عناصر المادة
الحمد لله الكبير المتعال، المتفضل على عباده بكثيرٍ من النعم والأفضال؛ وَعَد بالزيادة مَن شكر، وتوعد بالعذاب الشديد من كفر.
أحمده تعالى وأشكره، حمدًا وشكرًا كما يحب ربنا ويرضى. أحمده وأشكره حمدًا وشكرًا كما يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله حق التقوى؛ قال : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مسْلِمُونَ [آل عمران:102]، وقال : وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4].
ذكر قصص السابقين في القرآن
عباد الله، إن من أساليب القرآن الكريم في دعوة الناس: ذِكرَ قَصَص السابقين؛ لأخذ العبر والدروس منها؛ فإن للقصص سلطانًا عظيمًا على النفوس.
ونقف في هذه الخطبة مع قصة من قَصَص القرآن، وهي قصة أصحاب الجنة التي ذكرها الله تعالى في سورة (القلم):
فقد كان لرجل في قرية من قرى اليمن جَنَّةٌ؛ أي بستان، وكان يسير في هذا البستان سيرةً حسنة، ويأكل من هذه الجنة ويتصدق على الفقراء والمساكين، فلما مات هذا الرجل الصالح ورثه بنوه وقالوا: لقد كان أبونا أحمق؛ إذ كان يصرف من هذه الجنة شيئًا للفقراء، فلو أنَّا منعناهم لَتَوفَّر ذلك علينا؛ يقول الله : إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ [القلم:17].
معاني الآيات التي ذكرت قصة أصحاب الجنة
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في «تفسيره»: هذا مثل ضربه الله تعالى لكفار قريش فيما أهدى إليهم من الرحمة العظيمة وأعطاهم من النعمة الجسيمة، وهي بعثة محمد إليهم، فقابلوها بالتكذيب والرد والمحاربة.
لقوله : إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ؛ أي اختبرناهم كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ، وهي البستان المشتمل على أنواع الثمار والفواكه، إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ [القلم:17]؛ أي: حلفوا بالله العظيم لَيَجُذُّنَّ ثمرَها إذا أصبحوا وَلَا يَسْتَثْنُونَ [القلم:18]؛ أي: فيما حلفوا به، فلم يقولوا إن شاء الله.
فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِن ربِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ [القلم:19]؛ أي: أن الله تعالى سلط عليها ليلًا ما أتلفها، فأنزل عليها نارًا أحرقتها. والطائف في لغة العرب لا يكون إلا بالليل.
فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ [القلم:20]؛ أي: كالليل الأسود، والمعنى: فأصبحت جنتهم محترقةً سوداء كسواد الليل المظلم البهيم.
فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ [القلم:21]؛ أي: أنهم لما كان وقت الصبح، نادى بعضهم بعضًا ليذهبوا إلى الجِذَاذ.
أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ [القلم:22]؛ أي: تنادوا أن اغْدُوا؛ أي اخرجوا غَدْوةً. والغدوة: هي ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس.
فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ [القلم:23]؛ أي: يتناجون فيما بينهم بحيث لا يُسمِعون أحدًا ولا يسمع أحدٌ كلامهم.
ثم فسَّر الله تعالى عالِمَ السر والنجوى ما كانوا يتخافتون به فقال: فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَن لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مسْكِينٌ [القلم:23-24]؛ أي: يقول بعضهم لبعض: لا تُمكِّنوا اليوم مسكينًا من أن يدخلها عليكم؛ لئلا يطلب منكم أن تعطوه ما كان يعطيه أبوكم.
وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ [القلم:25]؛ والحرد، معناه في كلام العرب: القصد؛ أي: وغدوا على أمرٍ قد قصدوه واعتمدوه واسْتَسَرُّوه فيما بينهم، قادِرِين عليه في أنفسهم.
فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ [القلم:26]؛ أي: لما وصلوا إلى جنتهم وأشرفوا عليها وهي على الحال التي ذكرها ربنا كالصريم، قد استحالت تلك النضارة والزُّهْرة وكثرة الثمار إلى أن صارت سوداء مُدْلَهِمَّة لا يُنتفَع بشيءٍ منها، لما رأوا هذا المنظر لم يصدقوا ما رأوه، والإنسان في أول مراحل المصيبة لا يصدق.
