الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض، وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير، يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور، أحمده تعالى وأشكره حمدًا وشكرًا كما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه، أحمده وأشكره حمدًا وشكرًا عدد خلقه، وزنة عرشه، ورضا نفسه، ومداد كلماته، أحمده وأشكره حمدًا وشكرًا كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ما من خير إلا دل أمته عليه، وما من شر إلا حذرها منه، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى فإنها أعظم وصية: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4] وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا [الطلاق:5].
الحث على محاسبة النفس
عباد الله: يقول ربنا تبارك وتعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18] هذه الآية أصل في محاسبة النفس يأمر الله تبارك وتعالى فيها عباده المؤمنين يأمرهم بتقواه، وبمحاسبة نفوسهم: وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ أي: لينظر كل إنسان ماذا قدم ليوم القيامة؟ ماذا عمل؟ ماذا تزود؟
إن الإنسان في هذه الدنيا في ابتلاء وامتحان واختبار؛ كما قال ربنا تبارك وتعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك:2].
نعم، إن الإنسان خلقه الله تعالى ولم يكن شيئًا مذكورًا، وجعل هذه الدنيا محطة اختبار وامتحان له فإن هو نجح في هذا الاختبار فقد فاز بالسعادة في الدنيا والآخرة، وإن هو فشل فيه فقد باء بالخسران، يقول الله تعالى: هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان:1-3].
عباد الله: تمر بالإنسان الأيام والليالي سريعًا، وتمضي جميعًا، وكل يوم يمضي، وكل يوم تغرب شمسه يقرب الإنسان من الآخرة، ويبعده عن الدنيا، يقرب الإنسان من الموت، يقرب الإنسان لساعة الرحيل، لساعة النقلة من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة، ومن مات فقد قامت قيامته.
فحري بالعاقل أن يحاسب نفسه من حين لآخر، يحاسبها ما دام بالإمكان التدارك، يحاسبها ما دام باب العمل مفتوحًا، يقول عمر بن الخطاب : “أيها الناس حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتأهبوا للعرض الأكبر على الله”.
السلف ومحاسبة النفس
ومن حاسب نفسه اليوم خف عليه الحساب يوم الحساب، ولنا في سلفنا الصالح أسوة حسنة، فقد كانوا على جانب عظيم من محاسبة النفس، جاء في صحيح البخاري عن ابن أبي مليكة رحمه الله قال: “أدركت ثلاثين من أصحاب النبي كلهم يخاف النفاق على نفسه”، وذلك من شدة محاسبتهم لأنفسهم.
كان أبو بكر الصديق على جانب عظيم من محاسبته لنفسه، وكان يمسك بلسانه ويقول: “هذا الذي أوردني الموارد”.
وكان عمر بن الخطاب يضرب قدميه بالدرة، ويقول: “يا نفس، ماذا عملتِ اليوم، يا نفس، ماذا قدمتِ لغدٍ؟”، وكان في وجهه خطان أسودان من كثرة البكاء من خشية الله تعالى.
وكان ابن مسعود يحاسب نفسه، ويقول: “ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه اقترب به أجلي ولم يزدد به عملي”.
وبكى عمر بن عبدالعزيز رحمه الله: “ذات يوم بكاءً شديدًا حتى بكى أهل الدار من شدة بكائه، فسئل بعد ذلك عن سبب بكائه، فقال: “تذكرت منصرف الناس بين يدي رب العالمين فريق في الجنة وفريق في السعير، فرحمت نفسي”.
عباد الله: إن النفس أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي النفس تحب الراحة، وتحب الدعة والكسل، وتحتاج إلى نهيها عن الهوى؛ كما قال ربنا : وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40-41]، فهي تحتاج من الإنسان إلى محاسبة شديدة.
قال بعض السلف: “النفس كالشريك الخوان إن لم تحاسبه وإلا ذهب بمالك”؛ فمن أطلق لنفسه العنان، وكان عبدًا لشهواته وملذاته، ويتمنى على الله الأماني حتى تمضي به الأيام والليالي وما تزود بعمل صالح، فربما فاجأه الموت وهو على تلك الحال، وندم حين لا ينفع الندم.
كيفية محاسبة النفس
وإن محاسبة النفس أول ما تكون في محاسبتها على ترك الواجبات وارتكاب المحرمات، فعلى سبيل المثال: إذا أوى المسلم إلى فراشه يحاسب نفسه هل أدى الصلوات الخمس مع الجماعة في المسجد؟ هل فاته شيء منها بل هل أدرك تكبيرة الإحرام مع الإمام؟ وينطلق بعد ذلك إلى بقية الفرائض والواجبات.
ثم يحاسبها على ارتكاب المحرمات هل تكلم بكلام محرم؟ هل اغتاب مسلمًا؟ هل أطلق كلمة جارحة على أخ له مسلم؟
ثم ينطلق بعد ذلك إلى بقية المحرمات، ثم يرتقي في محاسبته لنفسه على محاسبتها على التفريط في النوافل؛ كالسنن الرواتب مثلًا، وهكذا.. ولا يكتفي بتلك المحاسبة، بل يتبعها معاقبة للنفس، يعاقبها على ارتكاب المحرم، أو على ترك الواجب، وللناس في هذا طرائق، روي عن أحد السلف: أنه لما فاتته صلاة العصر تصدق ببستانه حتى لا تعود النفس إلى مثل هذا، ويتبع تلك المعاقبة مشارطة، والمشارطة هي ما يسميها بعض الناس بلغة العصر: التخطيط للوقت، فيشارط نفسه على أنه في الغد لا يقع في مثل التفريط الذي وقع فيه بالأمس، أو في ارتكاب المحرمات التي وقع فيها بالأمس، فيخطط لوقته بأنه سيصلي جميع الصلوات مع الجماعة في المسجد من غير أن تفوته تكبيرة الإحرام مثلًا، وهكذا.. فإذا اعتاد المسلم على هذه المحاسبة والمعاقبة والمشارطة استقامت نفسه، وإذا استقامت فقد أفلحت: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى:14-15]، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].
إن هذه الدنيا دار ممر وعبور وعما قريب ينتقل منها الإنسان إلى دار الجزاء والحساب، فإن هو استقام على طاعة الله وحاسب نفسه من حين لآخر فقد فاز بالسعادة في الدنيا والآخرة: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185]، والحياة فرصة واحدة غير قابلة للتعويض، وما بعد الموت من دار إلا الجنة أو النار، قال بعض السلف: “هب أن ملك الموت أتى إليك لقبض روحك فطلبت منه أن يقيلك أيامًا كي تعمل فيها صالحًا، فها أنت الآن في المهلة، وها أنت الآن في السعة، وباب العمل لا يزال مفتوحًا، وباب التوبة لا يزال مفتوحًا: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الزمر:54-58].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة.
ضرورة محاسبة النفس
عباد الله: إن المسلم لا يزال بخير وإلى خير ما دام محاسبًا لنفسه من حين لآخر، ولكن المصيبة حينما تنعدم محاسبة النفس، فتمر على الإنسان الأيام والليالي والشهور والأعوام، وتمر عليه المواسم تلو المواسم، وهو في غفلة لاه بدنياه، مستغرق في أشغاله التي لا تنقضي، لم يقف مع نفسه يومًا وقفة محاسبة صادقة، يحاسبها عما مضى من العمر، وينظر ماذا قدم لغد؟
عباد الله: إن من خير ما يهبه الله تعالى للإنسان ضميرًا يقظًا يوجهه للخير، ونفسًا لوامة لا تبرح تلوم صاحبها وتحاسبه على تصرفاته واتجاهاته كلما جانب الرشد وضل السبيل، تحاسبه كل حين على كل ما يعمل من أعمال، وهل هي موافقة لمرضاة الله ؟
إن محاسبة النفس على هفواتها، ووزن أعمالها بميزان العدل، وأخذ الأهبة والاستعداد للحساب يوم الحساب، وتقدير موقف العرض الأكبر على الله كل ذلك نهج سديد، وسبب لنيل السعادة في الدنيا والآخرة.
وإن المؤمن الذي يعلم أنه غدًا موقوف بين يدي ربه جل وعلا، ومحاسب عما عمل في هذه الدنيا من خير أو شر، ومجزي عليه الجزاء العدل ليحاسب نفسه، وينظر ماذا قدم لغد؟ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7-8].
فالمؤمن يستعد لذلك اليوم العظيم، يستعد ليوم الحساب والجزاء، وحق عليه قبل ذلك أن ينظر ماذا قدم لذلك اليوم العظيم؟ وما رصيده من الحسنات؟ وما مؤهله لاجتياز تلك الأهوال العظام؟ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر:19].
ألا وأكثروا من الصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير، فقد أمركم الله بذلك، فقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، اللهم ارض عن صحابة نبيك أجمعين.
اللهم أرض عن أبي بكر الصديق، وعن عمر الفاروق، وعن عثمان بن عفان، وعن علي بن أبي طالب، وعن سائر صحابة نبيك أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم انصر الإسلام والمسلمين، اللهم أذل الكفر والكافرين، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم أذل النفاق والمنافقين.
اللهم من أرادنا أو أراد الإسلام والمسلمين بسوء اللهم فأشغله في نفسه، اللهم اجعل كيده في نحره، اللهم اجعل تدبيره تدميرًا عليه، يا قوي يا عزيز.
اللهم إنا لنا أخوة مسلمين مستضعفين مستهم البأساء والضراء، اللهم فارحمهم برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم انصرهم بنصرك يا قوي يا عزيز.
يا نصير المستضعفين، ويا مجير المستجيرين، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أبرم لأمة الإسلام أمرًا رشدًا يعز فيه أهل طاعتك، ويهدى أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لتحكيم شرعك، والعمل بكتابك وسنة نبيك محمد .
اللهم وفق إمامنا وولي أمرنا لما تحب وترضى، اللهم وفقه ونائبيه وإخوانه وأعوانه لما فيه الخير للإسلام وصلاح المسلمين، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم ارزقهم البطانة الصالحة الناصحة التي تعينه إذا ذكر، وتذكره إذا نسي، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك.
اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
اللهم إنا نسألك من الخير كله عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم.
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10].