عناصر المادة
الحمد لله الذي من على المؤمنين، إذ بعث فيهم رسولًا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين، أحمده تعالى وأشكره حمدًا وشكرًا كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله حق التقوى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أهمية دراسة السيرة النبوية
عباد الله: إن أعظم منة وأكبر نعمة من الله تعالى على عباده: أن بعث فيهم الرسل مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتب، فقامت الحجة، واتضحت المحجة، وهدى الله من شاء إلى صراطه المستقيم، وكان من أعظمهم قدرًا، وأبلغهم أثرًا، وأعمهم رسالة: خاتمهم محمد بن عبدالله الذي بعثه الله على حين فترة من الرسل، فهدى به من الضلالة، وألف به بعد الفرقة، وأغنى به بعد العيلة، فأصبح الناس بنعمة الله إخوانًا، وفي دين الله أعوانًا.
وإن في التأمل في سيرة هذا النبي العظيم لعبرًا عظيمة، ودروسًا بليغة للفرد وللأمة.
إن علم سيرة هذا النبي ومعرفة ما هو عليه في عباداته ومعاملاته في أهله وأصحابه وأوليائه وأعدائه، أقول: إن هذا العلم من أهم العلوم وأنفعها؛ لأنه هو الأسوة، وهو القدوة، وهو الإمام الذي يُهتدى بنور شريعته، ويُسار على سنته: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].
إن السيرة النبوية هي المنهاج العملي لحياة الرسول ، وهي النموذج الذي يجب على المسلمين أن يحتذوه في كل زمان ومكان في جميع أمورهم في عباداتهم في تعاملاتهم، في دعوتهم إلى الله ، في جميع شؤون حياتهم.
ولعلنا نقف في هذه الخطبة وقفات يسيرة مع جوانب من السيرة في الفترة المكية فترة ما قبل الهجرة.
وأما الفترة المدنية وما بعد الهجرة فلعل الحديث عنها يكون في خطبة قادمة إن شاء الله تعالى.
مولد النبي ونشأته
عباد الله: ولد رسول الله عام الفيل، ونشأ يتيمًا، فقد توفي أبوه وهو في بطن أمه، وقيل بعد مولده بشهرين، ثم توفيت أمه وهو ابن خمس أو ست سنين؛ فنشأ هذا الطفل يتيم الأبوين، فكفله جده عبدالمطلب، ثم توفي جده عبدالمطلب وهو ابن ثمان سنين، فكفله عمه أبو طالب، فنشأ في كفالة عمه وهو يكرمه ويوليه مزيدًا من الرعاية والاهتمام، ولما بدأ خمس وعشرين سنة تزوج خديجة، وكانت امرأة ثيبًا، وكان عمرها حينذاك ثمانٍ وعشرين سنة على أرجح أقوال أهل العلم، وكانت يومئذ أفضل نساء قومها نسبًا وعقلًا، وكان عليه الصلاة والسلام يمتاز في قومه بالأخلاق الفاضلة، والشمائل الكريمة، فكان أفضل قومهم مروءة، وأحسنهم خلقًا، وأعفهم نفسًا، وأوفاهم عهدًا، حتى سماه قومه بالصادق الأمين.
بدء الوحي إلى رسول الله
ولما بلغ أربعين سنة وهي سن التمام والنضج البشري، وهي التي تبعث عندها الرسل جاءه الوحي، وكان أول ما بدأ به من الوحي الرؤيا الصالحة في المنام، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه، أي: يتعبد الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه جبريل عليه السلام وهو في غار حراء، فكان أول ما نزل عليه: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:1- 5]، ففزع النبي وذهب إلى زوجه خديجة، وقال: زملوني زملوني، فقالت: “كلا والله لا يخزيك الله أبدًا إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتعين على نوائب الدهر”، فعرفت بفطرتها السليمة أن من كان كذلك أن الله لا يخزيه، ثم ذهبت به خديجة إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان قد دخل في دين النصارى، وعرف الكتاب فأخبره النبي بما حصل، فقال ورقة: هذا هو الناموس الذي أُنزل على موسى يا ليتني جذعًا، يا ليتني أكون حيًّا إذ يخرجك قومك، فقال النبي : أو مخرجي هم [1]، فاستبعد أن يخرجه قومه من بلاده، قال: “نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وأن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا”.
