عناصر المادة
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ [سبأ:1-2]، نحمده تعالى وأشكره حمدًا وشكرًا كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، نحمده تعالى وأشكره حمدًا وشكرًا عدد خلقه، وزِنَة عرشه، ورضا نفسه، ومداد كلماته، نحمده تعالى وأشكره حمد الشاكرين الذاكرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا مُنيرًا، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه، واتَّبع سُنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتَّقوا الله أيها المسلمون، اتَّقوا الله حقَّ التقوى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا [الطلاق:5].
الإسراء والمعراج في القرآن الكريم
عباد الله: الحديث في هذه الخطبة عن حدثٍ من أحداث السيرة العظيمة، الذي وقع في مثل هذا الشهر قبيل هجرة المصطفى ، وهذا الحدث قد نَوَّه الله تعالى بشأنه في القرآن الكريم، وارتبط كذلك بفرضية أحبِّ عبادةٍ إلى الله ؛ إنه الإسراء والمعراج.
الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، والمعراج من الأرض إلى السماء، نَوَّه الله تعالى بشأن هذا الحدث الكبير والعظيم فقال سبحانه: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء:1]، وقال : وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:1-18]، لقد رأى نبينا في هذه الرحلة العجيبة العظيمة من آيات ربه الكبرى.
ومُلخص هذه القصة التي أشار إليها ربنا في موضعين من كتابه الكريم: في سورة الإسراء، وفي سورة النجم.
ملخص قصة الإسراء والمعراج
ملخص هذه القصة: أن النبي كان نائمًا في الحِجْر في الكعبة إذ أتاه آتٍ فأخذه، وشقَّ ما بين ثُغْرَة نَحْره إلى أسفل بطنه، ثم استخرج قلبه فملأه حكمةً وإيمانًا، وهذا أمرٌ فوق طاقة البشر، لكنه من عند العزيز الحكيم، ملأه حكمةً وإيمانًا تهيئةً لما سيقوم به.
ثم أُوتي بدابةٍ دون البغل وفوق الحمار يُقال لها: البُراق، يضع خُطوته عند منتهى طرفه، فركبه نبينا بصُحبة جبريل الأمين حتى وصل إلى بيت المقدس، فنزل هناك وصلى بالأنبياء إمامًا، كل الأنبياء والمرسلين اجتمعوا في بيت المقدس، والظاهر أنهم اجتمعوا بأرواحهم يُصلون خلفه؛ ليتبين بذلك فضل رسول الله وشرفه.
ثم بعد ذلك بعدما أُسْرِيَ به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى عُرِجَ به من الأرض إلى السماء، فوصل إلى السماء الدنيا، فاستفتح جبريل ، فقيل: مَن؟ قال: جبريل. قيل: مَن معك؟ قال: محمدٌ عليه الصلاة والسلام. قيل: وقد أُرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبًا به، فنِعْمَ المجيء جاء. ففُتِحَ له، فوجد فيها أبانا آدم ، فقال جبريل: يا محمد، هذا أبوك آدم فسَلِّمْ عليه. فسلَّمَ عليه، فردَّ عليه السلام، وقال: مرحبًا بالابن الصالح، والنبي الصالح. وإذا على يمين آدم أرواح السعداء، وعلى يساره أرواح الأشقياء من ذُريته، إذا نظر إلى اليمين سُرَّ وضحك، وإذا نظر إلى الشمال بكى.
ثم عُرِجَ به إلى السماء الثانية، فوجد فيها يحيى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، فسلَّم عليهما، فردَّا عليه السلام، وقالا: مرحبًا بالأخ الصالح، والنبي الصالح.
ثم عُرِجَ به إلى السماء الثالثة، فوجد فيها يوسف ، فسلَّم عليه، فردَّ عليه السلام، قال: مرحبًا بالأخ الصالح، والنبي الصالح.
ثم عُرِجَ به إلى السماء الرابعة، فوجد فيها إدريس ، فسلَّم عليه، وقال: مرحبًا بالأخ الصالح، والنبي الصالح.
ثم عُرِجَ به إلى السماء الخامسة، فوجد فيها هارون ، فسلَّم عليه، فردَّ عليه السلام، قال: مرحبًا بالأخ الصالح، والنبي الصالح.
