logo
الرئيسية/خطب/الجنة جعلنا الله من أهلها

الجنة جعلنا الله من أهلها

مشاهدة من الموقع

الحمد لله الذي جعل جنات الفردوس لعباده المؤمنين نزلًا، ونوَّع لهم الأعمال الصالحة؛ ليتخذوا منها إلى تلك الجنات سُبُلًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملًا. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الذي شمَّر للِّحاق بالرفيق الأعلى، والوصول إلى جنات المأوى، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله حق التقوى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

أسلوب الترغيب والترهيب في القرآن

عباد الله، إن المتدبِّر لكتاب الله تعالى يجد أن من أعظم الأساليب التي سلكها القرآن الكريم لدعوة الناس إلى تحقيق العبودية لله تعالى أسلوب الترغيب والترهيب، هذا الأسلوب العجيب الذي يحدو بالنفس البشرية إلى العمل والتشمير فيما رُغِّبت فيه، ويُبعدها عما حُذِّرت منه.

وإن المتأمل لكتاب الله وسنة رسوله يجد أن القرآن الكريم والسنة المطهرة قد ربطا أسلوب الترغيب والترهيب كثيرًا بدارين عظيمتين هما نهاية المطاف للبشرية وكل البشر سائرون إليهما لا محالة، ألا وهما: الجنة والنار، الجنة لأهل الإيمان والتقوى جعلنا الله تعالى منهم، والنار لأهل الكفر والعياذ بالله.

وقد جاء ذكر الجنة والنار في القرآن الكريم في آيات كثيرة، وتكرر ذكرهما في القرآن مئات المرات، وما ذاك إلا لأن ربط النفس البشرية بهما دافعٌ قويٌّ جدًّا إلى التشمير والمسارعة في عمل الطاعات، والبعد والحذر عن المعاصي والموبقات.

عباد الله، والكلام عن الجنة ووصفها وما أعد الله لأهلها، وعن النار ووصفها وما أعد الله لأهلها؛ يطول، ولكن حسبنا أن نُشير ببعض ما ورد في ذلك في الكتاب والسنة بإيجاز، ولعل الكلام في هذه الخطبة يكون عن الجنة، وسيكون الكلام عن أوصاف النار -أعاذنا الله منها- في خطبةٍ قادمةٍ إن شاء الله تعالى.

وصف الجنة ونعيمها

عباد الله، إن الجنة وما فيها من النعيم والسرور والفرح والحُبُور لَيَعْجز عن وصفه الواصفون، وهي والله جديرة بأن يَعمل لها العاملون، وأن يتنافس فيها المتنافسون، وأن يُفني الإنسان عمره كله في طلبِها زاهدًا في الدُّون، ففيها من النعيم ما يعجز العقل البشري عن تصوره وتخيله؛ يقول الله ​​​​​​​: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُم مِن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17].

ويصف النبي هذا النعيم فيقول: قال الله : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، واقرؤوا إن شئتم: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُم مِن قُرَّةِ أَعْيُنٍ[1].

إن نعيم الجنة لا يخطر على عقل بشر، فهو فوق مستوى تخيُّل العقل البشري، نعيمٌ عظيمٌ، يقول الله سبحانه في وصف هذا النعيم: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ ۝ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ۝ يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ ۝ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ ۝ يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ ۝ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ۝ فَضْلًا مِن رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [الدخان:51-57].

ويقول: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِن مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ  [محمد:15].

يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ ۝ الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ۝ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ۝ يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ۝ وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ۝ لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ [الزخرف:68-73].

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ۝ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ ۝ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ۝ لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ [الحجر:45-48].

إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ۝ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ ۝ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ۝ يُسْقَوْنَ مِن رَحِيقٍ مَخْتُومٍ ۝ خِتَامُهُ مِسْكٌ ۚ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ۝ وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ ۝ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ [المطففين:22-28].

لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [يونس:26]؛ فالحسنى: هي الجنة؛ لأنه لا دار أحسن منها، والزيادة: هي النظر إلى وجه الرب الكريم. والآيات في وصف الجنة ونعيمها وسرورها وأُنْسِها وحُبُورها كثيرة جدًّا.

وعن أبي هريرة قال: قلنا: يا رسول الله، حدِّثنا عن الجنة ما بناؤها؟ قال: لَبِنة من ذهب، ولَبِنة من فضة، ومِلاطها المسك، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا يبؤس، ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه[2].

وأخرج مسلم في “صحيحه” عن أبي هريرة : أن النبي قال: إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشدِّ نجمٍ في السماء إضاءة، ثم بعد ذلك هم منازل، لا يتغوَّطون ولا يبُولون، ولا يمتخَّطون ولا يبصقون، أمشاطهم من ذهب، ومجامرهم الأَلُوَّة، ورشحُهُم المسك، أخلاقهم على خُلُق رجل واحد، على طول أبيهم آدم، ستون ذراعًا في السماء. وفي رواية: لا خلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب واحد، يسبحون الله بكرةً وعشيًّا[3].

وعن جابر : أن رسول الله قال: إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون، ولا يتفِلُون ولا يبُولُون، ولا يتغوَّطون، ولا يمتخِطون. قالوا: فما بال الطعام؟ قال: جُشاءٌ ورَشْحٌ كرشح المسك، يُلهمون التسبيح والتحميد كما تُلهمون النَّفَس[4].

وعن زيد بن الأرقم أن النبي قال: والذي نفس محمد بيده، إن أحدهم يعني: أهل الجنة ليُعطى قوة مائة رجل في الأكل والشرب والجماع والشهوة، تكون حاجة أحدهم رَشْحًا يَفيض من جلودهم كرشح المسك، فيَضمُر بطنه[5].

وفي الصحيحين عن أبي موسى أن النبي قال: إن للمؤمن في الجنة لخيمةً من لؤلؤةٍ واحدةٍ مجوفةٍ، طولها في السماء ستون ميلًا، للمؤمن فيها أهلُون، يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضًا[6].

وفي “صحيح مسلم” عن المغيرة بن شعبة عن رسول الله قال: سأل موسى ربه فقال: يا ربي، ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعدما أُدخل الناس منازلهم، فيُقال له: أترضى أن يكون لك مثل مَلِكٍ مِن ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت يا رب، فيقول: لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله، فيقول في الخامسة: رضيت ربي، فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك، ولذَّت عينك، فيقول: رضيت ربي. قال: يا رب، فأعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها، فلم تَرَ عين، ولم تسمع أُذُن، ولم يخطر على قلب بشر[7].

وفي “صحيح البخاري” عن أنس : أن رسول الله قال: لَقَابُ قوسِ أحدكم أي: قدمه في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأته ريحًا، ولَنَصِيفُها أي: خمارها على رأسها خيرٌ من الدنيا وما فيها[8].

وفي “صحيح مسلم” عن أنس أن رسول الله قال: إن في الجنة لَسُوقًا يأتونها كلَّ جمعة، فتهب ريح الشمال، فتحثو أي: المسك في وجوههم وثيابهم، فيزدادون حسنًا وجمالًا، فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسنًا وجمالًا، فيقول لهم أهلوهم: والله لقد ازددتم بعدنا حُسنًا وجمالًا، فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسنًا وجمالًا[9].

وفي الصحيحين عن أبي سعيد : أن رسول الله قال: إن الله تعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، والخير في يديك. فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب، وقد أعطيتنا ما لم تُعطِ أحدًا من خلقك؟ فيقول الرب لهم: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: وأيُّ شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أُحِلُّ عليكم رضواني؛ فلا أسخط عليكم بعده أبدًا[10].

وفي “صحيح مسلم” عن صهيب : أن رسول الله قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة، يقول الله تعالى: تريدون شيئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تُبيِّض وجوهنا؟ ألم تُدخلنا الجنة وتُنجِّنا من النار؟ فيَكشِف لهم الحجاب، فما أُعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى وجه الرب [11].

عباد الله:

إن نعيمَ الجنةِ نعيمٌ عظيم، نعيم فوق مستوى التخيل، لا يخطر على قلب بشر؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما:  “ليس في الدنيا من الجنة شيء إلا الأسماء”.

فالاسم هو الاسم، ولكن المسمى غير المسمى، ففي الجنة من كل فاكهةٍ زوجان، فيها فاكهة ونخل ورمان ليست مثل فواكه ونخل ورمان الدنيا، هي فقط تشبهها في الاسم، ولكنها مختلفة عنها في الحقيقة، قد ذُللت قطوفها تذليلًا؛ إن قام تناوَلَها بسهولة، وإن قعد تناولها بسهولة، وإن اضطجع تناولها بسهولة، كلما انقطع منها شيءٌ خَلَفَه آخر: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا [البقرة:25]؛ أي: في اللون والهيئة، ولكنه مختلف في الطعم: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم:62]، آمنين من الموت، آمنين من الهَرَم، آمنين من المرض، آمنين من كلِّ خوفٍ ومن كل نقص في نعيمهم أو زواله: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:108].

فِيهَا أَنْهَارٌ مِن مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ أي: لم يتغير ولا يتغير أبدًا وَأَنْهَارٌ مِن لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ بحموضة ولا فساد وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لا تُصدِّع الرؤوس ولا تزيل العقول: وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [محمد:15] تجري هذه الأنهار من غير حفر ولا سَوَاقٍ ولا إقامةِ أخدودٍ، يصرفونها كما يشاؤون.

وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ في جمالهم وانتشارهم في خدمة أسيادهم لُؤْلُؤًا مَنثُورًا [الإنسان:19]، يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مَن مَعِينٍ ۝ بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [الصافات:45-46].

وفوق ذلك يُحل الله عليهم رضوانه فلا يسخط أبدًا، وفوق ذلك أن الله تعالى يكشف لهم الحجاب فما أُعْطوا نعيمًا أعظم من التمتع برؤية الرب ، ويسلم عليهم الرب سبحانه، فينعمون بذلك نعيمًا عظيمًا، ويُسَرون بذلك سرورًا كبيرًا، وهم في هذا النعيم: لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا [الكهف:108] أي: أنهم لا يَمَلُّون ولا يسأمون.

نعيم الدنيا مهما كان فإن الإنسان مع مرور الوقت يمل منه ويسأم، وأما نعيم الجنة فلا يسأمون منه ولا يملون منه، ولا يبغون عنه حولًا.

 ومن كمال نعيم الله تعالى على أهل الجنة: أن الله تعالى يجمع شتات أفراد العائلة إذا كانوا جميعًا من أهل الجنة ودرجاتهم متفاوتة، فيجمع الله تعالى شتات هذه العائلة، ويرفعهم إلى أرفعهم درجةً؛ لكي يذوقوا نعيمهم وأنسهم، كما قال سبحانه: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِنْ عَمَلِهِم مِن شَيْءٍ [الطور:21]، يُلحق الله تعالى بعضهم ببعض إلى درجة رفيعة من غير أن ينقص مَن في الدرجة الرفيعة شيءٌ؛ ولهذا قال: وَمَا أَلَتْنَاهُم مِنْ عَمَلِهِم مِن شَيْءٍ، وإنما يرفعهم الله تعالى تفضلًا منه وكرمًا وإحسانًا، وحتى يكمل أنسهم ونعيمهم في دار النعيم.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة.

 عباد الله، قد سمعتم بعض أوصاف الجنة، وإنها -والله- ليعجز عن وصفها الواصفون مهما أوتوا من البلاغة والبيان، لكن حسبنا أن الله تعالى وصفها في آيات كثيرة، بل أكثر سور القرآن لا تخلو من ذكر الجنة وأوصافها.

إن نعيم الجنة نعيم دائم لا يفنى ولا ينقطع، أهل الجنة إذا دخلوا الجنة فهم مُخلَّدون فيها أبد الآباد، ليس مُقامُهم فيها يُقدَّر بآلاف السنين، ولا بملايين السنين، بل مخلدون فيها أبد الآباد إلى ما لا نهاية.

 قال ابن الجوزي رحمه الله: “مَن تأمل بعينِ الفكر دوامَ البقاء في الجنة في صفاءٍ بلا كدرٍ، ولذاتٍ بلا انقطاعٍ، وبلوغِ كلِّ مطلوبٍ للنفس، والزيادة مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، من غير تغير ولا زوال؛ إذ لا يقال: ألف ألف سنة، ولا مائة ألف، بل لو أن الإنسان عد ألوف السنين لا ينقضي عدده ولا كان له نهاية، فبقاء الآخرة لا نفاد له، إلا أن هذا لا يحصل إلا بنقد هذا العمر”.

يا سلعة الرحمن ماذا كفؤها؟ إلا أولو التقوى مع الإيمان
يا سلعة الرحمن لست رخيصة بل أنت غالية على الكسلان
يا سلعة الرحمن أين المشتري؟ فلقد عُرِضْتِ بأيسر الأثمان
يا سلعة الرحمن هل من خاطب؟ فالمهر قبل الموت ذو إمكان

عباد الله، إذا استحضر الإنسان نعيم الجنة، نعيم عظيم، يتنعم فيه أبد الآباد، ليس فيه مرض، ولا همٌّ، ولا غمٌّ، ولا تعب، ولا نصب، ولا موت، بل لذات متتابعة إلى ما لا نهاية، ينعم ولا يبؤس، فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.

استحضار نعيم الجنة

هذا النعيم العظيم -أيها الإخوة- ينبغي أن يستحضره الإنسان، وألا يغيب عن باله؛ لأنه هو المصير الذي إليه صائر؛ فإن مصير الإنسان في النهاية: فريق في الجنة وفريق في السعير، فكيف يغفل الإنسان عن مصيره؟! فينبغي أن يستحضر هذه الدار، وأن يستحضر نعيمها، وأن يُكثر من سؤال الله تعالى إياها، والاستعاذة بالله تعالى من النار.

أخرج الترمذي بسند صحيح عن أبي هريرة أن النبي قال: إذا سأل العبدُ ربَّه الجنةَ ثلاث مرات، قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة، وإذا استعاذ بالله من النار ثلاث مرات، قالت النار: اللهم أجره من النار[12].

إن استحضار هذا النعيم، وعدم الغفلة عنه؛ لَيَحْدو الإنسان لمزيد من الطاعة، والإحسان للعمل الصالح، خاصة إذا استحضر الإنسان بأن الجنة درجات، وأن ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، وأن أهل الجنة يتفاوتون فيها على مقدار العمل في هذه الدنيا، فيبذل الإنسان جهده في التزود بزاد التقوى والعمل الصالح؛ كي يفوز بهذه الدار العظيمة: فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ  [آل عمران:185].

متى يعرف العبد مقعده في الجنة أو النار؟

عباد الله، إن الإنسان يعرف مصيره هل هو من أهل الجنة أو من أهل النار عند ساعة الاحتضار، فإن كان من أهل الجنة أُري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرًا، وإن كان من أهل النار أُري مقعده من الجنة ليكون عليه حسرة؛ جاء في “صحيح البخاري” عن أبي هريرة أن رسول الله قال: لا يدخل أحدٌ الجنة إلا أُرِيَ مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرًا، ولا يدخل أحد النار إلا أري مقعده من الجنة لو أحسن ليكون عليه حسرة هذا لفظ البخاري[13].

وجاء في “سنن ابن ماجه” بسند صحيح أن ذلك يقع عند المسألة في القبر، وفيه: فيُفرَج له فُرْجةٌ قِبَل النار، فينظر إليها يَحْطِم بعضها بعضًا، فيقال له: انظر إلى ما وقاك الله فيُسر حينئذٍ[14].

وفي حديث أنس: فيقال: انظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به مقعدًا من الجنة[15].

وأخرج ابن ماجه بسند صحيح عن أبي هريرة  أن رسول الله قال: ما منكم من أحدٍ إلا وله منزلان: منزل في الجنة ومنزل في النار، فإذا مات ودخل النار ورث أهلُ الجنة منزلَه، وذلك قول الله تعالى: أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ [المؤمنون:10][16].

قال جمهور المفسرين في قول الله تعالى: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ [الزمر:74]: المراد بالأرض: أرض الجنة التي كانت لأهل النار لو دخلوا الجنة.

وقد دلت الأدلة على أن الله خلق بعدد البشر خلق لكل واحد منزلين: منزلًا في الجنة ومنزلًا في النار، فإذا دخل الجنة أخذ منزله في الجنة، لكن من دخل النار فإن أهل الجنة يأخذون منزله؛ وهذا معنى قوله: أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ [المؤمنون:10]، ومعنى قول أهل الجنة: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ [الزمر:74] أي: أرض الجنة، فأهل الجنة يورثهم الله منازل أهل النار.

اللهم إنا نسألك الجنة ونعوذ بك من النار، اللهم إنا نسألك الجنة ونعوذ بك من النار، اللهم إنا نسألك الجنة ونعوذ بك من النار.

اللهم إنا نسألك أن تُدخلنا جنات ونهرٍ في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

اللهم إنا نسألك أن ترزقنا لذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة.

اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا.

اللهم استعملنا في طاعتك، وأعنا على ذكرك، وعلى شكرك، وعلى حسن عبادتك.

اللهم وفقنا لأن نعبدك كما تحب وترضى، وأن نتَّقِيَكَ كما تحب وترضى.

اللهم وفقنا لأن نتزود بزاد التقوى، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين.

اللهم انصر من نصر دين الإسلام في كل مكان، واخذل من خذل دين الإسلام في كل مكان، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.

اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان.

اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لتحكيم شرعك، والعمل بكتابك وسنة نبيك محمد ، واجعلهم رحمة لرعاياهم.

اللهم وفق إمامنا وولي أمرنا لما تحب وترضى، وارزقه البطانة الصالحة الناصحة التي تُعينه إذا ذكر، وتُذكِّره إذا نسي، ووَفِّقه وإخوانه وأعوانه لما فيه صلاح البلاد والعباد، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.

ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلًّا للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم.

اللهم صلِّ على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 4779، ومسلم: 2824.
^2 رواه أحمد: 9744.
^3 رواه البخاري: 3245، ومسلم: 2834.
^4 رواه مسلم: 2835.
^5 رواه أحمد: 19269.
^6 رواه البخاري: 4879، ومسلم: 2838.
^7 أخرجه مسلم: 189.
^8 رواه البخاري: 2796.
^9 رواه مسلم: 2833.
^10 رواه البخاري: 6549، ومسلم: 2829.
^11 رواه مسلم: 181.
^12 رواه أحمد: 12170، والترمذي: 2572، والنسائي: 5521، وابن ماجه: 4340.
^13 رواه البخاري: 6569.
^14 رواه أحمد: 25089، وابن ماجه: 4268.
^15 رواه البخاري: 1338، ومسلم: 2870.
^16 رواه ابن ماجه: 4341.
مواد ذات صلة
  • خطبة عيد الفطر 1443 هـ

    الحمد لله معيد الجمع والأعياد، رافع السبع الشداد عالية بغير عماد، وماد الأرض ومرسيها بالأطواد، جامع الناس ليوم لا ريب…

  • أحكام الزكاة وفضائل الصدقة

    الحمد لله الذي وعد المنفقين أجرًا عظيمًا وخلفًا، وتوعد الممسكين لأموالهم عما أوجب عليهم عطبًا وتلفًا، أحمده تعالى وأشكره، وأشهد…

zh