عناصر المادة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًايُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
الحث على المسارعة إلى المغفرة والجنة
نقف في هذه الخطبة وقفات تدبرٍ وتأملٍ لآياتٍ من كتاب ربنا : كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص:29].
نقف مع آياتٍ تتضمن صفاتٍ للمتقين ينبغي للمسلم أن يحرص على الاتصاف بها، وقد وُعد هؤلاء المتقون بمغفرةٍ عظيمةٍ وجناتٍ عرضها السماوات والأرض، يقول ربنا : وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَوَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَأُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:133-136].
فأمر الله تعالى في هذه الآيات عباده المؤمنين بالمسارعة إلى مغفرةٍ وجنةٍ، والمسارعة هي المُبادرة والمسابقة؛ المبادرة إلى فعل الطاعات، والمسارعة يُقابلها الإبطاء والتراخي والتأخر، بخلاف العجلة فيُقابلها الأناة.
الفرق بين المسارعة والعجلة
الفرق بين المسارعة والعجلة: أن المسارعة تعني: التقدم فيما ينبغي التقدم فيه من غير إبطاءٍ، وأما العجلة فهي: التقدم فيما لا ينبغي التقدم فيه.
والمسارعة محمودةٌ، والعجلة مذمومةٌ.
إن المسارعة في الخير تعني: أن المؤمن إذا سنحتْ له فرصةٌ من الطاعة أو الخير بادر إليها، وأن توجد لديه هذه الروح: روح المبادرة للطاعات.
فضل المسارعة إلى الخيرات
ينبغي للمسلم أن يحرص على الاتصاف بروح المبادرة للخير والطاعات، فإن العمر قصيرٌ، ولا يدري الإنسان ما يعرض له في المستقبل، ولا يدري متى يَفْجَأه الأجل.
وقد كان النبي يغرس في نفوس أصحابه المبادرة إلى الطاعات؛ ففي “صحيح مسلم” عن أبي هريرة : أن النبي قال يومًا لأصحابه: مَن أصبح منكم اليوم صائمًا؟ قال أبو بكرٍ : أنا. قال: فمَن أطعم منكم اليوم مسكينًا؟ قال أبو بكرٍ : أنا. قال: فمَن عاد منكم اليوم مريضًا؟ قال أبو بكرٍ : أنا. قال: فمَن تَبِعَ منكم اليوم جنازةً؟ قال أبو بكرٍ : أنا. فقال عليه الصلاة والسلام: ما اجتمعن في امرئٍ إلا دخل الجنة [1].
فانظروا إلى مبادرة الصديق ومُسارعته للخيرات، ففي يومٍ واحدٍ أصبح صائمًا، وأطعم مسكينًا، وعاد مريضًا، وتَبِعَ جنازةً، وربما له أعمالٌ أخرى غير ذلك؛ ولهذا كان أفضل الأمة بعد نبيها .
إن من الناس مَن هو صالحٌ في نفسه، لكنه سلبيٌّ، ليس له مُبادرةٌ ولا مُسارعةٌ للخير، يُدْعَى الناس للصدقة أو للبذل أو لأي مشروعٍ خيريٍّ فلا يُبادر! ويسمع بأن أحدًا من جيرانه أو من أقاربه مريضٌ فلا يُبادر لزيارته! ويموت بعض أقاربه أو بعض جيرانه أو أصحابه فلا يُشارك في تشييع جنازته! ويرى المنكر أمامه فلا يُنكر! ليس له أثرٌ في المجتمع!
والمطلوب من المسلم أن تكون لديه روح المبادرة والمسارعة للخيرات، فكلما سنحتْ فرصة طاعةٍ وخيرٍ بادر وسابق إليها، وقد وصف الله تعالى أولياءه بقوله: أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:61].
وهذه المسارعة في الخيرات تقود إلى ما ذكر الله تعالى بقوله: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ [آل عمران:133]، مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ.