ثم عُرِجَ به إلى السماء السادسة، فوجد موسى ، فسلَّم عليه، فردَّ عليه السلام، وقال: مرحبًا بالأخ الصالح، والنبي الصالح. فلما تجاوزه بكى موسى ، قيل: ما يُبكيك؟ قال: أبكي لأن غلامًا بُعِثَ بعدي يدخل الجنة من أُمَّته أكثر مما يدخلها من أمتي.
فكان بكاء موسى عليه الصلاة والسلام حُزْنًا على ما فات أُمَّته من الفضائل، لا حسدًا لأُمة محمدٍ ، وحاشاه أن يكون منه ذلك.
ثم عُرِجَ به إلى السماء السابعة، فوجد فيها إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، فقال جبريل: هذا أبوك إبراهيم. فإن محمدًا من ذُرية إبراهيم؛ ولهذا قال له: هذا أبوك إبراهيم، فسلَّمَ عليه، فردَّ عليه السلام، فقال: مرحبًا بالابن الصالح، والنبي الصالح.
وهذا يدل على أن إبراهيم هو أفضل الأنبياء بعد محمدٍ عليه الصلاة والسلام؛ كونه كان في السماء السابعة.
وإنما طاف جبريل برسول الله على هؤلاء الأنبياء تكريمًا له، وإظهارًا لشرفه وفضله.
وكان إبراهيم الخليل مُسندًا ظهره إلى البيت المعمور في السماء السابعة، الذي يدخله كل يومٍ سبعون ألفًا من الملائكة يتعبدون لله ، ثم يخرجون، ولا يعودون إليه إلى يوم القيامة.
فسبحان الله العظيم! ما أعظم خلق الله سبحانه!
ثم رُفِعَ نبينا محمدٌ فوق السماء السابعة حتى وصل إلى مكانٍ عظيمٍ عَلِيٍّ، وصل إلى سِدْرَة المُنتهى، فغشيها من أمر الله من البهاء والحُسْن ما غشيها، حتى لا يستطيع أحدٌ أن يَصِفَها من حُسْنها.
كان عليه الصلاة والسلام شديد الحياء لربه، عظيم الأدب: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [النجم:17]، ما جعل يتلفت وينظر إلى هذه المناظر العجيبة البديعة التي هي فوق تخيل البشر، لكنه عليه الصلاة والسلام كان مُؤدبًا غاية الأدب: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى.
ثم بعد ذلك وصل إلى هذا المكان الذي هو أعلى مكانٍ وصله بشرٌ، حتى سمع صوت صرير الأقلام بكتابة القدر، ثم كلَّمه ربه مباشرةً من غير واسطةٍ.
وسأل أبو ذرٍّ -رضي الله عنه- النبي فقال: يا رسول الله، هل رأيتَ ربك؟ قال: نورٌ أَنَّى أراه [1].
فالإنسان بتكوينه البشري لا يتحمل رؤية الله العظيم الذي: تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ [الشورى:5]، وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67].
كيف يتحمل الإنسان بتكوينه البشري الضعيف رؤية الربِّ ؟!
ولهذا لمَّا طلب موسى من الله : قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ [الأعراف:143]، لكن الله يُمَكِّن المؤمنين يوم القيامة من رؤيته في الجنة: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23].
فرض الصلاة ليلة الإسراء والمعراج
كلَّمه الله تعالى مباشرةً من غير واسطةٍ، وفرض عليه وعلى أُمَّته الصلاة، وهذا يدل -أيها الإخوة- على أهمية هذه العبادة، وكيف أنها فُرضت على هذا النحو؟ فإن بقية الفرائض من الزكاة، ومن الصيام، ومن الحج، وسائر الواجبات تُفرض من الله على نبينا محمدٍ بواسطة جبريل ، ولكن هذه العبادة أراد الله أن يُرِي العباد محبته لهذه العبادة، وعظيم شأنها، ففرضها الله تعالى على محمدٍ وعلى أُمَّته مباشرةً من غير واسطةٍ، وكان أول ما فرضها خمسين صلاةً في اليوم والليلة.