دعوة النبي لقومه
ثم أنزل الله تعالى على رسوله: يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر:1-5]، فقام فبشر وأنذر، وكان أول من أجابه من غير أهل بيته أبو بكر الصديق ، وكان صديقًا له قبل النبوة، فلما دعاه النبي بادره إلى التصديق به وصار من دعاة الإسلام، وأسلم على يديه عدد كثير من الصحابة، ومكث يدعو الناس سرًّا لمدة ثلاث سنين، حتى نزل قول الله : فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الحجر:94]، فصدع بأمر الله، وجهر بدعوته، فجعلت قريش تسخر وتستهزئ به، وتؤذيه بالقول والفعل.
أخرج البخاري ومسلم في صححيهما عن ابن عباس قال: “لما نزل قول الله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء:214] صعد النبي على الصفا، فجعل ينادي: يا بني فهر، يا بني عدي، لبطون قريش، حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يأتي أرسل رسولًا لينظر ما الخبر؟ فجاء أبو لهب وقريش، فقال لهم النبي : أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلًا على سفح هذا الجبل تريد أن تُغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك كذبًا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد فقام أبو لهب، وقال: تبًّا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله تعالى: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ إلى آخر السورة” [2].
إيذاء المشركين للنبي
وكان عمه أبو لهب يؤذيه، فكان عليه الصلاة والسلام لا يذهب إلى أحد ويدعوه للإسلام إلا ويذهب بعده عمه أبو لهب، ويقول: “أنا عمه وأدرى الناس به، وإنه لمجنون”، وبلغ من أذى قريش له عليه الصلاة والسلام أن ألقي عليه سلا الجزور وهو ساجد، ففي الصحيحين عن ابن مسعود : “أن النبي كان يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس، إذ قال بعضهم لبعض: أيكم يجيء بسلا جزور بني فلان فيضعه على ظهر محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم، فجاء به فنظر حتى إذا سجد النبي وضع سلا الجزور على ظهره بين كتفيه”.
سبحان الله سيد البشر، أفضل البشر على الإطلاق، سيد الأنبياء والرسل، يوضع على ظهره سلا الجزور، إنها سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلًا: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ [الفرقان:31].
يقول ابن مسعود رضي الله عنه: “فجعلوا يضحكون ويتمايل بعضهم على بعض ورسول الله ساجد لا يرفع رأسه، حتى جاءته ابنته فاطمة فطرحت سلا الجزور عن ظهره، فرفع النبي رأسه ثم دعا، فقال: اللهم عليك بقريش ثلاث مرات، فشق ذلك عليهم إذ دعا عليهم كانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة، ثم سمى أولئك النفر فدعا عليهم، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: فو الذي نفسي بيده لقد رأيت الذين عد رسول الله صرعى في قليب بدر”.
ولا تزال قريش تصب ألوانًا وأصنافًا من العذاب القولي والفعلي على رسول الله وصحابته رضوان الله عليهم، وبلغ بهم أن حاصروهم في شعب أبي طالب حصارًا شديدًا، فقد اجتمعت كفار قريش وتحالفت على بني هاشم وبني المطلب بأن لا يناكحوهم، وأن لا يبايعوهم، وأن لا يجالسوهم، وأن لا يخالطوهم، وأن لا يدخلوهم بيوتهم، ولا يكلموهم، حتى يسلم إليهم رسول الله للقتل، وكتبوا بذلك صحيفة فيها عهود ومواثيق، وعلقت هذه الصحيفة في جوف الكعبة، فانحاز بنو هاشم وبنو المطلب، وحبسوا في شعب أبي طالب، واشتد عليهم الحصار، وقطعت عنهم الميرة والمادة، فلم يكن المشركون يتركون طعامًا يدخل مكة ولا بيعًا إلا بادروه واشتروه، حتى بلغ بهم الجهد، واشتد الجوع إلى أن أكلوا أوراق الشجر من شدة الجوع، وكان يُسمع من وراء الشعب أصوات نسائهم وصبيانهم يتغاضون من الجوع، وكان لا يصل إليهم شيء إلا سرًّا.
ومر على ذلك ثلاثة أعوام كاملة، وفي شهر محرم من السنة العاشرة من النبوة حدث نقض الصحيفة، ووجدوا أن الأرضة قد أكلت الصحيفة، وما فيها من قطيعة وظلم إلا ما كان فيها اسم لله تعالى فلم تأكله، وخرج رسول الله من الشِّعب، وجعل يدعو إلى الله لم يثنه ذلك عن الدعوة إلى الله، وجعل يقول: أيها الناس كلمة تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم، أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، فجعلوا يقولون: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5].
وركز النبي في تلك الفترة على دعوة الناس إلى تحقيق التوحيد وإخلاص الدين لله ، ولم يدعهم إلى سائر الشرائع من الصلاة والزكاة والصيام، وسائر العبادات؛ لأن هذه العبادات لا تصح إذا لم يتحقق التوحيد، فإذا كان الإنسان وقع في الشرك الأكبر لا تنفعه صلاته ولا صيامه، ولا سائر عباداته: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]، وهذا يدل على أهمية تحقيق التوحيد وإخلاص الدين لله: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5]، فقد مكث النبي في هذه الفترة المكية ثلاث عشرة سنة يدعو الناس إلى تحقيق التوحيد، وإخلاص الدين لله: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5].
خروج النبي إلى الطائف
ثم توفي عمه أبو طالب، وكان هو الذي يمنعه من قريش ويدافع عنه، فاشتد أذى قريش له، ثم توفيت زوجته خديجة رضي الله عنها التي كانت تقف معه وتهدئ من روعه، فاهتزت مشاعر الحزن والألم في قلب رسول الله ، فخرج النبي إلى الطائف لعله يجد من ينصره أو يؤازره، وكان معه مولاه زيد بن حارثة، وأقام فيها نحو عشرة أيام دعاهم إلى الله فلم يجيبوه، بل قالوا له: اخرج من بلادنا، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم، وجعلوا يرمونه بالحجارة، حتى رجموا عقبيه، فجعلت عقباه تسيل بالدماء، وكان زيد بن حارثة يقي النبي من الحجارة حتى تصيبه الحجارة، ولا تصيب رسول الله ، حتى شج زيد في رأسه، ولم يزالوا به حتى ألجأوه إلى بستان ابن عتبة وشيبة بن ربيعة، فأتى رسول الله إلى مكان ظليل ورفع يديه، وبكى، وقال: اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين أنت ربي وأنت رب المستضعفين، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدوٍ ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي غضبك، أو أن يحل علي سخطك، لك العُتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك، فجاءه جبريل وناداه، وقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم علي، وقال: يا محمد لك ما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، وهما الجبلان المحيطان بمكة، فقال النبي : لا، بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئًا [3].
إنها القلوب الكبيرة إنها القلوب الرحيمة، أخلاق عظيمة لا تكون إلا من الكبار، أخلاق الأنبياء، أذاه قومه واشتد أذى قومه له فتعرض عليه فرصة الانتقام، وما هي إلا كلمة منه لملك الجبال فيطبق عليهم جبلي مكة فيموتون عن بكرة أبيهم؛ لكنه عليه الصلاة والسلام أبى ذلك، وقال: بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئًا؛ وحقق الله له ما أراد فأخرج الله من أصلابهم من آمن بالله ولم يشرك به شيئًا، وأسلم بعضهم، وكوّنوا مع إخوانهم الأنصار دولة الإسلام التي اتسعت ونشرت دين الإسلام في جميع أنحاء الأرض.
ولما اشتد أذى قريش على النبي وأصحابه أُذن لهم في الهجرة إلى الحبشة، وإنما اختار النبي الحبشة لأن فيها ملكًا عُرف بالعدل، وأنه لا يُظلم عنده أحد، ولما قدِم عليه المهاجرون من الصحابة وكان نحوًا من ثمانين رجلًا أكرمهم وآواهم، ودعاه الصحابة إلى الإسلام فأسلم، وكان رجلًا عاقلًا عادلًا، فقبل الإسلام وأسلم، لكنه خشي على ملكه أن يذهب فأخفى إسلامه، فلما مات في أواخر حياة النبي دعا النبي الصحابة للصلاة عليه صلاة الغائب، وقال: إنه مات اليوم رجل صالح [4]، فصلى عليه صلاة الغائب رحمه الله تعالى.
عباد الله: إن الحليم ليقف حيران، ويتسأل عقلاء الرجال فيما بينهم: ما العوامل وما الأسباب التي بلغت بالمسلمين إلى هذه الغاية القصوى والحد المعجز من الثبات؟ وكيف صبروا هذا الصبر العظيم؟
إنه الإيمان بالله وحده، الإيمان الذي إذا خالطت بشاشته القلوب فإن صاحبه يرى متاعب الدنيا مهما كثرت وكبرت، وتفاقمت واشتدت، لا يراها في جنب إيمانه شيئًا كبيرًا، لا يبالي حينئذ بما يأتيه من المتاعب والمصاعب أمام ما يجده من حلاوة إيمانه ويقينه بوعد الله .
أما من كان إيمانه ضعيفًا متهزهزًا فإنه يوشك أن ينهار عند أدنى فتنة، ويصدق عليه قول الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ [العنكبوت:10].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام المتقين، وصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة.
حكم الاحتفال بمولد النبي
عباد الله: إن علم السيرة النبوية من أهم العلوم ومن أنفعها وأعظمها قدرًا، فينبغي للمسلم العناية بهذا العلم، وأن يحرص على الاقتداء والتأسي برسول الله ، وأن يبتعد عما أحدثه بعض الناس من طقوس فارغة، زعموا بها محبة النبي وتعظيمه، ومن ذلك: الاحتفال بالمولد النبوي الذي يفعله بعض الناس في الثاني عشر من شهر ربيع الأول من كل عام، وهم بذلك يجعلونه عيدًا؛ لأنه زمن معظّم عندهم يتكرر عندهم كل عام، هذا معنى اتخاذه عيدًا، ولا يجوز اتخاذ عيد غير عيد الفطر وعيد الأضحى، ومن اتخذ عيدًا غير هذين العيدين فقد أحدث في دين الله ، وكان النبي في خطب الجمعة، يقول: وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة [5].
ثم إنه لم يثبت أن النبي ولد في اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول، وإنما الذي ثبت أنه ولد في عام الفيل، لكن لا يُعلم في أي تاريخ ولد فيه النبي من ذلك العام، والثابت المعروف أنه عليه الصلاة والسلام توفي في الثاني عشر من شهر ربيع الأول، من السنة الحادية عشرة من الهجرة، ثم إن النبي وأصحابه والتابعين والتابعين لهم خير هذه الأمة خير القرون بشهادة المصطفى لم يفعلوا ذلك، لم يحتفلوا بميلاد النبي ، والصحابة والتابعون هم يحبون رسول الله أكثر منا ويعظمونه أكثر منا، وهم أعلم الناس بدين الله، وأعلم الناس بشريعة الله ، ومع ذلك لم يفعلوا هذا، وإنما حدث الاحتفال بالمولد النبوي في القرن السادس الهجري، وأول من أحدثه العبيديون.
هذه الطائفة المنحرفة البعيدة عن الإسلام هي التي أحدثت الاحتفال بهذا المولد فتلقفه بعض المسلمين جهلًا.
وقد بين علماء الإسلام أن الاحتفال بالمولد النبوي من البدع المحدثة في الدين، فينبغي الابتعاد عن ذلك بجميع مظاهره وصوره وأشكاله، أقول هذا وإن كان هذا غير موجود ولله الحمد في هذه البلاد التي أنعم الله تعالى عليها بصفاء العقيدة، والبعد عن البدع والمحدثات، ولكن العالم اليوم قد انفتح بعضه على بعض، وأصبح كالقرية الصغيرة، ولذلك فقد يتأثر بعض الناس عندما يرون مظاهر الاحتفال بالمولد النبوي تنقل عبر الفضائيات، وعبر وسائل التواصل السريع، ونحو ذلك، فليعلم بأن مثل هذه الاحتفالات أنها من البدع المحدثة في الدين.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد ما تعاقب الليل والنهار، وما ذكره الذاكرون الأبرار.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم اجزه عنا وعن أمة الإسلام خير الجزاء، اللهم وارض عن صحابة نبيك أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا رب العالمين.
اللهم وانصر الإسلام والمسلمين، اللهم وأذل الكفر والكافرين، اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان، اللهم انصرهم بنصرك يا قوي يا عزيز، وارحمهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك.
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لتحكيم شرعك، والعمل بكتابك وسنة نبيك محمد .
اللهم وفق إمامنا وولي أمرنا لما تحب وترضى، وارزقه البطانة الصالحة الناصحة التي تعينه إذا ذكر، وتذكره إذا نسي يا رب العالمين.
اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلًّا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم.