عناصر المادة
الحمد لله الذي شرع لعباده حج بيته الحرام، وجعله مطهرًا لنفوسهم من الذنوب والآثام، أحمده تعالى وأشكره حمدًا وشكرًا كما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه، وأشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمً [الأحزاب:70-71].
عباد الله: إن من رحمة الله تعالى بعباده: أن جعل لهم مواسم للخير، منها ما يتكرر في اليوم والليلة خمس مرات، وهو: الصلوات الخمس، ومنها ما يتكرر كل أسبوع، وهو: صلاة الجمعة، ومنها ما يتكرر كل عام، وهو: صوم رمضان، وحج بيت الله الحرام، جعل الله هذه المواسم ميدانًا لتزود المؤمنين بالأعمال الصالحة، ففيها رفعة للدرجات، وفيها تكفير للخطايا والسيئات، وإن من هذه المواسم، هذا الموسم الذي نستقبله هذه الأيام، وهو: موسم الحج إلى بيت الله الحرام، موسم عظيمٌ رابح، قد فرض الله تعالى الحج على جميع من استطاع إليه سبيلا، وجعل ذلك ركنًا من أركان الإسلام: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97].
فضل الحج ومكانته
الحج إلى بيت الله الحرام هو أحد أركان الإسلام الخمسة، كما قال عليه الصلاة والسلام: بني الإسلام على خمس…، وذكر منها: حج بيت الله الحرام [1]، عن عمر قال: “لقد هممت أن أبعث رجالًا إلى هذه الأمصار، فينظروا كل من له جِدة” أي: غنى “ولم يحج، فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين”.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال: تعجلوا إلى الحج أي الفريضة فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له [2]، فمن كان مستطيعًا للحج بماله وبدنه ولم يحج فليبادر إلى أداء هذه الفريضة، وليتعجل فإنه لا يدري ما يعرض له، وإن التهاون بأدائها دليلٌ على ضعف الإيمان، وقلة الاهتمام بأوامر الله ورسوله، وإلا فكيف تطيب نفس المؤمن أن يترك هذا الركن وهذه الفريضة مع قدرته عليه؟
عباد الله: وإن من رحمة الله تعالى بعباده المؤمنين: أن أوجب عليهم الحج مرة واحدة في العمر، وما زاد على ذلك فهو تطوع، ومع ذلك نجد أُناسًا هم مستطيعون للحج قادرون عليه يعيشون بيننا ولم يؤدوا فريضة الحج، وإذا نُصح أحدهم أجاب بأنه سيحج في المستقبل.
وسبحان الله هل ضمن هذا الإنسان أنه سيعيش عمرًا طويلًا، أما يرى الموت يتخطَّف الناس من حوله، على مختلف أحوالهم، وأعمارهم، صغارًا وكبارًا، وشيبًا وشبابًا، وبعضهم يجعل له أعذارًا وعقبات، وبعضهم يقول: إن ماله يشوبه الحرام ولا يريد أن يحج هذا العام، ويضعون عقبات وعراقيل، هي في حقيقتها أوهام، فليقدر هذا الذي هو قادر على الحج ولم يحج، ليقدر أنه أتاه الموت وهو على تلك الحال، فكيف سيلقى ربه وهو مقصر في أداء ركنٍ من أركان الإسلام، وفريضة من فرائض الدين.
قلوب المؤمنين وتعلقها بالبيت الحرام
عباد الله: إن من حكمة الله : أن ربط قلوب المسلمين ببيت الله الحرام، ارتباطًا طبعيًّا، وتعلقًا شرعيًّا؛ كما قال ربنا سبحانه عن ابراهيم الخليل عليه السلام: ربَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: “لو قال اجعل أفئدة الناس تهوي إليهم، لازدحم عليه فارسٌ، والروم، واليهود، والنصارى، والناس كلهم، ولكن قال، فاجعل أفئدة من الناس، فاختُصّ به المسلمون”.
ويقول ربنا : وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا [البقرة:125]، مثابة للناس أي: محلًّا تشتاق إليه الأرواح، وتحن إليه، ولا تقضي منه وطرًا، ولو ترددت إليه كل عام: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37].