تصوروا -أيها الإخوة- خمسين صلاةً في أربعٍ وعشرين ساعةً، كم تأخذ من وقتنا؟ لو أنها لم تُخفف كم تأخذ من وقت الإنسان؟ لو أنها لم تُخفف لربما كان يصلي كل نصف ساعةٍ صلاةً مفروضةً! ولكن الله من رحمته أن قيَّض موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام، فسأل نبينا محمدًا : ما فرض ربك على أُمَّتك؟ قال: خمسين صلاةً في اليوم والليلة. قال موسى : إني قد جربتُ الناس قبلك، وعالجتُ بني إسرائيل أشدّ المُعالجة، وإن أُمَّتك لا تُطيق ذلك، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف. فرجع إلى الله فَحَطَّ عنه عشرًا، فأصبحت أربعين، فلما رجع قال له موسى : ما فرض الله على أُمَّتك؟ قال: أربعين. قال: ارجع إلى ربك فاسأله التَّخفيف؛ فإن أُمَّتك لا تُطيق هذا. فَحَطَّ عنه عشرًا، فأصبحت ثلاثين، فقابل موسى ، قال: ما فرض ربك على أُمَّتك؟ قال: ثلاثين. قال: أُمَّتك لا تُطيق ذلك، فارجع إلى ربك فاسأله التَّخفيف. فرجع فَحَطَّ عنه عشرًا، فأصبحت عشرين، ثم أيضًا لقيه موسى ، قال: ما فرض ربك على أُمَّتك؟ قال: عشرين. قال: أُمَّتك لا تُطيق ذلك، فارجع إلى ربك فاسأله التَّخفيف. فَحَطَّ عنه عشرًا، فأصبحت عشر صلواتٍ، ثم رجع إلى موسى ، قال: ما فرض ربك على أُمَّتك؟ قال: عشرًا. قال: أُمَّتك لا تُطيق ذلك، فارجع إلى ربك فاسأله التَّخفيف. فَحَطَّ عنه خمسًا، فأصبحت خمس صلواتٍ، ثم قابل موسى أيضًا، فقال: ما فرض ربك على أُمَّتك؟ قال: خمس صلواتٍ. قال: ارجع إلى ربك فاسأله التَّخفيف. فقال نبينا محمدٌ : إني قد استحييتُ من ربي. فنادى مُنادٍ: أن أمضيتُ فريضتي، وخففتُ عن عبادي، هي خمسٌ بالفعل، خمسون في الميزان [2].
فكان التَّخفيف تخفيفًا للفعل فقط، وأما الأجر والثواب فلم يُخفف، فهذه الصلوات الخمس التي نُصليها أجرها أجر خمسين صلاةً، ثم بعد ذلك يأتي التَّضعيف: الحسنة بعشر أمثالها إلى أضعافٍ كثيرةٍ.
فهذا يدل على أهمية هذه العبادة، وعلى عظيم عناية الله تعالى بها، وعلى محبة الله لهذا النوع من التعبد؛ ولهذا لما سأل ابنُ مسعودٍ النبيَّ : ما أحبُّ العمل إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها [3]، فهي أحبُّ الأعمال إلى الله ؛ ولهذا كان القول الصحيح: أن مَن تركها بالكلية، لا يركع لله ركعةً، ولا جمعة، ولا جماعة؛ فقد خرج عن دائرة الإسلام، ولم يَعُدْ مسلمًا، كما قال عليه الصلاة والسلام: بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة [4]، وقال: العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمَن تركها فقد كفر [5].
موقف أهل مكة من معجزة الإسراء والمعراج
في هذه الليلة العظيمة أُدخل نبينا محمدٌ الجنة، فإذا فيها قِباب اللؤلؤ، وإذا تُرابها مِسكٌ.
ثم بعد ذلك بعدما انتهت رحلته في السماء رجع بصُحبة جبريل إلى الأرض، وأتى مكة بغَلَسٍ، وصلى فيها صلاة الفجر، فلما أصبح أخبر قريشًا بما رأى، فكان في هذا امتحانٌ لهم وزيادةٌ في الطغيان والتكذيب، وقالوا: كيف تزعم يا محمد أنك أتيتَ بيت المقدس ورجعتَ في ليلةٍ، ونحن نضرب إليه أكباد الإبل شهرًا: شهر في الذهاب، وشهر في الإياب؟! فَصِفْ لنا بيت المقدس إن كنت صادقًا.