نعم، إنها مغفرةٌ من الله تعالى الغفور الغفار، إنها مغفرةٌ عظيمةٌ من واسع المغفرة جلَّ وعلا، وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، جنةٌ عظيمةٌ واسعةٌ، لا يستطيع العقل البشري المحدود تصور سعتها، لكن الله تعالى شبَّهها بتشبيهٍ يُستدل به على سعتها وعظيم قدرها فقال: عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ.
وفي آية سورة الحديد: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [الحديد:21].
والعادة أن طول الشيء أطول من عرضه، فإذا كان عرض هذه الجنة السماوات والأرض فكيف بطولها؟
والمعنى: أنه لو جُعلت هذه السماوات السبع العظيمة طبقةً طبقةً، والأرض كذلك، ثم وُصل بعضها ببعضٍ حتى تكون طبقةً طبقةً؛ لكان هذا كعرض الجنة.
وأما طول الجنة فلا يعلم قدره إلا الله تعالى.
هذه الجنة من عالم الآخرة، لا نستطيع تصور عظمتها، ولا سعتها وحجمها، جاء في “مسند الإمام أحمد”: أن النبي جاءه رجلٌ فسأله فقال: إذا كانت الجنة عرض السماوات والأرض، فأين النار؟ فقال له النبي : سبحان الله! أين الليل إذا جاء النهار؟! [2]، فإذا دار الفلك كان الليل، وجُعل النهار في الجانب الآخر، فكذلك الجنة هي في جزءٍ من ملكوت الله سبحانه، وملكوت الله لا ينحصر في السماوات والأرض، وإنما لله تعالى من الخلق العظيم ما لا يستطيع أن يتصوره بشرٌ، فضلًا عن أن يُحيط به مخلوقٌ، جاء في “صحيح البخاري” عن أبي هريرة : أن النبي قال: إذا سألتُم الله فاسألوه الفردوس؛ فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن [3].
ثم قال : أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، وهذا يدل على أن الجنة مخلوقةٌ الآن ومُعدَّةٌ، وفُرغ من خلقها، وهذا هو مُعتقد أهل السنة والجماعة، لكنه يزيد غِراسها بالطاعات، فمثلًا: يقول النبي : مَن قال: سبحان الله العظيم وبحمده غُرستْ له نخلةٌ في الجنة [4].
ولما لقي نبينا محمدٌ إبراهيمَ الخليل ليلة المعراج قال: أَقْرِئْ أُمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأن غِراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر [5].
صفات المتقين الذين وُعدوا بالمغفرة والجنة
ثم قال : أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ أي: لعباد الله المؤمنين المتقين، ثم ذكر لهؤلاء المتقين صفاتٍ مَن اجتمعتْ فيه فهو من المتقين الذين وُعدوا بهذه المغفرة والجنة.
الصفة الأولى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ [آل عمران:134]، أول صفةٍ من صفاتهم: السَّخاء في جميع الأحوال: في الشدة والرخاء، والمَنْشَط والمَكْرَه، والصحة والمرض، وفي جميع الأحوال، فلا يشغلهم شيءٌ عن الإنفاق في طاعة الله وفي سُبل الخير.
والمال محبوبٌ للنفوس، كما قال سبحانه: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر:20]، وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8]، فإنفاقه في سُبل الخير في جميع الأحوال دليلٌ على قوة الإيمان والصدق مع الله تعالى.
إن بعض الناس قد يلهو وينشغل في حال السراء، فلا يُنفق إلا عند الشدة والضراء!
وبعض الناس على العكس من ذلك: في حال الضراء ينشغل بنفسه، فلا يُنفق إلا في حال السراء!
لكن هناك صنفٌ من الناس يُنفقون في الحالين جميعًا: في السراء والضراء، أولئك هم المتقون، وأولئك قومٌ أصبح السَّخاء والإنفاق في سُبل الخير خُلُقًا لهم، لا يحجبهم عنه حاجبٌ، ولا ينشأ ذلك إلا عن نفسٍ طاهرةٍ، نقيةٍ، تقيةٍ.
الصفة الثانية: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ [آل عمران:134] أي: الذين إذا ثار بهم الغيظ كَظَمُوه: كتموه، أي: لم يظهر عليهم: لا بقولٍ، ولا بفعلٍ.