واعتقدوا أنهم قد أخطؤوا الطريق؛ فقالوا: إِنَّا لَضَالُّونَ؛ أي: سلكنا إليها طريقًا غير طريقها فتِهْنا عنها، ثم بعد ذلك لما نظروا وتأملوا تيقنوا أنها هي جنتهم، فعلموا أن الله قد عاقبهم، فقالوا: بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ [القلم:27]؛ أي: بل هي هذه ولكن لا حظَّ لنا ولا نصيب؛ فقد حُرِمنا خيرها لجِنَايَتِنا بالعزم على حرمان الفقراء والمساكين منها.
قَالَ أَوْسَطُهُمْ أي: أعدلهم وخيرهم أَلَمْ أَقُل لكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ [القلم:28] أي: ألم أقل لكم: لولا تسبحون الله وتشكرونه على ما أعطاكم وأنعم به عليكم.
قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ [القلم:29]؛ أي: ظالمين لأنفسنا بهذا الفعل، وظالمين للمساكين بمنعهم حقَّهم من المال.
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ [القلم:30]؛ أي يلوم بعضهم بعضًا على ما كانوا أَصَرُّوا عليه من منع المساكين.
ثم اعترفوا بالذنب والخطيئة: قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ [القلم:31]؛ أي: اعتدينا وبغينا وطغينا وجاوزنا الحد حتى أصابنا ما أصابنا.
عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا منْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ [القلم:32]، وهذا يدل على ندامتهم وتوبتهم رجاء أن يتوب الله عليهم ولا يؤاخذهم بذنبهم، وأن يعوضهم عن جنتهم بجنة أخرى خيرٍ منها.
كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [القلم:33]؛ أي: هكذا عذاب مَن خالف أمر الله وبخل بما آتاه الله وأنعم به عليه ومنع حق الفقراء والمساكين وذوي الحاجات وبدَّل نعمة الله كفرًا.
وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [القلم:33]؛ أي: هذه هي عقوبة الدنيا، لكن عذاب الآخرة أكبر وأعظم وأشق.
صور من عقوبات الله المعجلة في الدنيا
أرأيتم -يا عباد الله- لمَّا منع هؤلاء حقَّ الفقراء والمساكين في جنتهم، كيف أن الله عاقبهم عقوبة معجلة في الدنيا؛ بإتلاف هذه الجنة حتى أصبحت كالصريم؛ أي: كالليل الأسود البهيم.
فهكذا كل من منع الحق الواجب في ماله؛ فإن الله يسلط عليه ما يتلفه: إما إتلافًا حسيًّا أو إتلافًا معنويًّا، وربما يكون الإتلاف المعنوي أسوأ وأشد عقوبة من الإتلاف الحسي.
فبعض الناس قد يُحرَم من الانتفاع بماله في حياته وبعد مماته، وهذا مِن أعظم ما يكون من العقوبة: أن يحرس الأموال التي بحوزته للورثة من بعده، وربما لا يحمدونه عليها؛ لَهُمْ غُنْمُها وعليه غُرْمُها، وربما يسلط الله على هذا الذي بَخِل بما أوجب الله عليه في المال، ربما يسلط الله عليه عقوبات في الدنيا: من أمراض في البدن، ومن أمور يقدرها الله بحسب ما تقتضيها حكمته .
والعبرة من هذه القصة: أنَّ من بخل بالحق الواجب عليه في المال؛ فإن الله يسلط عليه أنواعًا من البلايا والعقوبات في الدنيا قبل الآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وليُّ الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام المتقين. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة.
دروس وعبر من قصة أصحاب الجنة
عباد الله، إن الله تعالى قد جعل في المال حقًّا للفقراء والمساكين؛ ففَرَض الزكاة وندب إلى الصدقة؛ قال : وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ معْلُومٌ للسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج:24-25].
فينبغي للمسلم أن يعطف على الفقراء والمساكين، ويبذل لهم مما أنعم الله به عليه؛ فهذا بمثابة الشكر لنعمة الله عليه. ثم إن الصدقة يكسب بها أجرًا وثوابًا عند الله .
فالصدقة من أسباب دفع البلاء قبل وقوعه، ومن أسباب رفع البلاء بعد وقوعه؛ لأنها إحسان، والله يقول: وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195]، ويقول : إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ منَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56]؛ لأنها رحمة للمساكين، وقد قال النبيُّ : الراحمون يرحمهم الله، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء[1].
جاء في “صحيح البخاري”: أن النبي سأله أزواجه رضي الله عنهن: أيُّنا أسرعُ لحوقًا بك؟ فقال : أسرعكن بي لحوقًا أطولُكُنَّ يدًا. فأَتَيْنَ بقَصَبةٍ فذَرَعْنَ أَيْدِيَهم فوَجَدْنَ أطولَهُنَّ يدًا سودة رضي الله عنها، ثم إن أول امرأةً لحقت بالنبي كانت زينب رضي الله عنها، فعَلِمْنَ أن مراد النبي بطُول اليد كثرة الصدقة، وكانت زينب رضي الله عنها كثيرة الصدقة على المساكين[2].
عباد الله، إن من الناس من ينظر إلى الفقراء والمساكين نظرةَ احتقارٍ وازدراء، ينظر إليهم شَزَرًا، ويتهم جميع الفقراء والمساكين بأنهم كذابون ومحتالون، وهذه نظرة خاطئة. نعم، مَن عُرف أنه محتال كذَّاب فهذا ينبغي معاقبتُه ورَفْعُ أمرِه للجهات المختصة لمعاقبته والأخذ على يده، أما التعميم فإنه خطأ.
فبادروا -رحمكم الله- بالبذل والإنفاق في سُبُل الخير، وبالصدقة؛ فإن الصدقة شأنها عظيم. بادروا بذلك ما دمتم أحياء؛ يقول النبي : أيُّكم مالُ وارثِه أحبُّ إليه من ماله. قالوا: يا رسول الله، ما منا أحدٌ إلا ماله أحبُّ إليه. فقال النبي : فإن ماله ما قدَّم، ومال وارثه ما أخر[3].
وبعض الناس نظرته إلى المال غير صحيحة، فيبخل بالمال وكأنه سيُعمَّر ويخلد في هذه الدنيا، وما دَرَى أن الأجل ربما يكون قريبًا وهو لا يشعر، وأن مُقامَه في هذه الدنيا محدود، وأنه لا بد من أن يترك هذه الأموال وهذه الثروة التي في يده، وستنتقل لمن بعده لوارثه. فعليه أن يُحسن تدبير هذا المال، ويجعل من هذا المال ما ينفعه بعد مماته: من صدقات، وأوقاف، وغير ذلك مما يدر عليه حسناتٍ وهو في قبره، فيكون هذا المال الذي في يده بَرَكةً عليه: ينتفع به في حياته، ويأتيه شيء من ثوابه بعد مماته، فيكون هذا المال بسبب حسن التدبير خيرًا وبركة عليه.
وبعض الناس يكون مالُه حسرةً عليه؛ إذ إنه يمنع الحقَّ الواجب في هذا المال، فيُعاقَب على ذلك، وقد انتقل هذا المال لمن بعده، فيكون لمن بعده الغُنْم وعلى ذلك الذي مات الغُرْمُ والحساب.
فاتقوا الله -رحمكم الله- وتفقدوا أموالكم، وأخرجوا ما كان منها واجبًا، وأكثروا من البذل والصدقة والإنفاق في سبيل الله ؛ ليُعوِّد المسلم نفسه على أن يُكثر من الصدقة والبذل والإنفاق في سبل الخيرات؛ فإنه يكسب بهذا أجرًا عظيمًا وثوابًا جزيلًا في الدنيا والآخرة.
ألا، وأكثِروا من الصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير؛ فقد أمركم الله بذلك فقال : إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارضَ عن صحابة نبيك أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين. اللهم انصر مَن نصر هذا الدين في كل مكان، واخذُل من خذل دين الإسلام في كل مكان. يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا، اللهم اغفر لنا ذنوبنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلًّا للذين آمنوا؛ ربنا إنك رؤوف رحيم.
اللهم ارحم إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان، برحمتك يا رحمن، وانصرهم بنصرك يا قوي يا عزيز، يا نصير المستضعفين، ويا مجير المستجيرين، ويا أرحم الراحمين.
اللهم إنا نحمدك ونشكرك على ما أنزلت علينا من الغيث، ونسألك المزيد من فضلك. اللهم إنا نسألك المزيد من فضلك وجُودِك وكرمك، اللهم فاسقِنا سُقْيا رحمةٍ لا سقيا بلاء ولا عذاب ولا هدم ولا غرق. يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لتحكيم شرعك، والعمل بكتابك، وسنة نبيك محمد ، واجعلهم رحمة لرعاياهم.
اللهم وفق إمامنا ولي أمرنا لما تحب وترضى، وارزقه البطانة الصالحة الناصحة التي تدله على الحق وتعينه عليه. يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك.
اللهم إنا نسألك من الخير كله: عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله: عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.