فجعل النبي يصفه لهم، حيث جَلَّاه الله له، فجعل ينظر إليه ويَنْعَته لهم نَعْتًا دقيقًا؛ فبُهِتُوا، وقالوا: أما الوصف فقد أصاب.
وجاء الناس إلى أبي بكرٍ وقالوا: إن صاحبك يقول: كذا وكذا. قال: “لئن كان قد قال فقد صدق”. قالوا: وتُصدقه أنه ذهب إلى بيت المقدس، ونحن نضرب أكباد الإبل إليه شهرًا؟! قال: “إني -والله- لأُصدقه فيما هو أبعد من ذلك؛ أُصدقه في خبر السماء في غَدْوَةٍ أو رَوْحَةٍ”؛ ولهذا سُمي بالصديق رضي الله تعالى عنه وأرضاه، هذا هو اليقين الصادق الذي رفع أبا بكرٍ درجاتٍ.
فمن هنا نأخذ القاعدة العظيمة، وهي: أن المدار على ثبوت الخبر عن النبي ، فإذا ثبت آمنَّا به وصدَّقناه بدون اعتراضٍ أو شكٍّ أو استغرابٍ؛ لأنه نبيٌّ صادقٌ: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4].
والله على كل شيءٍ قديرٌ، لا يُعجزه شيءٌ في الأرض ولا في السماء.
الإسراء والمعراج وعظمة الخالق سبحانه
عباد الله: لقد أُسري بنبينا محمدٍ بروحه وجسده إلى بيت المقدس، ثم عُرِجَ به من الأرض إلى السماء، ثم عاد إلى الأرض، كل هذا في ليلةٍ واحدةٍ، فسبحان الله العظيم! كيف قطع هذه المسافات الشاسعة العظيمة التي لا يعلم قدرها إلا الله تعالى؟!
إذا كان قبل مدةٍ أُعلن وصول (مسبارٍ) فضائيٍّ إلى كوكب المريخ الذي نُشاهده ونراه، وهو من كواكب المجموعة الشمسية في المجرة التي نعيش فيها في هذا الكون الذي فيه بلايين المجرات، ومع ذلك مكث هذا (المسبار) الفضائي حتى يصل إلى هذا الكوكب القريب الذي نراه -وسير هذا (المسبار) ليس بالمئات، بل بآلاف الكيلومترات في الساعة- ومع ذلك مكث هذا (المسبار) الفضائي عشرة أشهر وهو يسير من الأرض حتى وصل إلى المريخ.
فسبحان الله العظيم! كيف أُسري بنبينا محمدٍ ؟! وكيف عُرِجَ به من الأرض إلى السماء؟! وبأي سرعةٍ كان ذلك؟!
إن هذا كله فوق تصور البشر، وفوق قُدرة البشر، وهذا مما يزيد المسلم إيمانًا ويقينًا: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].
وأُنبه هنا أيضًا إلى أن السماوات أجرامٌ محسوسةٌ، كما دلَّت لها النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة.
نقول هذا لأن بعض المسلمين ربما تأثر بمقولة بعض الغربيين الذين يقولون: إن السماوات المقصود بها الفضاء والعلو، وليست أجرامًا محسوسةً. وهذا قولٌ باطلٌ.
وكون السماء أجرامًا محسوسةً لا يمكن أن يصل إليها العقل البشري مهما بلغ من التقدم والرقي، وإنما تُعرف عن طريق الوحي، فالله تعالى يقول: وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا [النبأ:12]، ويقول: وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا [الأنبياء:32]، ويقول: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ [ق:6]، ويقول: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ [الأنبياء:104]، فالبناء والرفع والسَّقف والطَّيُّ يدل دلالةً ظاهرةً على أنها أجرامٌ محسوسةٌ.
وفي قصة المعراج يستفتح جبريل ومعه نبينا محمدٌ عند كل سماءٍ ويستأذن، وتُفتح كل سماءٍ، وكل سماءٍ لها أبوابٌ، ولها حُرَّاسٌ من ملائكة الله ، وهذا يدل دلالةً ظاهرةً على أنها أجرامٌ محسوسةٌ، لكن العقل البشري المحدود لا يمكن أن يصل إلى هذه الحقيقة بعقله: بفكره، وبمعلوماته، إنما تُعرف عن طريق الوحي.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ ، وشرَّ الأمور مُحدثاتها، وكل مُحدثةٍ بدعةٌ.
تحديد تاريخ الإسراء والمعراج
عباد الله: على الرغم من ثبوت الإسراء والمعراج، وشُهرة ذلك في الكتاب والسنة، إلا أن تحديد وقت وقوعه بالسنة والشهر واليوم مما اختلف فيه أهل العلم ونَقَلَة الأخبار والسِّيَر اختلافًا كثيرًا.
وأما تحديده بالسابع والعشرين من شهر رجب فإن ذلك لم يثبت بسندٍ صحيحٍ.
أقول: وما كان هذا الاختلاف على الرغم من شهرة هذه الواقعة إلا لما استقام بين الصحابة والسلف الصالح رضوان الله عليهم من أن معرفة وقت حدوث هذه الوقائع لا يترتب عليه أمرٌ دينيٌّ؛ إذ إن المقصود هو الاعتبار والاقتداء والتأسي، وهذا أمرٌ غير مُرتبطٍ بزمنٍ، فالمُناسبات في تاريخ الإسلام كثيرةٌ، فكلها أحداث انتصاراتٍ عِظامٍ يفرح بها كل مؤمنٍ، وينشرح لها صدر كل مسلمٍ: من البعثة، والهجرة، والفتح، والغزوات الفاصلة في تاريخ الإسلام.
ولم يكن السلف الصالح من صحابة رسول الله ، والتابعين، والتابعين لهم بإحسانٍ، والقرون المُفضلة من هذه الأمة؛ لم يكونوا يتَّخذون من هذه المناسبات الإسلامية عيدًا يتحرونه، ويتقربون فيه إلى الله بطقوسٍ وأفعالٍ، لم يكن هذا موجودًا في صدر الإسلام، فقد وقفت القرون المُفضلة المشهود لها بالخيرية عند هذا الحدِّ، فلم تكن تعمد إلى إحياء ذكرى الحوادث الإسلامية: لا في السنة الهجرية، ولا المولد النبوي، ولا ليلة الإسراء والمعراج، ولا ليلة النصف من شعبان، ولا غير ذلك من المناسبات، لم تتَّخذ منها أعيادًا تخصها بالتَّجمع، أو بعباداتٍ من غير دليلٍ، ولا مُستندٍ.
ولا شكَّ أن الخير فيما ذهبوا إليه، وأن الصواب فيما وقفوا عنده، وقد شهد لهم النبي بالخيرية فقال: خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم [6]، وقال: مَن يَعِشْ منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنتي وسُنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسَّكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنَّواجِذ، وإياكم ومُحدثات الأمور، فإن كل مُحدثةٍ بدعةٌ، وكل بدعةٍ ضلالةٌ [7].
وحينئذٍ فالاحتفال برأس السنة الهجرية، أو بالمولد النبوي، أو بليلة الإسراء والمعراج، أو بغيرها من المناسبات الإسلامية؛ كل هذا من البدع المُحدثة، فقد قال عليه الصلاة والسلام: مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ [8].
وهذه البلاد -ولله الحمد- من سِماتها صفاء العقيدة وبُعدها عن مظاهر البدع والشركيات، لكننا نقول هذا ونُنبه عليه؛ لأن العالم قد انفتح بعضه على بعضٍ، وأصبح كالقرية الصغيرة، وربما تأثر بعض الناس بما يرونه يُنْقَل عبر الفضائيات وغيرها من الاحتفالات الموجودة في بعض الدول الإسلامية في مثل هذه المناسبات، يحتفلون بها احتفالًا بتقاليد وطقوسٍ فارغةٍ، يُشابهون بها اليهود والنصارى، وهذا فهمهم لهذه الأحداث، وتجد أنهم بعيدون عن التَّمسك بسُنة النبي ؛ فمنهم مَن هو مُقصرٌ في الصلوات، وفي الإتيان ببعض الواجبات، فضلًا عن بعض السُّنن، لكن عندما تأتي مثل هذه المناسبات ينشطون فيها!