والغيظ هو أصل الغضب، لكن الغيظ لا يظهر على الجوارح، بخلاف الغضب فإنه يظهر على الجوارح.
وكظم الغيظ أيها الإخوة أسلوبٌ من أساليب مُعالجة الغضب، وهو العلاج بالكظم، أي: أنه إذا غضب يُحدث مقاومةً ذاتيةً داخليةً تُؤدي إلى إضعاف انفعال الغضب وتهدئته، وتمنع من ردة الفعل المُترتبة على الغضب.
وهذا الكظم هو تعويدٌ للنفس على تجرع الغضب بقوةٍ من النفس ذاتها، ومَن رُزق هذه القوة فهذه هي القوة الحقيقية، كما قال النبي : ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب [6] متفقٌ عليه، أي: ليس القوي بالذي يصرع الناس ويغلبهم، وإنما القوي حقًّا الذي يملك نفسه عند شدة الغضب بأن يكظم غيظه، فلا يُنفذ غضبه.
إن المطلوب من المسلم أن يبتعد عن أسباب الغضب، وقد جاء رجلٌ إلى النبي فقال: يا رسول الله، أوصني. قال: لا تغضب، قال: أوصني. قال: لا تغضب، فردد مرارًا، قال: لا تغضب [7] أخرجه البخاري.
ولكن إذا غضب الإنسان فعليه أن يُعود نفسه على كظم الغيظ، وكظم الغيظ يحتاج في بادئ الأمر إلى مجاهدةٍ شديدةٍ، ولكن إذا تعود الإنسان عليه صار سجيةً له، وحينئذٍ يُوصف بالحليم، والحلم سيد الأخلاق.
إن كظم الغيظ المحمود هو الذي يتبعه عفوٌ؛ ولهذا لما ذكر الله تعالى: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ قال بعد ذلك: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران:134]، أما كظم الغيظ الذي لا يتبعه عفوٌ فإنه قد يتحول إلى حقدٍ وضغينةٍ، وكظم الغيظ الذي يُولد الحقد والبغضاء ليس بمحمودٍ، وإنما المحمود ما أتبعه العفو عن الناس، والعفو عند المقدرة من شِيَم الكرام، ومَن عفا عمن ظلمه كان أجره على الله.
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: “لا يكون العفو عن الظالم ولا قليله مُسقطًا لأجر المظلوم عند الله، ولا مُنقصًا له، بل العفو عن الظالم يصير أجره على الله تعالى، فإنه إذا لم يَعْفُ كان حقُّه على الظالم، فله أن يقتصَّ منه بقدر مظلمته، وإذا عفا وأصلح فأجره على الله، وأجره -الذي هو على الله- خيرٌ وأبقى”.
وقد رُوي عن الإمام أحمد بن حنبل: أنه لما ظُلم في محنته المشهورة، وكان يُضرب بالسياط إلى أن يُغمى عليه، وعندما أراد أن يخرج من السجن لم يخرج إلا بعد أن حلَّل مَن ظلمه، وقال: “ذكرتُ حديثًا عن الحسن قال: إذا كان يوم القيامة نادى مُنادٍ: لا يَقُم إلا مَن وجب أجره على الله، فلا يَقُم إلا مَن عفا وأصلح”.
إن مَن عفا عمن ظلمه يكون أجره على الله تعالى يوم القيامة، وأما في الدنيا فإن الله يزيده بهذا العفو عِزًّا، كما قال النبي : ما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عِزًّا [8].
وبعض الناس يظن أنه إذا عفا عمن ظلمه كان ذلك ذلةً ومهانةً، وهذا غير صحيحٍ، بل العفو يزيد صاحبه عِزًّا ورفعةً في الدنيا والآخرة.
حدثني رجلٌ من الناس أنه أُصيب بمرضٍ شديدٍ، يقول: فأردتُ أن أدعو الله بالشفاء، وأردتُ أن أتوسل إليه بصالح أعمالي كما فعل أصحاب الصخرة، فبحثتُ وتأملتُ فلم أجد عملًا صالحًا كبيرًا، وكانت بيني وبين واحدٍ من الناس خصومةٌ شديدةٌ بقيت سنين، وفي المحاكم، يقول: فدعوتُ الله وقلتُ: اللهم إنه كانت بيني وبين فلانٍ خصومةٌ شديدةٌ، أرى أني قد ظُلمتُ فيها ظلمًا عظيمًا، اللهم إني قد عفوتُ عنه ابتغاء وجهك، اللهم فاشفني من هذا المرض.
يقول: فوالله شفاني الله تعالى في الحال، وها أنا ذا أمامك كما ترى.
نعم، إن العفو عمن ظلمك عملٌ صالحٌ عظيمٌ يتوسل به العبد إلى ربه .
ثم قال سبحانه: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134]، وفي هذا إشارةٌ إلى أن هذه الخِصال الثلاث: الإنفاق في السراء والضراء، وكظم الغيظ، والعفو عن الناس؛ يجتمع بها كمال الإحسان، فمَن جمع هذه الصفات فهو من المحسنين: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه، وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ ، وشرَّ الأمور مُحدثاتها، وكل مُحدثةٍ بدعةٌ، وكل بدعةٍ ضلالةٌ.
المبادرة إلى التوبة من المعصية
عباد الله: ثم ذكر الله تعالى من أوصاف المتقين الذين أعدَّ لهم جنةً عرضها السماوات والأرض فقال: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135] أي: إذا صدر منهم ذنبٌ أتبعوه بالتوبة والاستغفار.
والمراد بالفاحشة: المعصية الكبيرة من الذنوب.
وظلم النفس: الصغائر على قول كثيرٍ من المُفسرين.
وذكر ابن كثيرٍ رحمه الله تعالى في “تفسيره” عن أنس بن مالك قال: “بلغني أن إبليس حين نزلت هذه الآية بكى”.
وأخرج الإمام أحمد في “مسنده” عن أبي بكرٍ الصديق : أن النبي قال: ما من رجلٍ يُذنب ذنبًا فيتوضأ فيُحسن الوضوء، ويُصلي ركعتين، فيستغفر الله ؛ إلا غفر له [9].
وهذه الصلاة يُسميها بعض أهل العلم بصلاة التوبة، فكلما وقع منك ذنبٌ -صغيرٌ أو كبيرٌ- قم وتوضأ، وصلِّ ركعتين، واستغفر الله ؛ يغفر الله تعالى لك، وهذا وعدٌ من النبي لكل مَن وقع في ذنبٍ أو معصيةٍ، فذكر الله ، وقام وتوضأ وصلَّى ركعتين، واستغفر الله؛ أن الله يغفر له ذنبه.
وفي هذه الآية أشار الله تعالى للذنوب كلها: الصغائر والكبائر، فينبغي للمسلم إذا وقع في معصيةٍ أو ذنبٍ أن يُبادر ويتوضأ ويُصلي ركعتين، ثم يُبادر بالتوبة والاستغفار.
الندم وعدم الإصرار على الذنب
عن أبي هريرة ، عن النبي قال: إن رجلًا أذنب ذنبًا فقال: ربِّ، أذنبتُ ذنبًا، فاغفر لي. فقال الله: عبدي عمل ذنبًا، فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرتُ لعبدي.
ثم عمل ذنبًا آخر فقال: ربِّ، أذنبتُ ذنبًا، فاغفر لي. فقال الله: عبدي عمل ذنبًا، فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرتُ لعبدي.
ثم أذنب ذنبًا فقال: ربِّ، أذنبتُ ذنبًا، فاغفر لي. فقال الله: عبدي أذنب ذنبًا، فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به، أُشهدكم أني قد غفرتُ لعبدي، فليعمل ما شاء [10] متفقٌ على صحته.
وهذا الحديث محمولٌ عند أهل العلم على أن الإنسان يقع في الذنب والمعصية، ثم بعد ذلك يتوب إلى الله ، ويستغفر الله تعالى صادقًا، مُحققًا شروط التوبة، فإن الله تعالى يتوب عليه ويغفر له، لكن إن جاء في المستقبل وجاءته لحظة ضعفٍ، ونسي، ورجع إلى الذنب مرةً أخرى؛ فهذا لا يقدح في صحة توبته من الذنب السابق، فعليه أن يتوب مرةً أخرى، ولا ييأس، ولا يقل: إني قد تبتُ في المرة السابقة وعدتُ للذنب مرةً أخرى! بل المهم حين يتوب أن يكون مُحققًا لشروط التوبة، ويكون صادقًا، حتى لو تكرر منه الذنب، وتكررت منه التوبة، فإن هذا لا يضرُّ؛ ولهذا قال الله تعالى: أُشهدكم أني قد غفرتُ لعبدي، فليعمل ما شاء أي: أنه كلما أذنب ذنبًا فاستغفرني فإني أغفر له، بشرط أن يكون عند وقت الاستغفار صادقًا، وألا يكون مُصرًّا على الوقوع في الذنب في المستقبل؛ ولهذا أشار الله تعالى إلى هذا المعنى فقال: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135].
فهم وقت الاستغفار والتوبة لا يُصرون على فعل الذنب في المستقبل، بل يحصل منهم الندم والإقلاع عن الذنب، ويُحققون شروط التوبة، فهؤلاء تقع لهم مغفرة الذنوب.
ثم بيَّن الله تعالى جزاء هؤلاء المتقين في آخر هذه الآيات فقال: أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا [آل عمران:136]، فأكَّد المعنى الذي بدأ به هذه الآيات من وعد هؤلاء المتقين بالمغفرة وبالجنات العظيمة التي عرضها السماوات والأرض.
وختم الله تعالى هذه الآيات بقوله: وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:136]، نَعَم، نِعْم أجر العاملين جنةٌ عرضها السماوات والأرض، فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعتْ، ولا خطر على قلب بشرٍ، فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذُّ الأعين، وأنتم فيها خالدون.
فليحرص المسلم على أن يُحقق هذه الصفات الأربع المذكورة في هذه الآيات؛ حتى يكون من هؤلاء المتقين، وأن يكون من هؤلاء المحسنين الذين يُحبهم الله : الإنفاق في السراء والضراء، وكظم الغيظ، والعفو عن الناس، والمبادرة إلى التوبة والاستغفار عند الوقوع في الذنب، فمَن حقق هذه الخِصال الأربع فهو موعودٌ بهذه الجنة وهذه المغفرة.
ألا وأكثروا من الصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير، فقد أمركم الله بذلك فقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمدٍ، اللهم ارضَ عن صحابة نبيك أجمعين، وعن التابعين، ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا رب العالمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أذلَّ الكفر والكافرين، اللهم انصر الإسلام والمسلمين، يا حي، يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم انصر إخواننا المسلمين المُستضعفين في كل مكانٍ.
اللهم إن لنا إخوةً مسلمين مُستضعفين قد مستهم البأساء والضراء، اللهم فارحم ضعفهم، واجبر كسرهم.
اللهم ارحمهم برحمتك يا أرحم الراحمين، وانصرهم بنصرك يا قوي، يا عزيز، يا نصير المُستضعفين.
اللهم أحسن لهم العاقبة يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.
ووفق ولاة أمور المسلمين لتحكيم شرعك، والعمل بكتابك وسنة نبيك محمدٍ .
ووفق إمامنا وولي أمرنا لما تُحب وترضى، وقَرِّبْ منه البطانة الصالحة الناصحة التي تدلُّه على الخير وتُعينه عليه، يا حي، يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم إنَّا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميع سخطك.
اللهم إنَّا نعوذ بك من جَهْد البلاء، ومن دَرَك الشَّقاء، ومن سُوء القضاء، ومن شماتة الأعداء.
نسألك من الخير كله: عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم.
ونعوذ بك من الشر كله: عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَوَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَوَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات:180-182].