وقد بوأ الله تعالى لإبراهيم الخليل مكان البيت أي: أرشده إليه، وأعلمه به، وأمره ببنائه، وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [الحج:26].
ثم أمره تعالى بعدما اكتمل بناء البيت، بأن ينادي في الناس بالحج: وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج:27] أي: نادِ في الناس داعيًا لهم إلى الحج إلى البيت الذي أُمرت ببنائه، فذُكر أن إبراهيم قال: “يا رب كيف أبلغ الناس؟ وكيف يبلغهم صوتي! فقال الله تعالى: نادِ وعلينا البلاغ، فقام إبراهيم على أكمة مرتفعة، ونادى بأعلى صوته، يا أيها الناس، إن الله قد كتب عليكم الحج فحجوا، فيُقال: أن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع الله من في الأرحام والأصلاب، وأجابه كل شيء سمعه، من حجرٍ ومدرٍ وشجر، ومن كتب الله تعالى له أن يحج إلى يوم القيامة: لبيك اللهم لبيك”.
شهود المنافع الدينية والدنيوية
ثم قال سبحانه: لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج:28]، فبين الله سبحانه في هذه الآية الحكمة من فرضية الحج، وهي شهود المنافع الكثيرة، ولم يحد تلك المنافع لكثرتها ولتفاوت الناس في الحصول عليها، وهي منافع دينية ودنيوية، فمنها مغفرة الذنوب؛ كما قال النبي : من حج فلم يرفث، ولم يفسق، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه [3]، متفق عليه.
وفي الصحيحين أن النبي قال: العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة [4].
استكمال أركان الإسلام
ومنها: استكمال أركان الإسلام، فإن الحج بني على خمسة أركان، ومنها: حج بيت الله الحرام، ومن منافع الحج: إظهار قوة الإسلام، وكثرة المسلمين، ووحدتهم، وتآلفهم، وتعارفهم؛ فإن الله وعد بإظهار هذا الدين على الدين كله: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التوبة:33]، وظهوره على الأديان كلها بالحجة والبرهان، وهذا يظهر جليًّا واضحًا في الحج، ليس هناك دين من الأديان أو ملةٌ من الملل تجمع هذه الجموع العظيمة، من جميع أقطار العالم، تأتي إلى بيت الله الحرام، مختارة، بل مشتاقة، متلهفةً، تأتي بلباس واحد، لغرض واحد، وتدعو بدعاء واحد، تلبي تلبية واحدة، لبيك اللهم لبيك، قد زالت الفوارق بينهم، لا فرق بينهم، ليس هناك دين من الأديان يجمع مثل هذه الجموع العظيمة إلا هذا الدين، ففي هذا ظهور لهذا الدين على جميع الأديان وتحقيق لوعد الله : هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التوبة:33].
تعلم العقيدة وأحكام الدين
ومن منافع الحج: تعلم العقيدة، وتعلم أحكام الدين، فكم من المسلمين من يأتي من أقطار الأرض ومعهم بدع وخرافات، بل ربما بعضهم معهم شركيات، فيقف لهم علماء المسلمين، ويعلمونهم، ويرشدونهم إلى الحق والصواب، ومنها بيان أن المسلمين أمةٌ واحدة، وإزالة الفوارق بينهم، وأنه لا فرق لعربيهم على أعجميهم، ولا لأبيضهم على أسودهم، ولا لغنيهم على فقيرهم، حينما يحرمون بنسك واحد، في لباس واحد، ويتجهون لبيت واحد، ويسيرون وينزلون في المشاعر في وقت واحد.
ومن منافع الحج: تربية النفوس على مكارم الأخلاق، ومن ذلك الحلم والصبر، فإن الحاج قد يناله ما يناله من التعب والمشقة، في سفر الحج، وتنقلاته، ففي الحج تربية له على الصبر والتحمل والحلم، وعلى البذل والإنفاق، فإن الحج عبادةٌ بدنية مالية، كما أن الحج فيه تربية للنفوس على التواضع، والشفقة والرحمة بالضعفاء والمساكين، لا سيما في مواطن الزحام، ومن منافع الحج ما ذكره الله تعالى في قوله: لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ [الحج:28].
وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ إعلان ذكر الله سبحانه عند ذبح الهدي، والتقرب إليه بذلك النفس، والتوسعة على النفس وعلى المسلمين بالأكل من لحمه: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ [الحج:36].
إحياء ملة الخليلين
ومن منافع الحج: إحياء ملة الخليلين، إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام، بإقامة المناسك على هديهما، ومنها: تهذيب الأخلاق بالتزام الأفعال والأقوال، المفيدة والحميدة، وهجر الأفعال والأقوال الذميمة؛ كما قال الله تعالى: فمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197].
زيارة المسجد الحرام
ومن منافع الحج: زيارة المسجد الحرام، والطواف بالبيت العتيق، الذي هو أول بيت وضع للناس، وامتثال أمر الله تعالى في قوله: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29]، والصلاة في المسجد الحرام، الذي الصلاة فيه مضاعفة، وفضلها أكثر من ألف صلاة فيما سواه من المساجد.
تذكر الموقف والحشر يوم القيامة
ومن منافع الحج: تذكر الموقف، والحشر يوم القيامة، عندما يرى الإنسان هذه الجموع العظيمة، وكلٌ مشغول بنفسه، خاصةً في مواطن الزحام، فيتذكر يوم الحشر، ويوم العرض الأكبر على الله حينما يجتمع الناس على صعيد الموقف، ويفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه، وهذه المنفعة أشار إليها ربنا في ختام آيات الحج، في سورة البقرة، في قوله: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [البقرة:203]، فختم الله آيات الحج في سورة البقرة بقوله: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ففي هذا إشارة إلى أن الحاج ينبغي له عندما يرى جموع الحجيج، وعندما يرى انشغال كل حاج بنفسه في مواطن الزحام، أن يتذكر يوم الحشر، ويوم العرض الأكبر على الله .
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه، وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله مشرِّف الأيام بعضها على بعض، ومنقذ القلوب الغافلة بالتذكير والوعظ، منشئ الأيام والشهور، ومضاعف الثواب لمن أطاعه والأجور، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، أحمده تعالى وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة.
فضل عشر ذي الحجة
عباد الله: نستقبل بعد أيام قلائل موسمًا من مواسم التجارة مع الله ، موسمًا فيه تضاعف الحسنات، وتكفَّر الخطايا والسيئات، موسمًا أقسم ربنا به في كتابه الكريم، فقال : وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:1-2]، والمراد بالليالي العشر: عشرُ ذي الحجة، كما روي ذلك عن ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وعن كثير من السلف والخلف، قال ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسيره: “الصواب في المراد بالليالي العشر في هذه الآية أنها عشر ذي الحجة، لإجماع الحجة من أهل التأويل عليه”، وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره: “الصحيح في المراد بالليالي العشر في الآية، أنها عشر ذي الحجة”؛ فجماهير المفسرين على أن المراد بالليالي العشر أنها عشر ذي الحجة.
وإذا كان كذلك فإن هذا يدل على عظمة هذه العشر، وعلى فضلها، وعلى شرفها، فإن الله تعالى العظيم لا يقسم إلا بالعظيم من مخلوقاته، ولذلك فإن هذه الأيام، أيام عشر ذي الحجة، هي أفضل أيام السنة على الإطلاق.
سُئل الإمام ابن تيمية رحمه الله: أيهما أفضل: عشر ذي الحجة أم العشر الأواخر من رمضان؟ فقال: “أيام –أي نهار– عشر ذي الحجة أفضل من أيام العشر الأواخر من رمضان، وليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة، وذلك لأنه ليس من أيام العمل فيهن أحب إلى الله من عشر ذي الحجة، وفيها يوم عرفة، ويوم النحر، ويوم التروية، فنهارها أفضل أيام السنة على الإطلاق، وأما ليالي العشر الأواخر من رمضان ففيها ليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر”.
عباد الله: ومما يدل على فضل هذه العشر، ما جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي قال: ما من أيام العمل فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء [5]، وهذا يدل على فضل العمل الصالح في هذه الأيام العشر المباركة، وهنا أطلق النبي العمل، ولم يخصه بعمل معين، فيشمل كل ما هو عمل صالح.
فاجتهدوا رحمكم الله في هذه الأيام العشر المباركة، اجتهدوا فيها بالأعمال الصالحة، ولتكن حال المسلم بعد دخول العشر خير من حاله قبل دخولها.
خصائص عشر ذي الحجة
عباد الله: وتختص هذه العشر فيمن أراد أن يضحي: أنه لا يجوز أن يأخذ من شعره، ولا من أظفاره شيئًا، من حين دخول العشر؛ لقول النبي : إذا دخلت هذه العشر، وأراد أحدكم أن يضحي، فلا يأخذ من شعره، ولا من أظفاره شيئًا [6]، وهذا الحديث حديث صحيح أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، وظاهر النهي في هذا الحديث أنه يقتضي التحريم، وهذا هو الذي عليه كبار علماء هذه البلاد، وأشير هنا إلا أنه يُتناقل عبر وسائل التواصل الاجتماعي في مثل هذه الأيام، عن آراء إما ضعيفة أو مرجوحة، قد قيل بها، وهذه الآراء تناقُلها بين الناس يسبب إرباكًا للعامة، آراء تذكر أنه يجوز الأخذ من الشعر والأظفار في هذه العشر، لمن أراد أن يضحي، ويوردون شُبهًا عن الحكم المقرر والمستقر عند الناس في ذلك.
فأقول: إن الحديث الوارد في ذلك، حديث صحيح، أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، والأصل في النهي أنه يقتضي التحريم، وينبغي عدم تداول هذه المقاطع، وهذه الرسائل، ينبغي عدم تداولها عبر وسائل التواصل الاجتماعي؛ لأنها تسبب إرباكًا، وتسبب تشويشًا.
وهذا الحكم -وهو أعني تحريم الأخذ من الشعر والأظفار- هو المستقر لدى الناس في هذه البلاد، والحديث الوارد فيه حديث صحيح أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، والنهي فيه ظاهر، فإن النبي قال: فلا يأخذ من شعره، ولا من أظفاره شيئًا، فينبغي عدم إيراد آراءٍ وأقوال تشكك في هذا الأمر المستقر لدى الناس؛ لأن هذا من شأنه أنه يسبب إرباكًا للناس.
الأعمال المستحبة في العشر من ذي الحجة
عباد الله: وبدخول عشر ذي الحجة، يبدأ وقت التكبير المطلق، ويستمر إلى غروب شمس آخر أيام التشريق، ومعنى التكبير المطلق: أي غير المقيد بأدبار الصلوات.
فيستحب من حين دخول عشر ذي الحجة: أن يكثر المسلم من التكبير، وأن يقول: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، وإن ثلَّث التكبير فقال: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، فحسنٌ.
وأما التكبير المقيد فيبدأ لغير الحاج، من بعد صلاة الفجر من يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق، وأما بالنسبة للحاج فمن ظهر يوم النحر إلى عصر آخر أيام التشريق.
ألا وأكثروا من الصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير، فقد أمركم الله بذلك، فقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا. [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، اللهم ارض عن صحابته أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك، يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أذل الكفر والكافرين.
اللهم انصر من نصر دين الإسلام في كل مكان، اللهم اخذل من خذل دين الإسلام في كل مكان، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم سلِّم الحجاج والمعتمرين، اللهم يسر لهم أداء نسكهم بيسرٍ وسهولة، اللهم من أراد بحجاج بيتك الحرام سواءً، اللهم فأشغله في نفسه، اللهم اجعل تدبيره تدميرًا عليه، يا قوي يا عزيز، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.
اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم إنا نعوذ بك من مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن.
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لتحكيم شرعك، واجعلهم رحمة لرعاياهم، ووفق إمامنا وولي أمرنا لما تحب وترضى، وقرب منه البطانة الصالحة الناصحة التي تعينه إذا ذكر، وتذكره إذا نسي، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذي سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلًّا للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم.