسير قوله: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ قال: “هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم، فيرزقه الله تعالى هداية عظيمة لقلبه”.
إن من أصابته مصيبة فعلم أنها من عند الله وأن الله قدّرها فاحتسب وصبر هدى الله قلبه، وعوضه عما فاته من الدنيا يقينًا صادقًا وهدى في نفسه، وقد يخلف الله تعالى ما كان أخذ منه قد يخلف الله تعالى عليه خيرًا منه.
والمطلوب من الإنسان أن يبذل الأسباب، وأن يفعل الأسباب، فإذا أخفق في الحصول على المطلوب بعد ذلك أو أصابته مصيبة فلا يجزع ولا يتحسر، ولا يقول: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، بل يرد الأمر إلى قضاء الله وقدره؛ كما قال النبي : احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزن، فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدَّر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان [7]، رواه مسلم.
ولهذا قال أهل العلم: إن القضاء والقدر يحتج به في المصائب ولا يحتج به في المعائب، فإذا وقعت المصيبة فيحتج الإنسان بالقضاء والقدر، ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، قدَّر الله وما شاء فعل، وأن هذه المصيبة قد كتبها الله علي ولابد أن تقع.
وأما في المعائب فلا يحتج بالقدر، فلا يحتج المقصر في الطاعات أو الواقع في المحرمات بالقدر، ويقول: لو أن الله هداني لأطعت الله تعالى، أو لمَا وقعت في المعصية، فالقدر يحتج به في المصائب لا في المعائب.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام المتقين، وصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة.
القضاء والقدر والأخذ بالأسباب
عباد الله: إن من الناس من يقول: إذا كان القضاء والقدر قد سبق فلا فائدة من العمل حينئذ؛ لأن ما قضاه الله تعالى وقدره فلا بد من وقوعه، فمن سبق في علم الله أنه من أهل السعادة فهو من أهل السعادة، ومن سبق في علم الله أنه من أهل الشقاوة فهو من أهل الشقاوة؟
وقد سبق إيراد مثل هذا التساؤل على النبي ، فأجاب عنه الجواب الشافي الكافي، ففي الصحيحين عن علي قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا رسول الله ومعه مخصرة، فجعل ينكت بمخصرته، ثم قال: ما منكم من أحد وما من نفس منفوسة إلا وقد كتب مكانها من الجنة أو النار، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة قال رجل: يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل فمن كان منا من أهل السعادة فيصير إلى عمل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل الشقاوة؟ فقال النبي : اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [8].
وفي صحيح مسلم عن سراقة بن مالك أنه قال: قلت: “يا رسول الله فيما العمل اليوم؟ أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، أم فيما نستقبل؟ فقال النبي : لا، بل فيما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير قال: قلت: ففيم العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له” [9].
قال ابن القيم رحمه الله: “فاتفقت هذه الأحاديث ونظائرها على أن القدر السابق لا يمنع العمل ولا يوجب الاتكال عليه، بل يوجب الجد والاجتهاد، ولهذا لما سمع بعض الصحابة ذلك، قال: ما كنت أشد اجتهادًا مني الآن، وهذا يدل على جلالة فقه الصحابة، فإن النبي أخبر بالقدر السابق وجريانه على الخليقة بالأسباب، والعبد ينال ما قدر له بالسبب الذي أقدر عليه، ومكن منه وهيئ له، فإذا أتى بالسبب أوصله إلى القدر الذي سبق له في أم الكتاب، وكلما زاد اجتهادًا في تحصيل السبب كان حصول المقدور أدنى إليه”.
فالنبي أرشد الأمة في القدر إلى أمرين:
- الأول: الإيمان بالقدر، وهو ركن من أركان الإيمان.
- الثاني: الإتيان بالأسباب التي توصل إلى خيره، وتحجز عن شره.
حكم الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي أو ترك الواجبات
عباد الله: إن من العجب أن من يحتج بالقدر على ترك الواجبات أو على فعل المعاصي، لو اعتدى عليه شخص فضربه، أو أخذ ماله، وقال له: لا تلمني، فإن اعتدائي عليك إنما كان بقضاء الله وقدره، لم يقبل حجته، فكيف لا يقبل الاحتجاج بالقدر في اعتداء غيره عليه ثم هو يحتج به لنفسه في اعتدائه على حق الله تعالى؟!
ويروى عن عمر بن الخطاب أنه رفع إليه سارق فأمر بقطع يده، فقال: مهلًا يا أمير المؤمنين فإنما سرقت بقدر الله، فقال عمر رضي الله عنه: ونحن نقطع يدك بقدر الله.
عباد الله: إن قدر الله تعالى سر مكتوم لا يعلم به إلا بعد وقوع المقدور، وإرادة العبد لما يفعله سابقة على فعله، فتكون إرادته للفعل غير مبنية على علم منه بقدر الله، وحينئذ تنتفي حجته بالقدر، إذ لا حجة للمرء فيما لا يعلمه، وبكل حال فالقدر سر مكتوم، يسعنا فيه ما وسع صحابة رسول الله .
مزلق التعمق في بحث تفاصيل القدر
قال أهل العلم: ولا ينبغي التعمق في بحث تفاصيل القدر؛ لأن هذا ربما يوقع الإنسان في الانحراف والضلال كما حصل لبعض الفرق.
وقد انحرف في القدر طائفتان: طائفة القدرية، وطائفة الجبرية، وذلك بسبب التعمق في مسائل القضاء والقدر؛ لأن العقل البشري المحدود إنما يستطيع فهم ومعرفة ما أطلع الله عليه البشر من ظاهر عالم المادة فحسب، وأما ما وراء عالم المادة فلا يستطيع العقل البشري المحدود تصوره على حقيقته، ولهذا لما سئل النبي عن الروح روح الإنسان التي بين جنبيه ما حقيقتها؟ توقف النبي لما سئل هذا السؤال، فأنزل الله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85]، أي: أن الروح من عالم آخر غير عالم المادة فلا تعرفونه أنتم أيها البشر، ولهذا قال: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ، وأنتم أيها البشر ما أوتيتم من العلم إلا علمًا قليلًا، متعلقًا بعالم المادة فقط، فلا تستطيعون معرفة حقيقة الروح، وهكذا يقال في القضاء والقدر: لا يتعمق الإنسان فيه، ولا يدخل في تفاصيله، فإنه لن يهتد، وربما ضل، وذلك مزلة أقدام، وإنما نؤمن بالقضاء والقدر على سبيل الإجمال، والتسليم على ما ورد في النصوص الشرعية، وعلى ضوء فهم سلفنا الصالح، نؤمن بذلك كما آمن به الصحابة، ونفهم القضاء والقدر كما فهمه الصحابة، فإنهم قدوتنا وأسوتنا، وهم خير القرون، وهم أفضل القرون، وهم الذين أمر النبي أن نهتدي بهم، قال: خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم [10]، وأخبر بأن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟! قال: من كانت على ما أنا عليه وأصحابي.
ألا وأكثروا من الصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير، فقد أمركم الله بذلك، فقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، اللهم ارض عن صحابة نبيك أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أذل الكفر والكافرين، اللهم انصر من نصر دين الإسلام في كل مكان، اللهم اخذل من خذل دين الإسلام في كل مكان، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أبرم لأمة الإسلام أمرًا رشدًا، يعز فيه أهل طاعتك، ويُهدى فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر.
اللهم إنا نسألك من الخير كله عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم.
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لتحكيم شرعك، والعمل بكتابك، وسنة نبيك محمد ، وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة.
اللهم وفق إمامنا وولي أمرنا لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10].
الحاشية السفلية
^1 | رواه مسلم: 8. |
---|---|
^2 | رواه الترمذي: 2144، وأحمد: 27490. |
^3 | رواه مسلم: 2653. |
^4 | رواه أبو داود: 4700. |
^5 | رواه الترمذي: 2516، وأحمد: 22705. |
^6 | رواه البخاري: 3208، ومسلم: 2643. |
^7 | رواه مسلم: 2664. |
^8 | رواه البخاري: 1362، ومسلم: 2647. |
^9 | بنحوه رواه مسلم: 2648. |
^10 | رواه البخاري: 2651، ومسلم: 2535. |