الحمد لله جامع الناس ليوم لا ريب فيه، عالم ما يسره العبد وما يخفيه، خالق كل شيء وهاديه، أحمده سبحانه، وأتوب إليه وأستغفره، وأستهديه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله حق التقوى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
عباد الله:
إن من الأمور التي تَكرَّر ذكرها في القرآن الكريم وبأساليب متنوعة: وصف اليوم الآخر، ذلك اليوم العظيم، ذلك اليوم المهيب، ذلك اليوم الذي تشيب من أهواله الوِلْدان: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا[المزمل:17-18]، ذلك اليوم الذي مقداره خمسون ألف سنة.
مشهد النفخ في الصور
نقف مع مشهد من مشاهد ذلك اليوم، ذكره ربنا -تبارك وتعالى- في سورة الزمر، يقول ربنا : وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ [الزمر:68]؛ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ أي: نفخة الصعق، والنفخ في الصور نفختان: نفخة الصعق، ونفخة البعث.
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ، والمَلَك المُوكَّل بالنفخ في الصور هو إسرافيل، الذي يقول عنه النبي : كيف أنعَم وصاحب القَرْن قَدِ الْتَقَم القرن وحَنَى جبهته وأصغى سمعه ينتظر أن يؤمر أن ينفخ. قالوا: كيف نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل[1].
ويأمر الله إسرافيل بالنفخ في الصُّور في آخر الدنيا، فيموت الأحياء من أهل السماوات وأهل الأرض إلا من شاء الله؛ وذلك أنه في آخر الدنيا تظهر أشراط الساعة الكبرى، ومنها:
- خروج المسيح الدجال.
- ويُنزل اللهُ تعالى المسيح عيسى ابن مريم إلى السماء، فيُدرك المسيحُ الدَّجَّالَ فيقتله.
- ثم تخرج يأجوج ومأجوج، ويُهلكهم الله تعالى.
- ثم يبعث الله ريحًا باردة، فلا يبقى أحدٌ في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته، ويبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع، لا يعرفون معروفًا، ولا ينكرون منكرًا.
ثم يُنفخ في الصور، فلا يسمعه أحدٌ إلا صَعِق ومات، ويبقى الناس بعد النفخ في الصور يبقون أربعين سنة، ثم يُنزل اللهُ تعالى ماءً كالمطر، فتَنبت أجسادُهم وقد بليت وأصبحت ترابًا إلا عُجْب الذَّنَب، ومنه يُركَّب الخَلْق يوم القيامة، ويُستثنى منهم الأنبياء ومَن شاء الله من الصديقين والشهداء، فلا تأكل الأرض أجسادهم، وتُجمع الأرواح في الصُّور، ويأمر الله إسرافيل بالنفخ في الصور النفخة الثانية، وهي نفخة البعث، فتتطاير الأرواح من الصور، وتذهب كل روح إلى جسدها، لا تخطئه بقدرة العزيز الحكيم.
وهذا معنى قوله -جل وعلا-: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ [الزمر:68]، فيقوم الناس من قبورهم حفاةً عراة كما ولدتهم أمهاتهم، وتُمَد الأرض مدًّا، وتكون منبسطة مستوية، قد نُسفت الجبال نسفًا، يُسمعهم الداعي، ويَنْفُذهم البصر، أعدادٌ عظيمة هائلة من البشر تموج بهم الأرض، يرى الإنسانُ أقاربَه وأحبابه في الدنيا فيفر منهم، كما قال ربنا : يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37].
وتدنو الشمس من الخلائق حتى تكون على قدر ميل، يصف ربنا -تبارك وتعالى- هذا المشهد فيقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1-2].
الناس في الموقف يوم القيامة في شدةٍ وكربة عظيمة؛ قد دهشت عقولهم، وغابت أذهانهم، فمَن رآهم حَسِب أنهم سُكَارى وما هم بسكارى حقيقةً، ولكن عذاب الله شديد، تموج الأرض بالخلائق في يوم طويل جدًّا مقداره خمسون ألف سنة، سبحان الله! خمسون ألف سنة، كم نسبة عمرك في هذه الدنيا إلى هذا اليوم الطويل؟!
وينال الناس في ذلك اليوم من الغم والكرب ما لا يطيقون معه ولا يحتملون، ويطلبون من أبيهم آدم ومن أولي العزم من الرسل الشفاعة عند الرب في الفصل والقضاء بين عباده، فيعتذرون، ويقول كل منهم: نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، إلا محمدًا فلا يعتذر، بل يذهب ويسجد تحت العرش، ويَقبل الله شفاعته، ويظهر فضله وعظيم منزلته للأولين والآخرين، وهي الشفاعة العظمى، والمقام المحمود الذي أُعْطِيَه، فيجيء الرب للفصل والقضاء بين عباده مجيئًا يليق بجلاله وعظمته، والملائكة يجيئون بين يديه صفوفًا، كما قال سبحانه: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22].
وإذا جاء الرب أشرقت الأرض، وأضاءت بنور ربها، كما قال سبحانه: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا [الزمر:69]، ويجيء الله في ظُلَل من الغَمام، كما قال : هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ. وترى جميعُ الخلائق الربَّ سبحانه، ولكن أهل النار يُحجبون عنه بعد ذلك، كما قال سبحانه: كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15].
وأما أهل الجنة فيتنعمون بالنظر إلى الرب ، كما قال : وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]، ثم قال سبحانه: وَوُضِعَ الْكِتَابُ [الكهف:49] أي: كتاب الأعمال، فيُعطى كل واحد من البشر كتابه وقد كُتبت فيه جميع الأعمال التي عملها في الدنيا، أُحصيت أقواله وأعماله كلها حتى مثاقيل الذَّرِّ، كما قال سبحانه: وَوُضِعَ الْكِتَابُ أي: كتاب الأعمال فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49].
مجيء النبيين والشهداء
ثم قال : وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ [الزمر:69] جاؤوا بالنبيين يشهدون على أممهم أنهم قد بلَّغوهم، وأنهم قد بشَّروا وأنذروا وأعذروا، والشهداءِ؛ يجتمع يوم القيامة عدة شهداء على ابن آدم، فتشهد عليهم ملائكة الحَفَظَة، وتشهد عليه جوارحه، ويشهد عليه سمعه وبصره ويده ورِجله وجلده: وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت:21]، وتشهد على ابن آدم الأرضُ التي عَمِل عليها، كما قال سبحانه: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا [الزلزلة:4-5].
ويكرم الله تعالى أمة محمد ، ويجعلها شهداء على الناس، كما قال سبحانه: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة:143].
جاء في “صحيح البخاري” عن أبي سعيد قال: قال رسول الله : يُجاء بنوح يوم القيامة، فيقال له: هل بلَّغت؟ فيقول: نعم، يا رب. فتُسألُ أمته: هل بلَّغكم؟ فيقولون: ما جاءنا من نذير. فيقول: مَن شهودك؟ فيقول: محمد وأمته. فيُجاء بكم فتشهدون[2].
وجاء في بعض الروايات: كيف تشهدون علينا ولم تُدْركونا؟ قالوا: قد جاء نبيُّ الله فأخبرنا أنه قد بلَّغكم، وأُنزل عليه أنه قد بلَّغكم، فصدَّقناه[3].
ثم قال : وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [الزمر:69]، فيُقضَى بين العباد بالحق والعدل والقسط: الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [غافر:17]؛ الدار الآخرة هي دار العدالة المطلقة؛ فلا ظلم فيها، بينما الدنيا فيها ظالم ومظلوم.
ثم قال سبحانه: وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ [الزمر:70]، فذلك اليوم هو يوم توفية الأعمال والأجور، حتى وإن كان مثقال حبة من خردل: وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47]، ويرى الإنسان في ذلك اليومِ أن كلَّ شيء مُرتَّبٌ على ما عَمِل في الدنيا، ويتمنى أنْ لو أنفق كثيرًا من ساعات عمره في أعمالٍ صالحة، ولكن هيهات لا تنفع الأماني حينئذٍ ولا ينفع الندم: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا [الفرقان:27-29].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذِّكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الغني الحميد، المبدئ المعيد، ذو العرش المجيد، الفعال لما يريد، أحاط بكل شيء علمًا، وهو على كل شيء شهيد. أحمده تعالى وأشكره، حمدًا وشكرًا كما يحب ربنا ويرضى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة.
مشهد دخول الجنة ودخول النار
عباد الله:
ثم بيَّن الله في هذه الآيات العظيمة نهاية مطاف البشرية: فريق في الجنة، وفريق في السعير؛ فقال سبحانه: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا [الزمر:71] أي: جماعات، حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا [الزمر:71] تُفتح أبوابها لهم سريعًا لتُعجَّل لهم العقوبة وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا [الزمر:71] من الزبانية الغِلاظ الشداد على سبيل التقريع والتوبيخ: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا [الزمر:71]، ألم تسمعوا المواعظ تُلقَى على أسماعكم؟ ألم تقم الحجة عليكم؟ ألم تُنذَروا مِن شر ذلك اليوم ومن عذاب جهنم؟
فيقولون: بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ [الزمر:71-72] ولم يُسند القول لقائلٍ معين ليدل على أن كل مَن رآهم وعَلِم حالهم يشهد عليهم بأنهم مستحقون للعذاب.
قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر:72]، فبئس المصير مصيرهم بسبب تكبرهم في الدنيا على الحقِّ وعلى الخلق.
ثم قال سبحانه: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا [الزمر:73] أي: جماعات، حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا [الزمر:73] أي: حتى إذا جاؤوا أبواب الجنة وشَفَع لهم محمد فُتِحت أبوابها. قال العلماء: والآية على تقدير: جاؤوها وشَفَع محمد فُتِحت أبوابها. هذا هو السر في مجيء الواو هنا: وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا، ولم تجئ في سياق ذِكر جهنم.
والذين اتقوا ربهم إذا جاؤوا الجنة وجدوا أبوابَها مُغلَقة، فيطلبون من آدم الشفاعة لهم عند الرب بفتح أبوابها، فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم؟ فيطلبون من محمدٍ الشفاعة، فيشفع ويقبل الله شفاعته؛ فتُفتح لهم أبواب الجنة الثمانية، وتُرحِّب بهم الملائكة، وتسلم عليهم عند أبواب الجنة: وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر:73]، ويعطيهم الله من النعيم ومن قرة العين فوق ما يتخيله العقل البشري، كما قال سبحانه: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُم مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة:17].
ويقول النبي عن نعيم الجنة: أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر[4].
فيحمدون الله تعالى على ذلك: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ [الزمر:74] أي: الذي وعدنا على ألسنة رسله في الدنيا، وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ [الزمر:74] أي: أرض الجنة، فيجعل الله أرض الجنة -التي كانت لأهل النار لو أطاعوا الله- لأهل الجنة ميراثًا لهم عنهم.
وقد أخبر النبي أنه: لا يدخل أحدٌ الجنة إلا أُري مقعده من النار لو أساء؛ ليزداد شكرًا، ولا يدخل النار أحد إلا أُري مقعده من الجنة لو أحسن؛ ليكون عليه حسرة[5].
ويرث أهل الجنة مقاعد أهل النار في الجنة، فهذا معنى قوله: وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ [الزمر:74]، ثم قال الله عنهم: نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ أي: أين شئنا حللنا؛ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [الزمر:74] فهم قد أُعطوا هذا النعيم بسبب عملهم في الدنيا بفضل الله ورحمته.
ثم قال سبحانه في ختام هذه الآيات العظيمة: وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ [الزمر:75]، لمَّا ذكر سبحانه حُكْمه في أهل الجنة والنار، وأنه أنزل كلًّا في المحل الذي يليق به؛ أخبر عن ملائكته أنهم مُحْدِقُون من حول عرشه المجيد، يسبحون بحمد ربهم ويمجدونه ويعظمونه ويقدسونه، وقد فصل الله بين العباد وقضى بينهم بالعدل والقسط؛ ولهذا قال: وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الزمر:75]، ولم يُسند القول إلى قائل بل أطلقه؛ فدل على أن جميع المخلوقات تشهد لله تعالى بالحمد في حكمه، وفي عدله، وفي كل شيء.
قال قتادة -رحمه الله-: افتتح الخَلْق بالحمد في قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ [الأنعام:1]، واختتمه بالحمد في قوله: وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الزمر:75].
عباد الله:
هذه هي نهاية الرحلة البشرية: فريق في الجنة، وفريق في السعير. ونحن الآن في هذه الدنيا في مرحلة هي من أهم مراحل هذه الرحلة، وهي مرحلة العمل، والتي يترتب عليها كل شيء بعد مفارقة الدنيا؛ فَلْنتدارك ما تبقى من أعمارنا فيما ينفعنا بعد مماتنا؛ وَلْنُودِعْ في خزائن الأعمال ما نُسَر به يوم نلقى ربنا، ولنودع في خزائن الأعمال ما نُسَر به يوم تُفتح هذه الخزائن وتُوفَّى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون.
ألا وأكثروا من الصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير؛ فقد أمركم الله بذلك، فقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، اللهم ارضَ عن صحابة نبيك أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أذل الكفر والكافرين.
اللهم احمِ حوزة الدين، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان.
اللهم هيئ لأمة الإسلام أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويُهدى فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لتحكيم شرعك، والعمل بكتابك وسنة نبيك محمد . اللهم وفِّق إمامنا وولي أمرنا لما تحب وترضى، وقرب منه البطانة الصالحة الناصحة، التي تُعينه إذا ذكر، وتذكره إذا نسي، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أَنزِل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا سقيا رحمة لا سقيا بلاء ولا عذاب ولا هدم ولا غرق. اللهم أنزل لنا من بركات السماء، اللهم أخرج لنا من بركات الأرض. اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارًا، اللهم فأرسل السماء علينا مدرارًا. اللهم إنا خلق من خلقك، فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك، اللهم اسقنا وأغثنا برحمتك وفضلك وكرمك وجودك وإحسانك، ربنا اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم إنا نسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.