فنقول: إن مثل هذه الاحتفالات من البدع المُحدثة، والمسلمون ليس لهم سوى عيدين في السنة: عيد الفطر، وعيد الأضحى، فمَن اتَّخذ عيدًا ثالثًا غير هذين العيدين فقد أحدث في دين الله ، وقد قال عليه الصلاة والسلام: مَن عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ [9]، وقال: مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ [10].
والبدعة أحبُّ للشيطان من الكبيرة؛ لأن صاحب البدعة يُزين له سوء عمله فَيَرَاه حسنًا، ويرى أن ما عليه هو صوابٌ، وأن ما عليه غيره خطأٌ، وبذلك فإن توبته ليست قريبةً، بخلاف صاحب الكبيرة؛ فإنه يرى أنه مُخطئٌ، ويرى أنه عاصٍ لله، فتوبته مرجوةٌ وقريبةٌ.
فاتَّقوا الله ، واحرصوا على صفاء العقيدة، وعلى البُعد عن هذه البدع، وهذه الخرافات.
وينبغي أن يتواصى أهل هذه البلاد التي مَنَّ الله عليها بهذه المِنَّة العظيمة، وهي: صفاء العقيدة، وبُعْد هذه البلاد عن مظاهر الشركيات والبدع والخرافات، فلله تعالى الحمد والمِنَّة.
ألا وأكثروا من الصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المُنير، فقد أمركم الله بذلك، فقد قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين، ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أذلَّ الكفر والكافرين، اللهم أذلَّ النفاق والمنافقين.
اللهم مَن أرادنا أو أراد الإسلام والمسلمين بسوءٍ اللهم فأشغله في نفسه، اللهم اجعل كيده في نحره، اللهم اجعل تدبيره تدميرًا عليه، يا قوي، يا عزيز.
اللهم أَدِمْ علينا نعمة الأمن والاستقرار، والوحدة والرخاء ورغد العيش، واجعلها عونًا لنا على طاعتك ومرضاتك، واجعلنا لنِعَمك وآلائك شاكرين.
اللهم إنَّا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفُجاءة نِقْمتك، وجميع سخطك.
اللهم أَبْرِمْ لأمة الإسلام أمر رُشْدٍ يُعَزُّ فيه أهل طاعتك، ويُهْدَى فيه أهل معصيتك، ويُؤْمَر فيه بالمعروف، ويُنْهَى فيه عن المنكر، يا حي، يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اجعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عزيزًا ظاهرًا في هذه البلاد، وفي سائر بلاد المسلمين، يا حي، يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وَفِّقْ ولاة أمور المسلمين لما تُحب وترضى، وخُذْ بنواصيهم للبرِّ والتقوى.
اللهم وَفِّقْ إمامنا وولي أمرنا ونائبيه، اللهم وَفِّقْهم لما فيه خيرٌ للإسلام والمسلمين، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة الناصحة التي تُعينهم على الحقِّ، وتدلُّهم عليه، وتُذكرهم إذا نسوا، وتُعينهم إذا ذكروا، يا حي، يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقِنا عذاب النار.
اللهم إنَّا نسألك من الخير كله: عاجله وآجله، ما علمنا منه، وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله: عاجله وآجله، ما علمنا منه، وما لم نعلم.
اللهم ارحم إخواننا المسلمين المُستضعفين في كل مكانٍ، اللهم ارحم إخواننا المسلمين المُستضعفين في كل مكانٍ.
يا نصير المُستضعفين، ويا مُجير المُستجيرين، اللهم ارحمهم برحمتك يا رحمن، وانصرهم بنصرك، يا قوي، يا عزيز، يا حي، يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات:180-182].
الحاشية السفلية
^1 | رواه مسلم: 178. |
---|---|
^2 | رواه البخاري بنحوه: 3207، ومسلم: 164. |
^3 | رواه البخاري: 527، ومسلم: 85. |
^4 | رواه مسلم: 82. |
^5 | رواه الترمذي: 2621، والنسائي: 463، وابن ماجه: 1079. |
^6 | رواه البخاري: 2651، ومسلم: 2535. |
^7 | رواه أبو داود: 4607، وأحمد: 17145. |
^8 | رواه البخاري: 2697، ومسلم: 1718. |
^9 | رواه مسلم: 1718. |
^10 | سبق تخريجه. |