عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، مالك يوم الدين، جامع الناس ليومٍ لا ريب فيه، إن الله لا يخلف الميعاد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام المتقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[الأحزاب: 70، 71].
عباد الله:
نقف في هذه الخطبة وقفاتٍ يسيرةً مع سورةٍ عظيمةٍ من كتاب ربنا نقرأها كثيرًا ونحفظها، ولكن قلَّ من يقف عند معانيها العظيمة متأملًا ومتدبرًا.
المراد بالقارعة
إنها سورة القارعة، هذه السورة العظيمة التي تضمنت معانيَ عظيمةً وكبيرةً، يقول فيها ربنا : الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ[القارعة: 1، 2].
والْقَارِعَةُ: اسم فاعلٍ من (قَرَعَ)، والمراد التي تقرع القلوب وتُفزعها، وذلك عند النفخ في الصور؛ كما قال الله تعالى: وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ[النمل: 87]. فهي تَقرع القلوب بعد قرع الأسماع.
هذه القارعة، قارعةٌ عظيمةٌ لا نظير لها قبل ذلك، وهي من أسماء يوم القيامة، ويوم القيامة له عدة أسماءٍ؛ فيسمى بالغاشية وبالحاقة وبأسماءٍ كثيرةٍ، ذكر ربنا في كتابه الكريم جملةً منها.
الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ[القارعة: 1، 2]، مَا استفهامٌ بمعنى التعظيم والتفخيم؛ أي: ما هذه القارعة التي ينوّه عنها؟ ثم قال : وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ[القارعة: 3]، وهذا زيادةٌ في التفخيم والتعظيم والتهويل؛ أي: أيُّ شيءٍ أعلَمَك عن هذه القارعة؟ ما أعظمها! وما أشدها!
هول القارعة وشدتها
ثم بيَّن متى تكون، قال: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ[القارعة: 4]. أي إنها تكون في ذلك الوقت يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ[القارعة: 4] حين يخرجون من قبورهم.
قال العلماء: “يكونون كالفراش المبثوث، والفراش هو هذه الطيور الصغيرة التي تتزاحم عند وجود النار في الليل، وهي ضعيفةٌ، وتكاد تمشي بدون هدًى، وتتراكم، وربما لطيشها تقع في النار وهي لا تدري، فهذه الجموع الغفيرة تشبه الفراش في ضعفه وحيرته وتراكمه، وسيره إلى غير هدًى”.
وقوله: الْمَبْثُوثِ[القارعة: 4] أي المنتشر، فهو كقول الله تعالى: يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ[القمر: 7] أي من القبور كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ[القمر: 7].
لو تصورت هذا المشهد العظيم، حين يخرج الناس من قبورهم بهذه الصفة؛ لوجدت أنه مشهدٌ عظيمٌ جدًّا لا نظير له، هذا العالم منذ أن خلق الله آدم إلى قيام الساعة، بنو آدم أعدادٌ كثيرةٌ جدًّا، إذا كان عدد سكان الأرض الأحياء الآن، أكثر من سبعة مليارات، فكيف بأعدادهم منذ أن خلق الله آدم إلى قيام الساعة؟ خلائق عظيمةٌ، ومع ذلك يخرجون خروج رجلٍ واحدٍ في وقتٍ واحدٍ، يخرجون من هذه القبور المبعثرة في مشارق الأرض ومغاربها، يخرجون منها، كل هؤلاء الأمم العظيمة يخرجون مرةً واحدةً كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ[القارعة: 4] يصولون ويجولون في هذه الأرض، ومع ذلك ليس فقط هم بنو آدم، بل ومعهم الجن، ومعهم الطير، ومعهم الوحوش، وتُنزّل الملائكة تنزيلًا، كل هذه الخلائق تكون على وجه هذه الأرض، تُحشَر على هذه الأرض التي تُمَد مدًّا؛ أي بدل أن كانت كرويةً، تصبح ممدودةً؛ كما قال الله تعالى: وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ[الانشقاق: 3، 4].
في هذا المشهد العظيم تصبح هذه الخلائق: كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ[القارعة: 4] كالفراش المنتشر المتفرق، يا له من مشهد عظيمٍ يقرع القلوب!
وأما الجبال، وهي تلك الجبال العظيمة الراسية الصلبة، فتكون كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ [القارعة: 5]، والِعهْن هو: الصوف، والْمَنفُوشِ أي: الـمُبعثر.
هذه الجبال بعد أن كانت صلبةً قويةً راسخةً تكون مثل العهن، تكون مثل الصوف المبعثر، سواءٌ نفشته بيدك أو بالمِنداف، فإنه يكون خفيفًا يتطاير مع أدنى ريحٍ، وقد قال الله تعالى في آياتٍ أخرى عن الجبال: وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا[الواقعة: 5، 6]، وقال هنا: وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ[القارعة: 5].
وإذا كانت الجبال تصير من قرعة يوم القيامة كالصوف المنفوش، فكيف بحال الإنسان عند سماعها؟!
عناية القرآن بذكر يوم القيامة
عباد الله: إن هذا اليوم العظيم، يوم القيامة قد عُني القرآن الكريم بذكره كثيرًا، وتكررت أوصافه، هذا اليوم هو اليوم الذي نحن صائرون إليه لا محالة: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ[الواقعة: 49، 50].
قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ[الجاثية: 26]، ذلك اليوم الذي مقداره خمسون ألف سنةٍ، يكون فيه من الأهوال شيءٌ عظيمٌ جدًّا تشيب منها الولدان: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا[المزمل: 17].
ويقول في بيانِ عظيمِ أهوالِ ذلك اليوم: يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ[الحج: 1، 2].
زلزلة الساعة شيءٌ عظيمٌ، وخطبٌ جليلٌ، وطارقٌ مفزعٌ، وحادثٌ هائلٌ، وكائنٌ عجيبٌ، ترى الناس في ذلك الموقف سكارى؛ أي لشدة الأمر الذي صاروا فيه، قد دُهِشَت عقولهم، وغابت أذهانهم، فمن رآهم حسب أنهم سكارى، ولكنهم في حقيقة الأمر ليسوا بسكارى، ولكن عذاب الله شديدٌ، يرى الإنسان أحب الناس إليه في الدنيا، يرى أمه وأباه، وأخته وأخاه، يرى زوجته وأولاده، ومع ذلك يفر منهم فرارًا: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ[عبس: 34-36] لماذا؟ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ[عبس: 37].
يُحْشَر النَّاس حُفَاة عُرَاةً، تقول أم المؤمنين عائشة رَضِيَ الله عَنْها: قُلْت: يَا رَسُول الله الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَنْظُر بَعْضَهُم إِلَى بَعْضٍ؟! قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: يَا عَائِشَةُ، الأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُهِمَّهم ذَلِك [1].
أمرٌ عظيمٌ مفزعٌ لدرجة أن الإنسان يرى والديه، يرى أمه وأباه، وأولاده وزوجته، وإخوانه وأخواته، ويفر منهم فرارًا، فيا له من أمرٍ مفزعٍ عظيمٍ!
أقسام الناس يوم القيامة
ثم قال ربنا في هذه السورة العظيمة: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ[القارعة: 6-11]، فقسم الله تعالى الناس إلى قسمين:
القسم الأول: مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ، وهو الذي رجحت حسناته على سيئاته.
والقسم الثاني: مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ وهو الذي رجحت سيئاته على حسناته، أو ليس له حسناتٌ أصلًا، كالكافر.
فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ[القارعة: 6، 7]، “العيشة”: مأخوذة من العيش وهو الحياة؛ أي إنه في حياةٍ طيبةٍ راضيةٍ، وقوله: رَاضِيَةٍ، أي: عيشةٍ طيبةٍ ليس فيها نكدٌ ولا صخبٌ ولا نصبٌ، والمراد به: نعيم الجنة، أنها كاملة النعيم من كل وجهٍ.
هذا العيش في الجنة: لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ[الحجر: 48] لا يحزنون فيها ولا يخافون، في أنعم عيشٍ، وأطيب بالٍ وأسر حالٍ، فهي عيشةٌ راضيةٌ، لا خوفٌ فيها، ولا مرضٌ ولا هرمٌ، ولا حزنٌ ولا تعبٌ ولا موتٌ، ملذاتها كاملةٌ، فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[الزخرف: 71]، هؤلاء هم الذين رجحت كفة حسناتهم على سيئاتهم.
وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ [القارعة: 8]، وهو إما أنه الكافر الذي ليس له أي حسنةٍ؛ لأن حسنات الكافر يجازى بها في الدنيا، ولا تنفعه في الآخرة؛ كما قال سبحانه: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا[الفرقان: 23]، أو أنه مسلمٌ لكنه مسرفٌ على نفسه، فسيئاته أكثر من حسناته.
فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ[القارعة: 9] الأم معناها: المأوى، أي: مأواه الهاوية، والهاوية من أسماء النار؛ أي: أن مآله إلى النار، وقيل: إن المراد بالأم هنا: أم الدماغ، أي: أنه يلقى في النار على أم رأسه.
وإذا كانت الآية تحتمل معنيين لا تنافي بينهما، فتُحمل الآية على المعنيين جميعًا؛ كما قال أهل التفسير، فيقال: “يُرمى في النار على أم رأسه، وليس له مأوًى ومقصدٌ إلا النار” [2].
وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ [القارعة:10]، هذا من باب التفخيم والتعظيم لهذه الهاوية، أتدري ما هي هذه الهاوية التي يهوي فيها؟! إنها شيءٌ عظيمٌ، إنها نَارٌ حَامِيَةٌ [القارعة:11]، في غاية ما تكون من الحرارة، يقول النبي : إِنَّهَا فُضِّلَت عَلَيْهَا -على نار الدنيا- بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا [3].
تأمل، نار الدنيا -على شدة حرها- فإن نار جهنم قد فُضِّلت وضُعِّفَت عليها تسعًا وستين مرةً، فهي أحرُّ من نار الدنيا تسعًا وستين مرةً، هل يستطيع أحدٌ من البشر أن يضع يده على نار الدنيا دقيقةً واحدةً؟ فكيف بهذه النار التي ضُعِّفت على نار الدنيا تسعًا وستين مرةً؟!
أحوال الناس يوم القيامة
وفي هذه الآية: التخويف والتحذير من هذا اليوم، وأن الناس لا يخرجون عن حالين:
- إما أن ترجح حسناته على سيئاته.
- أو ترجح سيئاته على حسناته.
فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ [القارعة:6]، فمآله للجنة؛ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ [القارعة:7]، وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ [القارعة:8]، أي: رجحت سيئاته على حسناته، فمآله إلى النار، فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ [القارعة:9-11].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمدٍ ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعةٌ.
دار العدالة المطلقة
عباد الله:
إن الدار الآخرة هي دار العدالة المطلقة؛ كما قال الله تعالى: لا ظُلْمَ الْيَوْمَ [غافر:17]، وأما الدنيا فليست بدار عدالةٍ، الدنيا فيها ظالمٌ ومظلومٌ، ولكن الدار الآخرة لا ظلم فيها، فهي دار العدالة المطلقة.
وقد بيَّن لنا ربنا كيف يحاسب الإنسان على أعماله في الدنيا؛ فذكر سبحانه هذا الميزان العظيم الذي توزن فيه أعمال كل إنسانٍ، وتقسم أعمال الإنسان إلى قسمين: حسناتٍ وسيئاتٍ، فإذا رجحت كفة الحسنات كان مآله إلى الجنة، وإذا رجحت كفة السيئات كان مآله إلى النار، إلا أن يعفو الله عنه، فكل إنسان له هذان الرصيدان، رصيد حسناتٍ، ورصيد سيئاتٍ، وعلى مقدارهما يكون مصيره يوم القيامة؛ إما إلى الجنة وإما إلى النار.
وهذا الميزان في منتهى الدقة ومنتهى العدالة، هل هناك شيءٌ أعدل من هذا؟ فيؤتى بأعمال الإنسان جميعًا، أعمال الإنسان التي عملها في الدنيا، وتوضع في هذا الميزان، ثم تكون النتيجة إما أن ترجح كفة الحسنات، وإما أن ترجح كفة السيئات.
يبيِّن ربنا دقة هذا الميزان؛ فيقول سبحانه: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ[الأنبياء: 47]، ويقول سبحانه: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه[الزلزلة: 7، 8].
فسبحان الله! انظر إلى الدقة العظيمة في محاسبة الإنسان يوم القيامة، حتى مثقال الذرة من الخردل يؤتى بها، فليستحضر المسلم هذه الحقيقة، فإنه على مقدار هذين الرصيدين: رصيد الحسنات ورصيد السيئات، تكون قيمتك وكرامتك عند الله ، ويكون مصيرك يوم القيامة.
رصيد الحسنات والسيئات
فاحرص كل يومٍ على أن تجعل لك هدفًا، وهو أن تزيد رصيد الحسنات، وتنقص من رصيد السيئات.
كل يومٍ تصبح فيه، اجعل لك هذا الهدف العظيم، قل: هذا اليوم لا بد أن أزيد فيه من رصيد حسناتي، وأُنْقِص فيه من رصيد سيئاتي، وذلك بأن أعمل أعمالًا صالحةً، بأن أحافظ أولًا على أعمال الفرائض، ثم استكثر من النوافل.
عندما تصلي الصلاة المفروضة قل: أصلي بعدها السنة الراتبة ركعتين إن كان بعدها سنةٌ راتبةٌ، هذه السنة، استحضر أنك تجعلها في هذا الرصيد، في رصيد الحسنات، رأيتَ فقيرًا أو مسكينًا تصدق عليه، استحضر أنك تجعله في هذا الرصيد، تَذْكُر الله تسبح الله وتحمده وتكبره وتهلل، تستحضر أن ذلك تجعله في هذا الرصيد، تقرأ القرآن، تستحضر أنك تنال بهذا أجرًا تضعه في هذا الرصيد، مَنْ قَرَأَ حرَفًا فَلَهُ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْر أَمْثَالِهَا [4].
وفي المقابل: تستحضر أن كل سيئةٍ توضع في رصيد السيئات، فمثلًا: حلق اللحية معصيةٌ تتكرر، فليستحضر الذي يفعل ذلك بأن هذه المعصية تكون في رصيد السيئات، هكذا النظر المحرم، والاستماع المحرم، وسائر المعاصي القولية والفعلية، يستحضر الإنسان بأنها تكون في رصيد السيئات.
فهذان الرصيدان على مقدارهما تكون قيمتك وكرامتك عند الله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ[الحجرات: 13]، ويكون مصيرك يوم القيامة، فاحرص على أن ترفع من مستوى رصيد الحسنات، وأن تقلل من رصيد السيئات، وليتدارك الإنسان ما تبقى من العمر، فإنه ربما يكون المتبقي قليلًا، وهو لا يشعر، فلنتدارك ما تبقى من أعمارنا بزيادة رصيد الحسنات، والنقص من رصيد السيئات.
استشعار وزن الأعمال يوم القيامة
هذه الحقيقة التي تكررت في القرآن الكريم كثيرًا، وهي أن أعمال الإنسان توزن؛ فإما أن ترجح كفة حسناته فيكون من أهل الجنة، وإما أن ترجح كفة سيئاته فيكون من أهل النار، إلا أن يعفو الله عنه.
هذه الحقيقة ينبغي ألا تغيب عن ذهن كل مسلمٍ؛ لأنه بغيابها يضعف الإيمان، ويضعف الإقبال على الطاعة، ويغفل الإنسان ويُلهى بأمور الدنيا، ولكن عندما يستحضر هذه الحقيقة، يحرص كل يومٍ على أن يزيد من رصيد الحسنات، ويحرص كل يومٍ على أن يقلل من رصيد السيئات؛ لأنه على مقدار هذين الرصيدين يكون مصيره يوم القيامة.
ولا يستقل الإنسان القليل من العمل، فإن القليلَ مع القليلِ يكون كثيرًا.
على سبيل المثال: أرأيت الهاتف مثلًا، عندما يكون مقدار الفاتورة خمسمائة ريالٍ أو أقل أو أكثر، كيف كانت هذه الفاتورة؟ تجد أنها قد جُمِّعت من مكالمات، هذه المكالمة بريالٍ واحدٍ، وهذه بنصف ريالٍ، وهذه بِهَلَلَاتٍ، وهذه بريالٍ ونصفٍ، ثم تُجمع فتعطي النتيجة العامة.
وهكذا أيضًا بالنسبة لاختبار الطالب، عندما يختبر ويأتي أستاذه ويصحح ورقته، فإنه يجمع الإجابات الصحيحة، والإجابات غير الصحيحة، ثم بعد ذلك تكون النتيجة، إما ناجحٌ وإما راسبٌ، إن كانت الإجابات الصحيحة هي الأكثر، ووصلت الحد الأدنى للنجاح كان ناجحًا، وإلا كان راسبًا.
هكذا أيضًا يكون مصير الإنسان يوم القيامة؛ تُجمَع أعماله، فتوضع الحسنات في كفةٍ والسيئات في كفةٍ، فإن رجحت حسناته كان من أهل الجنة، وإن رجحت سيئاته كان من أهل النار، إلا أن يعفو الله عنه، وهذه هي النتيجة العامة.
الجزاء على قدر العمل
ثم يأتي بعد ذلك نتيجةٌ تفصيليةٌ؛ هؤلاء الذين رجحت حسناتهم، يُنظر بعد ذلك لمقدار هذا الرجحان ومستواه، وتكون درجة الإنسان في الجنة بحسب رصيد حسناته.
والجنة فيها درجاتٌ كثيرةٌ، وما بينَ كلِّ درجتينِ كما بينَ السَّماءِ والأرضِ [5].
كذلك أيضًا، عذاب النار على دركات، فعلى مقدار ذنوبه ومعاصيه، يكون مصير الإنسان في النار، والله تعالى قال عن المنافقين: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ[النساء: 145].
فيرى الإنسان بعد مماته أن كل شيءٍ مرتبٌ على ما عمل في هذه الدنيا، فيعلم حينئذٍ عظيم شأن العمل، ويندم ندمًا عظيمًا، ويقول متحسرًا: يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي[الفجر: 24]؛ لأن الحياة الحقيقية ليست في هذه الدنيا، وإنما الحياة الحقيقية هي الحياة في الدار الآخرة؛ ولذلك يقول: يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي[الفجر: 24]، ولا ينفع الندم، ولا التمني حينئذٍ، فالله تعالى أنذر وأعذر، وأعطاك أنت أيها الإنسان الفرصة للعمل، وحياتك فرصةٌ واحدةٌ غير قابلةٍ للتعويض، فإن نجحت في هذا الاختبار العظيم سعدت السعادة الأبدية، وإن فشلت في هذا الاختبار العظيم خسرت كل شيءٍ، مهما حققت من نجاحاتٍ في الدنيا.
ألا وأكثروا من الصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير؛ فقد أمركم الله بذلك فقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمدٍ، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أذل الكفر والكافرين، اللهم أبرم لأمة الإسلام أمرًا رشَدًا، يُعز فيه أهل طاعتك، ويُهْدى فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف ويُنهى فيه عن المنكر، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.
اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكانٍ يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خيرٍ، واجعل الموت راحةً لنا من كل شرٍّ.
نعوذ بك اللهم من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك وجميع سخطك.
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لتحكيم شرعك، واجعلهم رحمةً لرعاياهم، ووفق إمامنا وولي أمرنا لما تحب وترضى، وقرِّب منه البطانة الصالحة الناصحة التي تدله على الخير وتعينه عليه، تُذكره إذا نسي، وتُعينه إذا ذكر، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[الحشر: 10].